ختم المتن الروائي العربي مائة سنة من عمره، وهو في ذلك قد يكون راكم على طول عقوده المتوالية متونا روائية قدمت اجتهادات سردية في مناخ ثقافي لا يعترف إلا بالشعر سيدا للقول. وظلت الرواية العربية بمختلف توجهاتها واتجاهاتها محكومة بمحاولة الإجابة عن علاقة الواقع بالمتخيل، ولسوف ينعكس هذا الأمر بصورة واضحة في موضة كتابة الرواية التاريخية، بعمق أو بتسطيح، بدربة أو بغياب تام لأدوات الصناعة الروائية. وفي كل الأعمال التي طالعتنا لاحقا، بدءا من «زينب» وروايات جورجي زيدان وواقعية نجيب محفوظ، وسحرية عبدالرحمن منيف وتاريخ المدن والأمكنة، والوجوه عند جبرا إبراهيم جبرا وحنا مينة وغالب هلسا، وتجريبية إلياس خوري وإدوار الخراط ومحمد برادة، واليوميات المنقوعة في مديح الهامش لمحمد شكري ومحمد زفزاف، و«الترف الأكاديمي» في متون بنسالم حميش، وصناعة الرواية عند جمال الغيطاني، والمساررة الروائية، التي كتبتها الكاتبة العربية، وسطوة الخطاب الإيديولوجي في تجارب صنع الله إبراهيم وتيسير سبول والطاهر وطار، أو من خلال هيمنة الخطاب الإغرابي في أعمال الكتاب العرب الفرنكوفونيين، وبالأخص في التجارب المؤسسة لهذا الخطاب عند إدريس الشرايبي والطاهر بنجلون وكاتب ياسين وأمين معلوف، كل هذه الأعمال بمختلف اتجاهات خطابها الروائي تؤكد أن الرواية العربية لا تزال تستكمل «النصاب القانوني» من الوجود ضمن المتن الروائي العالمي، الذي يسبقها على الأقل بنحو عقدين من الزمن. إن بروست وبالزاك بالنسبة للرواية العربية لا يزالان يثيران فيها حنين الارتباط بالمادة الأساسية للعمل الروائي، التي هي الواقع. ورغم تفاوت نزعات التجريب، فإن هناك شبه اعتقاد من قبل الكاتب العربي أن المدخل الأساسي للنص هو الواقع، ليس من خلال مفهوم الانعكاس، الذي طرحته الواقعية الاشتراكية، ولكن من خلال مفهوم التماثل، الذي يعني الاجتياز بالمادة الواقعية من حدود الحدية إلى الخيال، ومن الدلالة المباشرة إلى الانزياح، ومن الحكي إلى السرد. وفي التجارب الجديدة، التي يقودها الجيل الشاب، وبالأخص تلك النصوص التي تكتبها الروائية العربية، خلوص مبكر وذكي من الخطابات الكبرى والتعميمية، وانتماء إلى الفردانية، مع ما يعنيه ذلك من تغيرات على مستوى البناء الروائي نفسه، الذي لم يعد خطيا كما في الرواية الكلاسيكية، بل استفاد كثيرا من الفنون المجاورة، من التقطيع السينمائي مثلا في تمثله لمفهوم الزمن، ومن اللغة الشعرية بدل اللغة الواصفة الجامدة، ومن نظام العلامات كما تطرحها الاتجاهات السيميولوجية الجديدة. هذه الرواية العربية تستقي مادتها من المتخيل ومن المحلوم به، وتقوم بعملية تحويل للواقع، أو لنقل نقده وتفتيته إلى عناصره الأولى، ليس من خلال مادة للمحكي، ولكن باعتباره إمكانا من الإمكانات، التي يقدمها الاحتمال بمفهومه الرياضي، أي ذلك اللامتناهي الذي يجعل من النص الواحد نصا متعددا ومفتوحا على القراءة والتأويل، وعلى إعادة الكتابة مرة أخرى.