بين الاتهامات التي تُساق ضد الانتفاضة السورية وتتعلل بها دوائر يسارية وعلمانية متعددة المشارب، متباينة الأهواء أيضا، داخل سورية وخارجها، ذاك الذي يقول التالي: كانت الانتفاضة حركة شعبية وسلمية علمانية (والبعض يضيف: ثورية، وتقدمية)، ثم سقطت تدريجيا في أيدي الآتين من أربع رياح الأرض. خلاصة الاتهام تنتهي، كما يُنتظر الإسلاميين، ثم الإسلاميين المتشددين، ثم السلفيين، وصولا إلى «الجهاديين» منها وينتظر منتظروها، إلى التحسّر على الخصال الطيبة التي اتسمت بها الانتفاضة في مطالعها، والتباكي على خصالها السيئة التي تنامت وطغت، تمهيدا لنفض اليد من تأييدها، أو الاكتفاء فقط بالتضامن مع سلمييها وعلمانييها وتقدمييها وثورييها... العنصر الثاني المكمل في دائرة هذا الاتهام هو الافتراض الذي يقول بوجود اقتران تام، وحتمي، بين «تأسلم» الانتفاضة وعنف إسلامييها؛ الأمر الذي يفترض مواجهة من نوع ما، أو مصادمات من كل نوع، بين أهل السلم وأهل الحرب، داخل صفوف المعارضة السورية. وهكذا، لا يُفترض أن الانتفاضة سُرقت أو صودرت أو حُرّفت عن مساراتها السلمية والعلمانية والتقدمية والثورية، فحسب؛ بل يرتقي الافتراض إلى مستوى الجزم بأنها فقدت مشروعيتها الشعبية، وأنها استطرادا لم تعد جديرة بالتضامن والتأييد (الأمر الذي ينقل المياه إلى طاحونة النظام السوري، عمليا، فتصبح حال اللاتأييد للانتفاضة بمثابة حال تأييد غير مباشر لفئات «الطرف» الموازي، أي النظام السوري. والحال أن هذا «اليسار»، ولا مناص هنا من حصر المفردة داخل أهلّة، يسقط في الحمأة ذاتها التي اعتاد التمرّغ فيها يمين متعدد المشارب، والأهواء أيضا، ليس سياسيا فحسب، بل هو أقرب إلى رجعية ثقافية ودينية. وتلك حمأة تغيب عنها -خاصة في مسائل العلاقة بين الإسلام والعنف، والروابط الوثيقة بين الإسلام والإرهاب- سلسلة الأبعاد السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية لظواهر (لأنه من السخف اعتبارها محض ظاهرة واحدة، متماثلة متطابقة) ذات تركيب معقد وشائك ومتباين؛ ليس من الحكمة أبدا ردّها إلى باعث عقائدي أو عقيدي واحد، أو حتى سلسلة أسباب ذات صلة بما يُسمى صراع الحضارات وحروب الثقافات. بعبارة أخرى أشد اختزالا للمشهد: ثمة السياسة، أولا، وقبل العقائد؛ وثمة ميزان القوة الكوني الراهن، في تجلياته العقائدية والدينية والثقافية؛ ثانيا، وثمة، ثالثا، ذلك التاريخ الطويل من حروب الإخضاع والهيمنة والغزو، على الجانبين؛ وثمة، أخيرا، ذلك التواطؤ بين العناصر السابقة، من جهة، وأنظمة الاستبداد والفساد التي ثارت، وتثور، عليها الشعوب العربية هذه الأيام، من جهة ثانية. وهكذا، حين يستسهل «اليسار» تجريد التيارات الإسلامية -المنخرطة في الانتفاضة السورية اليوم، بصرف النظر عن جنوح فئاتها إلى السلمية أو يقينها بأن البندقية هي وحدها وسيلة إسقاط النظام- من المضامين السياسية والاجتماعية والثقافية التي كفلت صعودها؛ فإن النتيجة التالية هي التقاء «اليسار» ذاك مع المقاربة الأكثر يمينية في السوق والتي ناهضها ويناهضها جميع اليساريين والتقدميين والثوريين: صمويل هنتنغتون! وإذا كان المسلمون لا يعرفون سبيلا إلى ردّ التهمة القائلة إن الإسلام (بوصفه دينا وعلاقة بين العابد والمعبود، وليس فلسفة سياسية) هو بالضرورة المطلقة حاضنة خصبة لتوليد صنوف وأفانين الإرهاب؛ فكيف إذا جاءهم مَنْ يقول: ليت البلية تنتهي هنا... المشكلة ليست في الحاضنة كدين يشجع على الأصولية والعنف، بل في الإسلام نفسه، في حدّ ذاته، وبوصفه ثقافة للدنيا قبل أن يكون دينا للآخرة؟ ويكفي المرء أن يتذكر أن روسيا بوريس يلتسين، التي كانت مدججة بالسلاح النووي والمافيات الوحشية والفقر الرهيب، بدت في نظر هنتنغتون أقلّ خطورة بكثير من وضعية الإسلام المعاصر، لا كدين وديانة مرة ثانية، بل كثقافة مرشحة أكثر من سواها لتدشين صدام الحضارات، الصيغة القادمة لاندلاع الأزمات والحروب والتحالفات في العلاقات الدولية. وإذا لم يكن مدهشا أن يعود التفكير اليميني والرجعي والمحافظ إلى أطروحات هنتنغتون كلما ثارت خصومة بين الإسلام والغرب، أو على الأصحّ بين المؤسسات التي تحسن إدارة هذه المعارك وتتقن فنون تأجيجها، في الغرب كما في الشرق، وفي المسجد كما في الكنيسة، وفي الشارع كما على الفضائيات؛ فإن ع الشعب، المدني والأعزل والشريد والطريد غالباً، بأقذر الأسلحة وأشدّها فتكاً (بما في ذلك تقنيات إفناء رهيبة، مثل براميل ال «تي إن تي»، لا تقلّ فتكاً عن الكثير من صنوف الأسلحة الكيماوية). وفاضح، في السياقات ذاتها، أن ينبثق الكثير من تذبذب «اليسار» -بين إحجام عن تأييد الانتفاضة، ومآل عملي ينتهي إلى تأييد النظام- من سفسطة جوفاء حول إسلام بات ملجأ المؤمن المعذّب ودريئة الإرهابي في آن، خصوصا بعد افتضاح برامج العقائد الأخرى اليمينية واليسارية والقوموية، أياً كانت درجة الصدق في علمانية فلسفاتها. ألا يلتقي ذلك «اليسار» مع شرائح واسعة في صفوف اليمين الرجعي والمحافظ والمحافظ الجديد، تعلن دفاعها عن قِيَم الحق والحرية والاختلاف، شريطة ألا تأتي هذه بإسلامي من أي طراز («جبهة الإنقاذ» في الجزائر، مثلا؛ أو «حماس» في فلسطين...)؟ وبِمَ تختلف معتقلات النظام السوري عن معتقل غوانتانامو (ما خلا أن هذا الأخير لا تُمارس فيه الإعدامات الميدانية، وحرق السجناء أحياء، وتدمير الزنازين فوق رؤوس المعتقلين،...)، حتى يدين اليسار غوانتانامو، ويتأتى أو يدمدم أو يغمغم حول أفاعيل أكثر وحشية يرتكبها النظام السوري؟ محزن، إلى هذا، أن يذكّر خطاب بعض أهل «اليسار»، المشتكين من صعود الإسلاميين داخل الانتفاضة السورية، بخطاب ألقاه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، بتاريخ 6 أكتوبر 2005 في «المعهد الوطني للديمقراطية» (كان خطيرا للغاية، وتحديدا في جانب هذه الغلواء العقائدية ضد المسلم بوصفه هوية، ولم تجانب أسبوعية «نيوزويك» الأمريكية الصواب حين اعتبرته «قنبلة عقائدية»). وفي مستهل خطابه ذاك، قلّب بوش الرأي في التسميات والمصطلحات والتعريفات، قبل أن يستقرّ على الصيغة المفضّلة عنده: «البعض يطلق على هذا الشرّ تسمية الراديكالية الإسلامية، والبعض الآخر يعتبره جهادية إسلامية، ويوجد كذلك مَنْ يسمّيه إسلامو-فاشية. هذا الشكل من الراديكالية يستغل الإسلام لخدمة رؤية سياسية عنيفة عمادها التأسيس، عن طريق الإرهاب والانحراف والعصيان، لإمبراطورية شمولية تنكر كل حرية سياسية ودينية. هؤلاء المتطرفون يشوّهون فكرة الجهاد فيحوّلونها إلى دعوة إلى الإجرام الإرهابي ضدّ المسيحيين واليهود والهندوس، ولكن أيضا ضد المسلمين من مذاهب أخرى، ممّن يعتبرونهم هراطقة». وراهنوا على أن هذه الفقرة السابقة لا تحتاج إلا إلى تعديلات بسيطة (كأن يُستبدل اليهود والهندوس بأي من الأقليات الدينية أو المذهبية السورية)، لكي يوقع عليه هذا «اليساري» أو ذاك، في سورية والأردن وفلسطين، كما في فرنسا وبريطانيا وألمانيا... والحال ذاتها يمكن أن تنطبق على فقرة أخرى، من الخطاب ذاته: «إن الراديكالية الإسلامية، مثل الإيديولوجيا الشيوعية، تحتوي على تناقضات موروثة تحتم فشل تلك الراديكالية. وفي كراهيتها للحرّية، عن طريق فقدان الثقة في الإبداع الإنساني ومعاقبة التغيير والتضييق على إسهامات نصف المجتمع، تنسف هذه الإيديولوجيا السمات ذاتها التي تجعل التقدّم الإنساني ممكنا، والمجتمعات الإنسانية ناجحة». بدلوا «الإيديولوجيا الشيوعية» بأية تسمية أخرى ترضي مزاج «اليساري» إياه، وراهنوا هنا أيضا أنه سيوقع على الفقرة بلا تردد، وربما براحة ضمير قصوى! يسير على المرء أن يأبى تصديق الرئيس الأمريكي (الجزّار الأول المسؤول عن كل ما حاق بأهل فلسطين والعراق ولبنان من عذابات على امتداد رئاستَيْن)، وقد انقلب نصيرا لفقراء المسلمين ضد أغنيائهم، وليس الأغنياء من طراز فاسدي الأنظمة العربية من حكّام وأتباع وعملاء، بل ذلك الغنيّ الذي يُدعى أسامة بن لادن! صعب، أكثر، أن يصدق المرء دفاعه الشرس عن المسلمين من مذاهب أخرى (شيعة قانا وعيتا الشعب وعيترون والجنوب اللبناني بأسره، مثلا!)، ضد «المسلمين الراديكاليين الفاشيين». فهل أقل يسرا، وصعوبة، أن نتخيّل هذا «اليساري» الذي يرفض انخراط الإسلاميين في الانتفاضة الشعبية ضد نظام دكتاتوري؛ أو ذاك «اليساري» الآخر الذي يريد من الشعب السوري أن يكون علمانيا تقدميا ثوريا صافيا طاهرا من كل إسلامي، وأن تكون الانتفاضة على هذه الشاكلة حصريا، وإلا سُحب عنها التأييد ورُفع التضامن؟ بيد أن السياسة في أبسط معانيها، وتأمّل المجتمع السوري في تركيبته التعددية، واستعراض وقائع 18 شهرا من عمر الانتفاضة، كلها عوامل كاشفة عن هذه الحقيقة الحاسمة: أن الإسلام السياسي، المعتدل أو المتطرف، لاعب بارز على الساحة السورية، ولكنه ليس اللاعب الوحيد البارز، ولا اللاعب الأبرز؛ وهو في قلب المعارضة، شاء المرء أم أبى، ومن الخير بالتالي اجتذابه، أكثر، إلى مشروع النضال من أجل سورية الديمقراطية؛ ولا هو البديل الوحيد عن سورية الاستبداد والنهب والمافيات وحكم العائلة، حتى إذا التقى هذا «اليسار» مع كل مشارب اليمين في الجزم بهيمنة الإسلاميين. وليس بخافٍ على أحد أن تنسيقيات الانتفاضة تضم العلمانيين والإسلاميين، الليبراليين والمحافظين، النشطاء المتمرسين والنشطاء المتدربين، أنصار رياض الترك وأتباع الشيخ العرعور... ولكن، أهذا عيب في التنسيقيات، واعتلال، أم مظهر عافية واغتناء؟ وكيف للتنسيقيات أن تمثل الأطياف الأعرض من المجتمع السوري، في مستوى الخط السياسي أو الفكري أو الثقافي مثل الموقع الاجتماعي أو السن أو الانتماء الإثني أو الديني، إذا كانت لا تتصف بكل ذلك التنوع، ولا تسعى إلى سواه أيضا؟ ليس خافيا، من جانب آخر، أن البيانات والأدبيات التي أصدرتها تلك اللجان لم تخرج، حتى في أصغر التفاصيل، عن مفردات شعار الإجماع: سورية وطنية، ديمقراطية، مدنية، تعددية، عصرية. ليس بخافٍ، أخيرا، أن «اليسار» الذي يغض البصر، والبصيرة، عن خلاصة سياسية اجتماعية مثل هذه، هو ذاته اليسار الذي صفق للانتفاضة بادئ ذي بدء، ثمّ ارتبك في تحليل مآلاتها اللاحقة، حتى جُوبه بتعقيدات المشهد، فحملق في «أخطاء» الانتفاضة، وغضّ البصر عن جرائم النظام؛ ثم ارتبك، وهرب إلى أمام، نحو «نقد بناء» هو محض غطاء لتنميطات إيديولوجية مسبقة الصنع، فكان محتوما أن ينحط إلى... حاضنة النظام!