في ظل المتغيرات العديدة التي يشهدها حقل التدين الإسلامي، خاصة في العقود الأخيرة على مستوى الإنتاج الفكري والعقدي وتعدد مظاهر الممارسة الدينية، وكذلك نظرا للتقاطبات التي تحاول بعض التيارات المذهبية فرضها في إطار صراع التمدد والاستقطاب في فضاءات وجغرافيا التدين الإسلامي وما تحدثه من إشكالات كبرى قد تتحول في أحيان كثيرة من مجرد تجاذب فكري إلى صراع حقيقي وحروب طائفية ومذهبية، تحت تأثير الإيديولوجيات السياسية والانتماءات الضيقة والتشنج الفكري وعدم قبول الانفتاح على الآخر وتغليب منطق التصارع، الذي يؤدي إلى الفرقة والتشتت والتعصب الفارغ، بدل تغليب منطق الحوار والمخالقة والتراحم والتواد، الذي به يكتمل بنيان الأمة ويستقيم صرحها. لذلك فإن إنتاج البدائل وإطلاق المشاريع الخلاقة الكفيلة بنشر قيم التسامح والوسطية والاعتدال والتواصل البناء مع جميع الفاعلين في الحقل الديني، على اختلاف انتماءاتهم العقدية والمذهبية من أجل النهوض بآمال الأمة الإسلامية نحو التقدم والازدهار والتنمية وتسييد قيم الحرية والعدالة والمساواة ومأسستها، انطلاقا من مرجعيتنا الدينية الربانية والسنة النبوية الشريفة وسيرة الصلحاء والعلماء الربانيين من السلف يعد من الأولويات اليوم، لكي نستطيع تجاوز مأزق الممارسات الدينية المنحرفة والمتطرفة والقراءات التقليدية للتراث الإسلامي وتمثلاتها في المشهدين الديني والسياسي المعاصر، خاصة بعد الإفرازات الخطيرة التي ظهرت بعيد حراك الربيع العربي في عدد من الدول التي انتفضت فيها الجماهير العربية على الاستبداد والتحكم والقمع، كما هو الحال بتونس ومصر وليبيا. لهذا، فإن الحاجة تبدو أكثر من أي وقت مضى أكثر إلحاحا في إيجاد أرضية مشتركة تتجاوز الجزئيات المذهبية والخلافات العقدية والكلامية، وتستند على المقوم الروحي الجامع والعمق الروحي والأخلاقي في ديننا الحنيف، الذي يسمو بالممارسة الدينية وينقل الحقل الديني الإسلامي من واقع الاشتباك العقدي والفكري الذي يعيشه حاليا إلى طبيعته الأصيلة كمجال شاسع للتواصل والتلاقي والتراحم والتآخي والانفتاح على الآخر وسيادة أخلاق النبوة، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، حيث كان صلى الله عليه وسلم يحض على مخالقة الناس بالأخلاق الحسنة المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لأنها الأساس في إسلام المرء وعماد عمل المسلم في تواصله مع الخلق، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»، وهذا ما نجد المتصوفة الأوائل قد جدوا وجهدوا في التمسك والعمل به كما كان الإمام الجنيد رضي الله عنه وأئمة التصوف السني كالإمام أبو بكر الكتاني، الذي يقول: «إنما التصوف خلق فمن زاد عليك بالخلق فقد زاد عليك بالتصوف». واستناد التصوف السني على هذه المرجعية الأخلاقية النبوية السامية في تصور العلاقة مع المحيط الاجتماعي والتواصل مع الآخر، يجعله مؤهلا، كحقل من حقول المعرفة الإسلامية ومجالا للممارسة الدينية الوسطية والمعتدلة، ليكون أرضية خصبة لإعادة إنتاج قيم التسامح والوسطية ومد جسور التواصل مع الآخر في إطار الاحترام المتبادل وتقديم القراءات الفكرية المتزنة لمفاهيم الحداثة وحقوق الإنسان والحرية الفردية والجماعية، انطلاقا من المقاصد الشرعية في فهم الكليات الدينية الخمس. لذلك، فإن سعي عدد من الشباب المغربي لتأسيس رابطة للشباب الصوفي، تبقى في نظري مبادرة خلاقة تحتاج إلى كثير من الدعم والمساندة، بدل التشكيك في النوايا والدواعي، خاصة إن كانت ترفع شعار الاستقلالية عن الطرق الصوفية وتقاطباتها ونزوعات مشيخاتها في الهيمنة على التصوف والاستئثار به وترسيم خطوطه وخنقه في إطار دوائر مركزية لها أهدافها ومشاريعها الخاصة. إن الدعوة التي أطلقها عدد من الشباب المغربي منذ ما يناهز السنة لحد الآن، لتأسيس إطار مدني يضم شبابا يتبنى المرجعية الصوفية ويتمسك بالثوابت الدينية للمملكة المغربية من أجل القيام بعمل نوعي ومستقل في إشاعة قيم التسامح والتآخي والمخالقة بين جميع مكونات الأمة المغربية، انطلاقا من الأخلاق النبوية الشريفة والتربية الصوفية السنية الملتزمة بأحكام الكتاب والسنة ومواجهة الدعوات الهدامة والدخيلة والمتزمة، التي تمس بقيم التعايش المشترك وتهدد السلم الاجتماعي والأمن الروحي، تبدو من خلال أهداف الداعين لها مبادرة جديرة بالاهتمام والتشجيع، وذلك لتجاوز الحواجز التي أقامتها الانتماءات الطرقية منذ عهود خلت أولا داخل حقل التصوف الإسلامي والمغربي، على الخصوص، ومد جسور التواصل والتواد والحوار الثقافي البناء، ثانيا، مع جل مكونات العمل الإسلامي والمدني والاجتماعي، مادام قد اختار الداعون لها إطارا مدنيا متوائما مع متطلبات العصرنة للتعبير عن أفكارهم وانشغالاتهم ومشاريعهم، وكذا أن يكون محضنا للمقترحات والأفكار والإنتاجات الفكرية والبحثية الشبابية لتطوير النقاش داخل حقل التصوف والفكر الإسلامي في الداخل والخارج. في الحوار الذي أدلى به الأستاذ محمد الخطابي، المنسق العام لمبادرة الرابطة المغربية للشباب الصوفي، وانفرد بنشره موقع إسلام مغربي، منذ ما يقارب السنة، أبدى كثيرا من النقاط ذات الأهمية البالغة في فهم مقتضى الدعوة لتأسيس الرابطة ومشروعية وجودها، بالرغم من الصعوبات العملية والواقعية التي تنتظرها في حقل العمل المدني المغربي، وكيفية الحفاظ على استقلالها وتحقيق أهدافها في التخليق والانفتاح والحوار البناء. لذلك نرجو أن تخرج هذه المبادرة للوجود حتى تكون سابقة من نوعها في هذا المجال ولبنة أولى من أجل مأسسة الحقل الصوفي وهيكلته بما يتلاءم مع روح العصر ومتطلبات التجديد الفكري والتنظيمي.