هكذا قيل.. وهذا ما ورثناه عن آبائنا الذين ورثوه بدورهم عن فقهاء رفعوا هذا الحديث العجيب إلى الرسول الكريم. لكن، ما ينبغي أن نحسم فيه –منذ البدء- أن أحد مداخل العدالة الاجتماعية، والحرية، والديمقراطية، والانخراط في العصر، هو الإقرار المبدئي، الحق، النهائي بالمساواة الجنسانية بين الذكر والأنثى، والاعتراف الكلي الصادق، النابع من العقل والقلب والضمير، بكينونة المرأة الكاملة المستقلة، الكفؤة، المقتدرة، ذات الرحابة والطاقة والتفكير، بتمكينها من ذاتها، أي بتركها لنفسها حرة، غير مجبرة، ولا شاعرة بامتنان أو بصدقة، أو دفاع كاذب، وتنفج مضحك، وادعاء باطل، من رجل هو نفسه في أمس الحاجة إلى توازن وعقل، وشخصية قوية، وطبع صاف، وحسم واع. الإقرار بالمساواة ما دامت صروف الحياة، ونواتج المنجز البشري النسائي أعطى العطاء الثر في مختلف الميادين والمجالات، وعلى أكثر الصُّعُدِ، والمستويات. فمساواتها –لا مناصفتها- مع الرجل، ينبغي أن تعتبر بديهة نابعة من منطق الأشياء التي تقوم على الاختلاف الغني البديع التكاملي في البدء والمنتهى. لاَ مَنَّا، ولا عطاء، ولا تطاولا من قِبَلِ أيٍّ كان، ولو كان مؤسسة دينية، وذلك مربط الفرس. بديهة أقول، وتحصيلا، وإعلاء لها.. لشخصها، لكرامتها، لجنسها ونوعها بوصفها أسا، وركنا ركينا، ومنبعا، وشرطا لا تقوم الكينونة والوجود العام الإنساني من دونه. لم تحقق المرأة عنفوانها الكينوني، ولا إحساسها المشبع بالوجود والحياة من حيث هي قسيم للرجل، ولا إنسانيتها على رغم كونها كذلك، منذ البعيد، منذ تواريخ تنحدر إلى عجين البدايات النشوئية، وليل الحضارات. أحقاب متوالية، مُدَدٌ زمنية متتالية، وعصور متواترة مرت عليها وهي حجر مَلْموُمٌ، وصمت مطبق، أثاث وديكور، وزينة، سلعة وبضاعة ورقيق وقينات، وحريم. لهذا الحيف، وهذا الظلم تاريخ مديد وعنيد. فهي تالية وثانية ومكملة. فكأن الرجل منذ أدرك قوته الفيزيقية، وعضلاته المفتولة، وجبروته الجسمي، استصغر الأنثى القسيم، معتبرا رقتها، وضعفها البيولوجي، ونعومتها الفسيولوجية، نقصانا يتوجب حمايته، والتنكيل به إذا طاول الجبل، واستباحته في كل الأحوال، متى شاء الذَّكَرُ، وأنى اتفق له ذلك. ثمة ما عزز هذا النظر إلى المرأة، ليس أقله أنوثتها وحنانها، وتسامحها، والتنازل عن حقوقها المبدئية في التفكير والتعبير، والصدع بالرأي المخالف، في سياقات تاريخية، ومضامير اجتماعية، سادتها الخرافة والعرف البالي، والعادة المذمومة، والتقليد الظالم الذي صير به إلى القيد القانوني، بل الإلهي في فترات تاريخية مختلفة. فجسدها الذي أودع الخالق فيه الجمال، وأنشأه إنشاء فاتنا، كسر النفوس الضعيفة للرجال، فأودعوه القوالب، والمشانق والأقفاص، خوفا من فتنة جارفة لا تُبْقِي ولا تذر، ومن شهوة جامحة تعمي البصائر قبل الأبصار. ما يفضي إلى فهم استعمالها في المعابد الوثنية، بَغْيًا مقدسة يتناوب عليها الرجال، وفي الأساطير أفعى وَحَيَّةٌ رقطاء، وغَوَاية ما بعدها غواية، تصفر «السيرينات» في ظلام البحار، فيرمي صفيرهن الساحر العذب شباكه المحكمات على البحارة الأشداء، الرجال الزعماء، والربابنة المهولين، والقراصنة الأشراس. كما أن الخطيئة الأزلية اعتبرت أنثى، والمتسبب فيها حواء التي أغرت آدم بالقطف.. ولم تكن تلك الشجرة الأسطورية سوى شجرة المعرفة في القراءة التأويلية للأسطورة والدين. ومع أن القرآن الحكيم لم يُسَمِّ مَنْ تَسَبَّبَ في السقوط أهو آدم أم حواء، فإن جوقة الفقهاء منذ القديم، أعلنوها واضحة فاضحة: إنها المرأة.. سليلة حواء من وسوس لها الشيطان، فأوقعها في أحابيله، ما دعاها لإقناع آدم بالقطف، أي بانتهاك الناموس، والسقوط المُدَوِّي إلى الأرض. علما أن القرآن يُحَمِّلُ آدم جريرة الفعلة، أو ما سمي بالخطيئة، إذ يقول: «فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما». وَسْمُ المرأة بالغاوية، وَرَمْيُها بأشْنع النعوت من بَغْي وعاهرة، ومتهتكة، وباغية، وداعرة، وفاجرة وغيرها، جاء من المنظور أعلاه، من الخطيئة الأولى باعتبار مصدرها امرأة. وسنفتح قوسا لنقول إن أغلب الميثولوجيات، والأديان التوحيدية الكبرى، والديانات الوضعية، تقاطعت حول تمجيد الحب الحسي، ورفعت المرأة إلى الذروة من مدخل جسدها، لا روحها وفكرها وثقافتها. ففي طقوس الحب السومرية، شعر ملتهب ومكشوف، يذهب من غير مداورة، إلى الجسد. وفي البرديات المصرية على أيام العَرَامِسَة، صفحات من الحب الحسي، يتواثب فيها الخمر والجنس. وفي المعتقد البابلي والكنعاني، تأليه للمرأة، وعبادة لجسدها، وتطقيس له على وجه الإجمال. وَتُمدُّنَا حفريات العصر الحجري بالتصور الديني لأهله، ففي العديد من المدن، وجدت تماثيل من الحجر أو العظام لنساء يلفت النظر إليها شيئان: إن الأعضاء الأنثوية قد بولغ في تضخيمها، وأن الوجه لا يحمل أي ملامح. وتسمى هذه التماثيل: فينوسات «لوسييل». أغلق القوس لأعود إلى القول بأن المرأة تماهت مع جسدها، وأن الرجل من منطلق خوفه من هذا الجسد الذي فتنه، مكر به واحتال في الحِجْر على صاحبته. فهي –كما أسلفت- مَرَّةً ديكورا مؤثثا، ومَرَّةً قَيْنَةً وجارية.. وكتيبة من النساء سُمًينَ بالحريم ليتمتع بهن أولو الجاه، والعزم والشدة والسلطان. ولأنها تَفْتِنُ كان يُلْقى بها في النيل لتخصيب الأرض. هكذا- في كامل زينتها وبهجتها، وَسَقْسَقَة الحلي يتقدمها، تنزل غصبا إلى الماء ليتلقفها تمساح متضور. ولأن جسدها عورة، وصوتها عورة، وشعرها عورة، كانت تُودَعُ في الهوادج عربيا، وفي القصور المنشآت كالأعلام فارسيا وهنديا. وفي العقيدة الهندوسية، تُحْرَقُ في احتفالية رائعة، إذا مات عنها زوجها، تأكيدا للوفاء العظيم، ودرءا للذئاب الناهشة بعده. وعندنا في الديار الإسلامية منذ تاريخ طويل – تُرْغَمُ، أوْ تَتَطَوَّعُ بوضع الحجاب مخافة الفتنة والإفتتان. «مع أن الحجاب حُمِّلَ معياريا بعدد من الوظائف التي لم تخضع للتمحيص، كالحشمة، والحماية من التحرش الجنسي، وتوكيد الهوية الثقافية». لم يلتفت العلماء والفقهاء المسلمون، على غرار بعض اللاهوتيين الأرثوذوكسيين، في الشرق والغرب، إلى ما به قوام الوجود الإنساني، الذي ينبني على الشراكة، والإشراك، والقسمة والتقاسم، من خلال المرأة والرجل سويا في تناغم واندغام وتساكن وَتَحَابٍّ، وتَمَاهٍ حتى كأنهما واحد، وَجْهٌ وَقَفَا، روح وجسد، دم وخلايا، تشابك أعصاب وعواطف وأحاسيس وانفعالات. لا مجال للفصل، ولا مكان للأحد المستبد، الغالب، الطاغي، والمعبود. لقد خيض في المرأة بوصفها عورة، ودنسا، وخطيئة، بينما يتهافت الرجال عليها ذلا، وتضرعا، وخنوعا، وزلفى. ولنا في التاريخ البعيد والقريب، وعند مختلف الأمم والشعوب، ما يدل على ذلك. ولسائل أن يسأل: وماذا يفعل الحديث «النبوي» الذي عَنْوَنَّا به المقالة؟ وكيف يستقيم الدفاع البديهي عن المرأة باعتبارها إنسانا كاملا غير منقوص، وأنت تورد ما يناقض ما تذهب إليه من كون «النساء ناقصات عقل ودين» فيما يروي الرواة. سأواجه هذا الحديث الذي أشك في صدوره عن نبينا الكريم على رغم وروده في الصحيحين، بالقرآن الكريم الذي سَاوَى بين الرجل والمرأة، وببعض الأحاديث التي تعلي من مكانة المرأة، وتعترف بفضلها العلمي، وقدرتها على الإفتاء، وكشف الغامض من معاني القرآن، وتأويله. ففي حديث نبوي، جاء: «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء». والمراد بها عائشة، فإذا كانت عائشة فقيهة متفقهة، يأمر نبينا صحابته، وباقي المسلمين باستفسارها فيما عَسُرَ عليهم من الدين، وما أعياهم فهمه وشرحه، واستغلق على مداركهم؟. إذا كان الأمر كذلك، فكيف يأخذ الصحابة –وَهُمْ مَنْ هُمْ في التقوى والصلاح ! عن عائشة، وهي المرأة التي ينطبق عليها ما ينطبق على بنات جنسها من نقص في العقل والدين؟ ثم، ألا يجدر بنا أن نتجاوز ونتخطى مسألة النقص الديني المرتبط بالحيض والنفاس، والنقص العقلي المرتبط بضعف شهادتها، أو هي نصف شهادة الرجل !؟ هل نقصانها من حيضها ونفاسها؟ وهل لها يد في خلقها وتكوينها وتنشئتها، وإختلافها البيولوجي؟ وهل هذا الاختلاف منقصة ومذلة ومذمة، أم هو غنى وثراء وخاصية وبناء؟ ألا تقوم الكينونة البشرية على الثنائية التكاملية: مذكر / مؤنث من دون التفكير لحظة في التمييز المغرض المسخر بين الجنسين؟ «فتحليل البُنَى النفسية لكلا الجنسين، يشير إلى أن خصائص كل منهما، تكمل نواقصهما. فمن الطبيعي أن يكون هناك فروق، ولكن على كلا الجنسين أن يستفيد من خصائص الآخر، ويتمثلها لكي يستكمل نواقصه». وإذا علمنا –من جهة أخرى- أن القرآن الكريم نزل حسب حاجيات القوم في القرن السابع الميلادي، مع ما ساد المرحلة التاريخية عالميا، في تلك الأثناء، من غلبة للذكورة، والفحولة، ومغلوبية للأنوثة المستعملة والمسخرة في الأسمار، والليالي الحمراء الصاخبة، أو المضمخة بالعبير والحرير، والبخور، أدركنا –من غير جهد- كيف نظر العربي – المسلم إلى المرأة، وكيف رأى إليها سلعة تدخل في ملكه الخاص والعام، من ملك اليمين، إلى التسري، إلى الزواج المتكثر، وإلى الصحابة والتابعين المزواجين، إلى زواج المتعة الذي حُلِّلَ ثم حُرِّمَ عند فتح مكة، والذي لازالت الشيعة تعتبره حلالا فيما تحرمه السُّنَّة، وهما فصيلان إسلاميان. ففي القرآن الكريم: مصدر الغواية هو :المرأة، مُشْعِلُها هي، والمبادرة بالإغواء والإغراء بنات حواء، وليس أبناء آدم. ورد هذا في الحكم الشرعي، كما ورد في القصص والاعتبار. «الزانية والزاني، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة...». «ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه...». إلخ، [ فالبدء بالمؤنث صريح الدلالة على مبادأة المرأة ومبادرتها ] . وفي الأحاديث المنسوبة إلى الرسول الكريم، ما يسيء إلى كرامة المرأة، ومن ثم يتخلع سنده إلى خير الورى الذي كَرَّمَ المرأة، وَحَدَبَ عليها، واستشارها، واعتبر من يعنفها امرؤا فيه جاهلية، وقلة مروءة. فكيف نقدم للناس ولشبابنا مثل هذا الحديث: «استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء»؟ محمد بودويك