شكلت مذبحة الدار البيضاء، التي ارتكبتها سلطات الاستعمار الفرنسي في السابع من أبريل من سنة 1947، بداية لمرحلة حاسمة في رهان القوة بين المقاومة الوطنية، وبين رغبة المستعمر في بسط كل سلطه على البلاد، خصوصا في مدينة ظل يعتبرها القلب النابض للمغرب وأرادها ليوطي، أكثر المقيمين العامين الذين تعاقبوا على «حكم» المغرب، عاصمته الخاصة. لكن لمذبحة درب الكبير وابن امسيك أسباب نزولها، وأهم هذه الأسباب، كما يجمع على ذلك عدد من درسوا تاريخ المغرب، هو قرار السلطان محمد الخامس زيارة مدينة طنجة، التي كانت وقتها تحت الحماية الدولية، لما لهذه الزيارة من رمزية ودلالات. راهنت سلطات الحماية، بتخطيط من ثاني مقيم عام (تيودور ستيك)، على اختيار محمد بن يوسف، من بين إخوته، على توليه العرش، على الرغم من أنه كان أصغرهم سنا، وكان أقلهم تعليما واهتماما بالشأن السياسي للبلاد بعد أن عاش في كنف والدته بقصر مكناس بعيدا على والده، مقارنة بأخيه مولاي إدريس، الذي كان واليا على منطقة مراكش في عهد والده مولاي يوسف، لأنها كانت تعتقد أنه الرجل المناسب لسياستها الاستعمارية، خصوصا أنها وجدت في عدد من المحيطين به استعدادا لخدمة مصالح فرنسا في المغرب، أمثال الصدر الأعظم محمد المقري، والفقيه المعمري. غير أن هذه الصورة التي رسمتها فرنسا عن محمد الخامس، على الرغم من أنه تماهى أحيانا مع بعض أفكارها، وقبل مثلا بالتوقيع على الظهير البربري، الذي شكل بداية الاحتجاجات، سرعان ما تغيرت حينما وضع السلطان يده في يد الوطنيين المطالبين بالاستقلال. وقد شكلت سنة 1944 بداية العد العكسي لرحيل المستعمر الفرنسي عن المغرب. إنها السنة التي سيوقع خلالها عدد من الوطنيين وثيقة المطالبة بالاستقلال. إذ أن مطالبهم لم تعد مجرد إصلاحات في تدبير الحماية الفرنسية لعدد من الملفات- كما كان عليه الأمر قبل عشر سنوات من ذلك- والالتزام بما نصت عليه وثيقة الحماية نفسها، ولكن الأمر صار أكبر من ذلك بكثير. إنه مطلب الاستقلال، الذي فاجأ الفرنسيين ودفعهم إلى ارتكاب جملة من الأخطاء كانت سببا مباشرا في حصول المغرب على استقلاله بعودة السلطان الشرعي محمد الخامس إلى بلاده. ففي 11 من يناير من سنة 1944، سيوقع عدد من الوطنيين وثيقة المطالبة بالاستقلال، وسيسلمونها إلى سلطات الحماية الفرنسية، التي أغضبتها الوثيقة وأخرجتها عن جادة صوابها. كما سلموا نسخا منها إلى المقيم العام «كابرييل بيو»، وإلى القنصلين العامين لبريطانيا العظمى والولايات المتحدة، وإلى الجنرال ديغول، وسفير الاتحاد السوفياتي بالجزائر. مما يعني أن القضية المغربية أخذت صبغتها الدولية التي ستحرك ملفا انتهى إلى الاستقلال. لذلك لم تنتظر السلطات الفرنسية غير ثلاث سنوات بعد ذلك لترد بقوة، وتسحق بجيشها الإفريقي، الذي ظلت تعتبره أكبر أداة لقمع التظاهرات والاحتجاجات التي أعقبت هذه الخطوة، ساكنة الدار البيضاء فيما اصطلح عليه بجيش «ساليغان». لكن السلطان محمد الخامس لم يتأخر، واختار أن يزور بنفسه عائلات الضحايا ويواسيها، ويرسل بذلك إلى فرنسا رسالة شديدة اللهجة مفادها أن معركة الاستقلال هي معركة ملك وشعب. وبعد يومين عن مجزرة الدار البيضاء سينتقل إلى طنجة في زيارة كانت قوية الدلالات. وقد اعتبر الكثير من الباحثين أن خطاب طنجة، الذي ألقاه السلطان محمد الخامس، كان بمثابة الشرارة التي أغضبت المستعمر، الذي بدأ يفكر في صيغة للحد من تقارب الملك مع الوطنيين. إذ في يوم 9 أبريل 1947 توجه سلطان البلاد على متن القطار الملكي انطلاقا من مدينة الرباط نحو طنجة، عبر مدينتي سوق أربعاء الغرب ثم القصر الكبير وأصيلا، التي خصصت له استقبالا كبيرا شكل عنوانا على ارتباط العرش بالشعب، بعد أن تكسرت العراقيل التي دبرتها سلطات الحماية، التي حاولت منع الزيارة. وفي مدينة طنجة خصصت الساكنة استقبالا حارا للموكب الملكي. وجاء خطاب طنجة، الذي ألقاه محمد الخامس في فناء حدائق المندوبية، بحضور ممثلين عن الدول الأجنبية وهيئة إدارة المنطقة وشخصيات أخرى مغربية وأجنبية، ليعلن للعالم أجمع إرادة الأمة وحقها في استرجاع استقلال البلاد ووحدتها الترابية، حيث قال جلالته: «إذا كان ضياع الحق في سكوت أهله عليه فما ضاع حق من ورائه طالب، وإن حق الأمة المغربية لا يضيع ولن يضيع..»، قبل أن يضيف أمام حشود من النساء والرجال «نحن بعون الله وفضله على حفظ كيان البلاد ساهرون، ولضمان مستقبلها المجيد عاملون، ولتحقيق تلك الأمنية التي تنعش قلب كل مغربي سائرون». وقد كتب بعض الفرنسيين أن ولي العهد آنذاك مولاي الحسن هو من كتب فقرات الخطاب النارية. وقد كان الخطاب رسالة واضحة المعالم والمضامين لأصحاب المطامع الاستعمارية، حيث أوضح محمد الخامس أن عرش المغرب يقوم على وحدة البلاد من شمال المغرب إلى أقصى جنوبه، وأن مرحلة الحماية ما هي إلا مرحلة عابرة في تاريخ المغرب، وأنها شكلت في حد ذاتها حافزا رئيسيا لوعي المغاربة بأهمية الموقع الجغرافي الذي يحتله المغرب. أما اختيار طنجة كمدينة للزيارة، خصوصا بعد الذي حدث قبل يومين في الدار البيضاء، فيشرحه محمد الخامس في نفس الخطاب حينما قال إن اختيار مدينة طنجة له دلالات كبيرة، «فأن نزور طنجة، التي نعدها من المغرب بمنزلة التاج من المفرق، فهي باب تجارته ومحور سياسته». ولم يتوقف محمد الخامس عند الرسائل التي بعث بها إلى كل العالم من خلال خطاب طنجة، ولكنه أراد أن تكون لهذه الزيارة أبعادها الروحية أيضا. ففي 11 أبريل، يومان بعد الخطاب الشهير، سيلقي، بصفته أميرا للمؤمنين هذه المرة، خطبة الجمعة، ويؤم المؤمنين في المسجد الأعظم بطنجة، ويرفع أكف الضراعة إلى الله طالبا المغفرة والرضوان لشهداء المقاومة، خاصة الذين سقطوا في مجزرة درب السلطان. وفي هذه الخطبة حث الأمة المغربية على التمسك برابطة الدين، ف«هي الحصن الحصين لأمتنا ضد مطامع الغزاة». لذلك فإن الرحلة الملكية إلى طنجة كان لها وقع بمثابة الصدمة بالنسبة لسلطات الحماية. إذ أربكت حساباتها فأقدمت على الفور على عزل المقيم العام الفرنسي إيريك لابون ليحل محله الجنرال جوان، الذي بدأ حملته المسعورة على المغرب وتضييق الخناق على القصر الملكي وتنفيذ مؤامرة النفي. ستكون أحداث الدار البيضاء وبعدها زيارة طنجة وخطابها الشهير إيذانا ببداية عهد جديد في علاقة القصر بالسلطات الاستعمارية، حيث سيمتنع السلطان عن توقيع الظهائر، والمصادقة على قرارات الإقامة العامة. كما سيبدي بشكل علني مواقفه المساندة لسياسة الوطنيين. وقتها لم تجد سلطات الاستعمار من حل غير الاستعانة بالأعيان الموالين لها والمجتمعين وراء عميلها الكلاوي، باشا مدينة مراكش، لتقرر التخلي عن محمد بن يوسف. إذ اجتمع يوم 20 مارس 1953 بالمدينة الحمراء كل باشوات المدن المغربية الكبرى، إضافة إلى عشرين قائدا، ليحرروا عريضة تسير في اتجاه سحب الشرعية الدينية عن السلطان سيدي محمد بن يوسف كإمام للمغاربة. أما البديل الذي اختارته الحماية الفرنسية، فلم يكن غير محمد بن عرفة، الذي سماه الوطنيون بالسلطان الدمية، وقاموا بعرقلة إقامة حفل عيد الأضحى، الذي تزامن مع توليه العرش، ضدا على إمامته صلاة العيد ونحر الأضحية. و ظهر خلال هذه المناسبة أن ابن عرفة غير مؤهل ليكون سلطانا للمغاربة، فيما كان المصير الذي ينتظر السلطان الشرعي هو النفي إلى جزيرة كورسيكا ثم مدغشقر. وعلى الرغم من أن الإقامة العامة تعهدت، وهي توقع عقد الحماية، بالتطبيق الحرفي للمعاهدة الموقعة بفاس على أساس «مساندة جلالته الشريف وحمايته ضد الأخطار المهددة لشخصيته أو لعرشه والعمل على ضمان طمأنينة جلالته»، كما ينص على ذلك الفصل الثالث من المعاهدة، ففي العشرين من غشت من سنة 1953 سيقرر الجنرال كيوم تنحية سلطان المغرب، باتفاق مع الحكومة الفرنسية، وفي الساعة الثالثة بعد الزوال، أقل محمد بن يوسف، هو وعائلته، في طائرة عسكرية باتجاه كورسيكا، قبل أن ينقل من جديد يوم 2 يناير 1954 إلى مدغشقر، ليقضي بها مدة نفيه قبل أن يعود وبيده وثيقة الاستقلال. لم تنظر الحكومة الفرنسية بعين الرضا لهذا القرار، وانتقدت بشدة هذا الإجراء الذي اتخذه الجنرال كيوم، مما كلفه الإقالة وتعيين فرانسيس لاكوست مكانه سنة 1954، وهي أحداث مترابطة عاشها المغاربة خلال فترة الحماية، وصنع فيها الملك والشعب ملحمة الاستقلال بعد أن أدى كل طرف فيها ضريبة القمع والقتل والتنكيل، حتى بواسطة مجندين من دول ما وراء الصحراء الكبرى. الاستعمار الفرنسي يجند الأفارقة السود في كتابه القيم «الرماة السنغاليون» يتحدث دكتور مادة التاريخ جوليان فارجيتاس عن ظاهرة استعانة المستعمر الفرنسي بالقوة السوداء، ويؤكد على أن الرماة السنغاليين، الذين جندتهم السلطات الاستعمارية الفرنسية للدفاع عن مصالحها، ليسوا بالضرورة سينغاليين، بل المقصود بالتسمية العساكر المجندون من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء. وأما تسمية السينغاليين، فقد أطلقت عليهم، لأن الفوج الأول منهم تم تأسيسه في السينغال، وهؤلاء الجنود السود من الذين ينتمون إلى المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا، وشاركوا في مختلف المعارك التي خاضها الجيش الفرنسي، وعرفوا ب«القوة السوداء». وحسب المؤلف، فإن تاريخ هؤلاء المجندين في صفوف الجيش الفرنسي، في مختلف الدول التي كانت تبسط سيطرتها على دول القارة السمراء، مرتبط بغارات الفرنسيين والجبهات التي فتحوها، بل إن جوليان فارجيتاس يذهب إلى حد ربط تأسيس القوة السوداء بزمن نابوليون الثالث، الذي اعتبره المؤسس الحقيقي لهذه التجريدة. وأبرز المصدر التاريخي أن لويس فيدريب، الحاكم العام لما كان يعرف بإفريقيا الغربية الفرنسية، هو مؤسس المجموعة الأولى من هذه القوة، من أجل «مواجهة المرحلة الاستعمارية»، وكانت تضم فئة واسعة من العبيد، الذين اشتراهم الفرنسيون من أسيادهم الأفارقة، وسجناء ومتطوعين أبوا إلا أن ينخرطوا في الجيش الاستعماري الفرنسي منذ 1905، بل إن فيالق منهم شاركت في الحرب العالمية الأولى تحت راية فرنسا، كما كان لهم حضور في الحرب العالمية الثانية. وتقول الروايات إن من بين ال60 ألف جندي فرنسي الذين قتلوا في أثناء الاجتياح الألماني لفرنسا، كان ثلثهم من جنود الجيش الاستعماري الأفارقة بالخصوص. ويعتبر المؤرخون القوة السينغالية حاسمة ومؤثرة في المسار الاستعماري لفرنسا، التي كانت تسمي هذا النوع من المجندين خدمتها ب«الجندي الذي لا بد منه»، بمعنى أنهم ليسوا قوة احتياطية، بل عناصر أساسية في المجهود الحربي الفرنسي. رغم أن هتلر أكد أن انخراط هؤلاء في الجيش الفرنسي «خطيئة كبرى ضد الإنسانية البيضاء»، وأوصى جنوده بألا يترددوا، عند وقوع أسرى من الجنود الفرنسيين بيدهم، في فرز السود وإعدامهم فورا. ويتحدث الروائي الغيني تييرنو مونيمبو، الذي شاءت الصدف أن يولد في شهر أبريل من سنة 1947، عن وحشية الاستعمار الفرنسي وسوء توظيف الأفارقة، من خلال روايته «الملك كاهيل»، واسترخاصهم من خلال السفن التي كانت تنقل الرقيق منذ القرن التاسع عشر، حاملة الزنوج إلى المستعمرات الأوروبية في العالم الجديد. وركزت غالبية روايات تييرنو على مرحلة ما قبل الاستقلال وبعده، حيث يعود إلى أبطال المقاومة الأفارقة، وأشهرهم آدي با، بطل تحرير سينغالي قاد جماعة من المقاومين الأفارقة خلال الحرب العالمية الثانية في منطقة الفوغ شرق فرنسا بعد أن دُفع للمشاركة في تلك الحرب قسرا نظرا لاستعمار الفرنسيين لبلاده واقتياده مع مجموعة من السينغاليين والغينيين والإيفواريين، للدفاع عن المستعمرات الفرنسية. وفي المغرب، كانت الدار البيضاء، وبالتحديد ثكنة عين البرجة، تعج بالجنود الأفارقة السود من جنسيات إفريقية مختلفة، يتحركون بأوامر المقيم العام وقيادات الجيش. وكشف كتاب «الحركة الوطنية في الشمال ودورها في استقلال المغرب والجزائر» لحمو الإدريسي السيدالي عن الجنود الأفارقة العاملين تحت إمرة الاستعمار الفرنسي، وأوضح أن معارك جيش التحرير كشفت عن حجم الانتدابات القادمة من بلدان وراء الصحراء، مشيرا إلى معركة جند لها الفرنسيون جيشا قوامه 500 جندي سينغالي، «تصدينا لهذه الفرقة بنيران بنادقنا ورشاشاتنا، فاضطرت إلى اللجوء إلى الجيش الإسباني الذي كان مرابطا على الحدود. فشددنا عليهم الحصار، والحراسة، فوجدناهم مسلمين يصلون، ولذلك أخلينا سبيلهم على أساس أن يرجعوا إلى ثكناتهم لا ليحاربوننا، فرجعوا إلى مراكزهم»، لكن أكبر عدد من هؤلاء الجنود كان يستقر في ثكنة بالدار البيضاء تدعى ثكنة عين البرجة. تقنين وتقريب البغاء من المستعمرين لا يمكن ضمان الحد الأدنى من استقرار الجيوش الاستعمارية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، دون توفير جانب من المتعة الجنسية للمستعمر وأزلامه. لذا فكر الفرنسيون في طريقة لطرد الملل من نفوس أفراد جيشه، وجعلهم يتأقلمون مع المناخ الجديد. وقد بدأت الفكرة بخلق ملاه ليلية الغاية منها الترويح عن نفوس المستعمر وكل الغرباء الذين وجدوا أنفسهم فجأة أمام خصم لم يسئ إليهم. كما تطور الأمر إلى تشييد دور الدعارة من أجل تلبية الرغبات الجنسية لجنود الاحتلال، بعد أن خصصت الملاهي المصنفة والمراقص العصرية للضباط وكبار المسؤولين ولعلية القوم الفرنسي، بعد أن جلبت السلطات الاستعمارية راقصات من دول أوربية. وعمدت فرنسا إلى تعزيز حضورها بفتح ملهى ليلي ودور للدعارة، وازدهرت عمليات الوساطة في هذا المجال، الذي أصبح ملاذا للراغبين في متعة الجسد. وأمام الإقبال الكبير على مرافق تصدير المتعة، شرع المستعمر في تجنيد عاهرات من مختلف الديانات والأجناس الغاية منها تشجيع الدعارة التي كانت تشكل موردا ماليا كبيرا ليس فقط بالنسبة لممتهنات البغاء، بل للسلطات المغربية التي كانت تجد متعة في تدبير الشأن الخاص للمواطنين والوافدين، فهم سواسية أمام تجارة الجسد. كما أنهم حولوها إلى ريع «بغائي» يوفر مبالغ مالية مهمة. واختارت السلطات الاستعمارية تقريب البغاء من اللاهثين وراء المتعة، وتعميم هذه المرافق وجعلها أقرب من الجنود، كما هو الحال في مراكش حيث بني ماخور «تاركا» بالقرب من الثكنة العسكرية بالحي ذاته، وهو وضع استفاد منه الشيوخ والقواد والباشاوات الذين نموا ثرواتهم بفرض إتاوات على الطرفين، لاسيما أمام الإقبال الكبير للزبناء بسبب الحماية الصحية والأمنية، ومباركة المستعمر لهذه التجارة. ويقول المؤرخ الفرنسي لو تورتو، الذي عاش بفاس قبل الاحتلال، إن «البغاء كان يشمل أغلب البيوت ويشكل طابو لا يمكن الحديث عنه داخل الوسط العائلي، وكان رجال السلطة يستأجرون مساكنهم لبائعات الهوى مقابل مبالغ مالية، إلا أن الغاية الأولى من هذه المرافق هي الترويح على الجنود والموظفين الفرنسيين وجعلهم يقبلون بصيغة «البغاء مقابل الاستقرار». بوكاسا من حارس ماخور إلى ديكتاتور يجمع ما تبقى من الجيل، الذي عايش السنوات الأولى من عهد الحجر والحماية، على أن أقدم مهنة في التاريخ، كانت حاضرة ضمن أولى المهن في المغرب المستعمر، وفي هذه الحقبة ظهر ما يعرف ب«البورديل» العسكري، وهو مرفق للدعارة، لكنه غير فوضوي ولا تمارس فيه ممتهنات الدعارة فوضويتهن، بل يخضعن لنظام صارم مع قانون داخلي يميز بين الزبناء، فالموظفون السامون وكبار قيادات الجيش بإمكانهم الاستفادة من خدمة توصيل المومس إلى حيث يقطنون، بينما يمنع على الجنود، الذين انتدبهم المستعمر، مغاربة كانوا أو أفارقة، مضاجعة العاهرات خارج هذا الفضاء، لاسيما في ظل الإقبال الكبير على هذه البيوت، لاسيما في المناسبات والأعياد، بل إن السلطات الاستعمارية عملت على تنويع المنتوج البغائي من خلال استقطاب مسلمات ويهوديات ومسيحيات، لضمان إقبال أكبر على هذه السلعة، خاصة أن المقر الرئيسي وعنوان المخابرة بحي بوسبير بالمدينة القديمة للدار البيضاء جعل كثيرا من الجنود، الذين يطلق عليهم، تجاوزا، «جيش ساليغان»، يفضلون التردد في نهاية كل أسبوع على الماخور لممارسة بغاء نظمه المستعمر بمرسوم 16 فبراير 1924، قبل أن ينظم كثيرا من المهن. وكي لا تعم الفوضى هذه المرافق وحفاظا على دورها كداعمة لاندماج الفيالق المجندة في الجيش السينغالي، قامت فرنسا من خلال إقامتها العامة بوضع حراسة مشددة على ماخور بوسبير بالدار البيضاء، قصد الحد من ظاهرة الشغب التي يعرفها بسبب نزوات منفلتة. وتقول مصادر تاريخية متطابقة إن إمبراطور إفريقيا الوسطى جان بيديل بوكاسا كان مجرد جندي في القوات الاستعمارية الفرنسية في الدار البيضاء، يقضي يومه في حراسة بوسبير، قبل أن تقرر فرنسا تحويله من «شاوش» صغير إلى إمبراطور كبير يصول ويجول بنياشين على صدره وكتفيه، ولسان حاله يقول: الويل لمن يذكره بمهمته الأولى على بوابة دار للبغاء في الدار البيضاء. لكن المقاومة المغربية لم تقف مكتوفة الأيدي أمام مأسسة البغاء، وقامت ببعض العمليات المحدودة للردع تارة والترهيب تارة أخرى، ومن المقاومين من كان يردد مقولة علال الفاسي: «الذي يريد القضاء على الدعارة فليعمل على تغيير النظام الاقتصادي القائم في البلاد»، وحين يكون البلد تحت رحمة الاستعمار فتلك حياة أخرى. مواطنون يبترون العضو التناسلي لمجند سينغالي ما سر إقحام ممتهنات الدعارة في مجزرة السينغال؟. يقول مجموعة من المقاومين، الذين عايشوا الحدث بكل تفاصيله الصغيرة، إن حالة الاحتقان كانت بادية للعيان، لأن السلطات الاستعمارية كانت تحاول التصدي بكل ما أوتيت من جبروت لرحلة السلطان محمد الخامس إلى مدينة طنجة، «كان المستعمر يبحث عن نصف سبب لاقتراف مجزرة فوجد نفسه أمام سبب حقيقي جعله يفرغ شحنات الغضب والرصاص في قلوب ورؤوس مئات المغاربة». يقول شاهد عيان على المجزرة، وهو يروي ل«المساء» بعض التفاصيل الممهدة لما بات يعرف ب«ضربة ساليغان»: «كان اليوم يوم إثنين سابع أبريل من سنة 1947. الجو ربيعي والحياة الرتيبة لدرب الكبير تسير بنفس الإيقاع، حيث يركض الأطفال في الأزقة بدون اتجاه، وتتحرك النساء بلباسهن التقليدي، ويبحث الرجال عن لقمة عيش بين الأشواك. فجأة سمع صراخ قادم من عرصة ابن امسيك غير بعيد عن درب الكبير، وحين هرعنا لاستطلاع سر الصخب رأينا عشرات المغاربة من الشباب والرجال يركضون خلف جندي سينغالي كان يحاول التخلص من الكمين الذي وقع فيه. وحين استطلعت الأمر قيل لي إن الجندي السينغالي ضبط وهو يقتحم بيت مومس مغربية دون أدنى اعتبار للمغاربة، مما جعلهم يفكرون في كمين أوقعه بين أيديهم فتم التنكيل به. وهناك من ذهب إلى حد القول بأن الوطنيين بتروا العضو التناسلي للعسكري الذي كان يحمل رتبة قائد كتيبة. فيما قال آخرون إن الأمر لم يقف فقط عند الثأر باسم الكرامة، بل تم التوجه إلى ثكنة عين البرجة التي تؤوي الجنود السود، حيث وُضعت الجثة وعليها العضو التناسلي أمام باب الثكنة». لكن لماذا لم يتم التنكيل بالمومس أيضا مادامت شريكة في العملية؟ وما سبب عدم اختيار العسكري السينغالي لمواخير المدينة الأكثر أمانا؟. يرى الكثيرون أن السلطات الاستعمارية الفرنسية عمدت في تلك الفترة إلى خلق بيت دعارة آخر في درب السلطان غير بعيد عن درب الكبير، في إطار تقريب البغاء من المجندين، وهو ما دفع بالعسكري إلى تعقب غرائزه في الحي الشعبي دون اعتبار لمضاعفات هذا الأمر. لكن رد فعل أبناء الحي استفز الثكنة التي قررت الانتقام بدعم من بونيفاس، رئيس الحامية العسكرية للدار البيضاء، الذي اجتمع في اليوم ذاته بقيادة الثكنة وأمر المجندين السود بالانتقام لشرف العسكر. والحال أن النية الانتقامية لا ترتبط بحدث عابر أملته غرائز منفلتة لعسكري سينغالي، بل للظرفية التي كان يمر بها المغرب في مطلع شهر أبريل من سنة 1947. بينما قال بونيفاس إن القضية تتعلق برد فعل ضد استفزاز فيلق عسكري، وأن فرنسا اختارت الحياد. على امتداد يومين تحولت أزقة وشوارع درب الكبير وابن امسيك وكراج علال وطريق مديونة إلى مناطق منكوبة، بعد أن نفذت فيالق من المجندين الأفارقة السود أكبر مجزرة منذ أن وطئت أقدامهم المغرب، إذ جابوا الدروب الضيقة كرد فعل على ما حصل اعتقادا منهم أن المستعمر منحهم فرصة الانتقام لزميلهم، بينما واقع الأمر يؤكد أشياء أخرى. القضية أبعد من صراع غرائز يقول محمد برهماني، أحد أبرز وجوه المقاومة في منطقة درب السلطان، ل«المساء»، إن «الشرارة الأولى للمجزرة بدأت من اغتصاب سينغالي لمغربية قيل إنه يتردد عليها بين الفينة والأخرى دون اعتبار لمشاعر المغاربة الذين قرروا الانتقام، لكن المستعمر الفرنسي حركته نوايا أخرى غير تلك التي حركت فيالق العسكر السينغالي، «عندما أقدمت سلطات الاحتلال على اقتراف مجزرة «ساليغان» في حق سكان مدينة الدار البيضاء، كان الهدف الظاهر هو الانتقام للجندي السينغالي، لكن السبب غير الظاهر هو الحيلولة دون قيام بطل التحرير محمد الخامس رحمه الله بزيارة مدينة طنجة يوم 9 أبريل 1947، أي بعد يومين من المجزرة، لأن الزيارة ستكرس مطالب المغرب المتمثلة في استقلاله وتأكيد وحدة أراضيه وتمسكه بهويته العربية والإسلامية». كان الوطنيون يعرفون أن رد الفعل القوي لا تحركه الرغبة في الانتقام من مقتل جندي، لأن الانشغال الحقيقي للسلطات الاستعمارية كان مركزا على طنجة وليس درب السلطان، لذا اختلقت السلطات الاستعمارية أسبابا للتنكيل بالوطنيين، إلا أن آلة القمع في شخص الفيلق السينغالي كانت تتحرك بوازع ثأري، وهي تستحضر واقعة العضو التناسلي المبتور، الذي وضعه أحد الشباب أمام بوابة الثكنة في تحد للقوة السوداء. اعتقد البعض أن «ضربة ساليغان» ستمنع الزيارة، وأن السلطان سيصرف النظر عن الرحلة إلى طنجة التي وضعت كامل تفاصيلها، لاسيما أن السفر كان عبر القطار وفي القلب حزن دفين على الدار البيضاء المكلومة في اتجاه المدينة التي كانت خاضعة لنظام دولي استثنائي. «كان هدف رجالات الحركة الوطنية المغربية هو أن تتم الزيارة برا، حتى يقوم ملك البلاد بالعبور من كل الأراضي المغربية المحتلة من قبل القوى الإستعمارية الأوربية (فرنسا وإسبانيا وطنجة الدولية)، مما يعني أنه ملك على كل المغرب، بينما كانت غاية المحتلين أن لا تتم الرحلة تلك، وأنه في حال ضرورة التنازل لا بد أن تتم بحرا، من ميناء الدارالبيضاء إلى ميناء طنجة». «ضربة ساليغان» أو الاثنين الدامي لدرب السلطان اعتمدت فيالق المجندين السينغاليين على العنف في مواجهة كل المواقف، رغم أن المجند يقتسم مع المغربي محنة الاستعمار، لكن الحاكم العام الفرنسي بالدارالبيضاء بونيفاص وجد في القضية فرصة لتبرير نواياه الانتقامية، وخطط لمجزرة دامية، انطلاقا من مقر الثكنة بعين البرجة، إلى درب الكبير لعفو، حيث خرج فيلق من الجنود السينغاليين الموجودين بالثكنة المحاذية لهذا الحي، وشرعوا في إطلاق النار على كل من صادفهم من المغاربة في ذلك الحي الشعبي الجديد آنذاك، ولم يتدخل أحد لوقف المجزرة، فكانت الحصيلة أكثر من ألفي قتيل من نساء وأطفال ورجال وشباب وشيوخ دون تمييز بين الفئات العمرية. أغلب الجثث عرفت تشوهات بسبب حجم التدخل العنيف، بل إن عددا من المصابين برصاص «ساليغان» اختاروا البحث عن العلاج بعيدا عن مستشفيات المستعمر خوفا من الاعتقال، ولم يتوقف الرصاص طيلة 24 ساعة كاملة حيث كان يسمع دويه في المنطقة، مما دفع كثيرا من الساكنة إلى الفرار نحو أحياء مجاورة غير معنية بالمجزرة كدرب اليهودي أو أحياء المدينة العتيقة التي أعفيت من الدم فكانت ملاذا للفارين من وحشية الجنود السود، وسط حملة اعتقالات واسعة شملت مئات المغاربة الذين خضعوا للتعذيب. وتقول الروايات التاريخية إن شابا وطنيا قام بإعداد تقرير مفصل معزز بالصور عن المجزرة، في أفق عرضه على المنظمات السرية والخلايا التي تتصدى سرا للمستعمر، ولم يكن هذا الشاب سوى عبد الرحمان اليوسفي، الذي كان مسؤولا نقابيا في الدارالبيضاء بحي كوزيمار والحي المحمدي وعين السبع، وهي الأحياء العمالية الكبرى بالمدينة آنذاك. من تداعيات مجزرة 7 أبريل أدرك محمد الخامس أبعاد وأهداف المؤامرة الدنيئة لقوات الاحتلال، فتوجه إلى الدار البيضاء مواسيا أسر الضحايا، ثم قام بعد ذلك بزيارة طنجة في موعدها المحدد محبطا مناورة المستعمر، وألقى خطابه التاريخي بها، كما كان مقررا، معلنا للعالم أجمع إرادة المغرب وإصراره على المطالبة باستقلاله، ومؤكدا أن المغرب متمسك باستقلاله ووحدته وصيانة كيانه. وقبل أن يجف الدم الغزير الذي انساب في شوارع وأزقة المنطقة، عقب «ضربة ساليغان» جاءت مجزرة الحي المحمدي، وكانت الحصيلة ثقيلة مرة أخرى في الضحايا من المغاربة، قبل أن تزداد شرارة الصراع عقب نفي الملك محمد الخامس يوم 20 غشت 1953 إلى مدغشقر، وما ترتب عنها من مجازر، أبرزها مذبحة وادي زم، التي نقلت المعركة المسلحة لأول مرة من المدن المغربية إلى البوادي، مما ترجم لدى المستعمر تحولا في المواجهة يتجه صوب حرب تحرير شعبية، فسارع إلى إيجاد حل سياسي للأزمة المغربية. ومن تداعيات أحداث 7 أبريل 1947، دعوة المقاومة الوطنية إلى تنفيذ إضراب عام بالمدن المغربية, وقام الوطنيون عبر خلاياهم السرية ومكونات المجتمع بعمليات تكافل واسعة من أجل تقديم العون والدعم للأسر المتضررة٬ وتعزيز المواقف المنددة بالاحتلال الأجنبي، وشجب مؤامراته التي أودت بحياة الأبرياء وروعت المواطنين. وقد زادت المذبحة في تأجيج فورة الغضب ضد المستعمر، وخاصة الجنود السنيغاليين الذين تحولوا إلى عدو آخر لا يقل ضغينة عن المستعمر، فتنامى الشعور الوطني لدى الجميع بعد أن استرخص المستعمر أرواح المغاربة على نحو فظيع. وكان لأحداث 7 أبريل أثر شديد ووقع كبير في نفوس المواطنين وقادة الحركة الوطنية والمقاومة والتحرير، إذ تشكلت خلايا أزمة نشرت عبر ربوع الوطن، الذي كان تحت الصدمة، دعوة إلى إضراب عام بشل المدن المغربية، وتعبأت فعاليات المجتمع بعد أن أيقظت «ضربة ساليغان» الحس الوطني من جديد، فتعززت المواقف المعادية للاحتلال وشجب مؤامراته التي أودت بحياة الأبرياء بشكل عشوائي دون اعتبار لأبسط حقوق الناس. الوقوف أمام النصب التذكاري لا يكفي كلما حلت ذكرى سابع أبريل تحولت الحديقة المهملة في وسط درب الكبير إلى مزار لأسرة المقاومة وأعضاء جيش التحرير. إذ في كل عام تدعو المندوبية السامية أسرة الحركة الوطنية إلى تخليد ذكرى الأحداث الأليمة ليوم 7 أبريل 1947، وتسعى إلى «استحضار ملاحم الكفاح الوطني والتضحيات الجسام التي قدمها الشهداء والمقاومون الأماجد والإشادة ببطولاتهم والتعريف بإسهامات جميع شرائح المجتمع المغربي بقيادة العرش العلوي المجاهد, في سبيل الدفاع عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية واستلهام ما تزخر به هذه الملاحم البطولية من رصيد القيم الوطنية والمثل الإنسانية وأمجاد وروائع الكفاح الوطني». في مثل هذا اليوم يتلقى المقاومون دعوات من المقدمين والشيوخ لحضور مهرجان خطابي بمقر عمالة مقاطعات الفداء درب السلطان، يعيد على مسامعهم نفس أسطوانة الشهامة، ويدعوهم للوقوف أمام اللوحة التذكارية المخلدة لذكرى شهداء هذه الأحداث بساحة 7 أبريل٬ والترحم على أرواح شهداء ملحمة الحرية والاستقلال والوحدة، وقبل أن ينصرف الحاضرون يكتشف المقاومون أن عددهم يتناقص، وأنه مع كل ذكرى يرحل صناع الحدث. درب السلطان.. من المقاومة إلى «الفرّاشات» حين تزور أحياء درب السلطان وتحاول تعقب تاريخ كفاح هذا الشعب، ستقف عند تشوهات الذاكرة، وستكتشف أن النصب التذكاري الذي يؤرخ للمجزرة، تقام حوله مجازر أخرى تعبث بتاريخ وجغرافية المكان، فهذا الحي الذي ارتبط بالكفاح والنضال أصيب وجهه بخدوش عميقة وبدا غير قادر على ربط الماضي بالحاضر، إذ أن أغلب شباب درب الكبير، الذين قابلناهم في زيارتنا لمواقع الحدث، لا علم لهم بالحادث الدامي، ومنهم من اختار الانحراف سبيلا وجعل من التذكار اليتيم ملاذا لممارسة انشغالات مشينة، بل إن الأزقة التي كانت مسرحا لجريمة جنود «ساليغان» أصبحت محتلة من طرف «الفرّاشة» وعربات الباعة المتجولين، ودكاكين بيع وجبات السمك الرخيصة، التي انتشرت كالفطريات، وحين سألت بائع سجائر بالتقسيط عن «ضربة ساليغان» قال بعد طول تفكير: «ساليغان ضربونا في الكرة ولا فاش؟ خوك ما على بالوش». في روايته القصصية «ثلاثية درب السلطان»، يعيد الروائي مبارك ربيع إحياء ذاكرة الحي العريق، ويرتب الوقائع من جديد، بعيدا عن لغط الرجاء والوداد، في محاولة لصيانة موروث فكري آيل للاندثار، ويجعلك تسافر دون زحمة الطريق إلى درب السلطان لتعيش غنى موروثه الإنساني والتاريخي والثقافي والتراثي، وأنشطته المتعددة والمتنوعة التي جعلت منه همزة وصل بين جميع مناطق الدار البيضاء، إذ كان نقطة انطلاق عمليات الفداء والتحرير، وما أحوج الذاكرة البيضاوية إلى كتابات أشبه بشاهد عيان على تاريخ المنطقة، التي أنجبت مبدعين في جميع المجالات، وشكلت قلعة للنضال ضد المستعمر. لذا لم يكن من العبث أن يطلق اسم شارع الفداء على أكبر شارع في المنطقة، بعد أن كان يسمى سابقا بشارع السويس.