وقع خلال الأسبوعين الماضيين حدثان قد لا يبدوان مرتبطين وإن كانا كذلك، مثل من يلقي بحفنة من الحصى على الأرض فتتشكل منها كلمة مقروءة. ظهر على الأنترنيت، فيلم بذيء يسيء إلى الإسلام والمسلمين فاندلعت المظاهرات في مصر وأنزل العلم الأمريكي من ساريته في السفارة الأمريكية في وسط البلد، وتلا العالم الإسلامي القاهرة واندلعت المظاهرات من شمال إفريقيا إلى وسط آسيا. ثم ظهرت على إذاعة الجيش الإسرائيلي تصاريح تفيد بأن إسرائيل تريد أن تحمي نفسها من المجاهدين المصريين في سيناء، وأن العمليات التي يقوم بها الجيش المصري ضدهم بالتنسيق مع تل أبيب غير كافية لتشعر هذه الأخيرة بالأمان، وقد نشرت جريدة «الشروق» المصرية في عددها الصادر يوم الأحد، الثالث والعشرين من شتنبر، تقريرا مفصلا عن الموقف الإسرائيلي. إن غضب العرب والمسلمين على الولاياتالمتحدة كامن، وينمو، ويبحث، مثل الحجر المصهور في باطن الأرض، عن فرصة ليعلن عن نفسه، وهو غضب تمتد أسبابه من دعم أمريكا الدائم لإسرائيل إلى حصار العراق وغزوه. إن بعض محبي واشنطن والمعجبين بها أو الخجلين منها عندنا، وصفوا المتظاهرين في مصر، والذين لم يؤذوا أحدا أذى بدنيا بل عرضوا أنفسهم للأذى والاعتقال، بالهمجية، وكأنهم نسوا أن الولاياتالمتحدة قتلت مليون نفس في حصار العراق، أكثر من نصفهم أطفال، حسب تقديرات منظمة رعاية الطفولة التابعة للأمم المتحدة من عام واحد وتسعين حتى عام ألفين وثلاثة، ثم قتلت منهم مليون نفس أخرى حين احتلت البلد وأشعلت بين طوائفه حربا أهلية من عام ألفين وثلاثة حتى عام ألفين وأحد عشر. ولا يقل عن هذا القتل سوءا أنه تم بدعوى امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، ثم بدعوى إقامة نظام ديمقراطي فيه، فلما تبين أنه لا سلاح ولا ديمقراطية اكتفت واشنطن بابتسامة المحرج، كأنها ضيف كسر ابنه كوبا فابتسم، وعلينا نحن أيضا أن نبتسم: «حصل خير»، ثم علينا أيضا أن نكون متحضرين فننسى ونهنأ بقمح المعونة. أضف إلى ذلك أننا منذ ثلاثين سنة نقصف بطائرات أمريكية، سواء قادها أمريكيون أو إسرائيليون، من قصف لبنان عام اثنين وثمانين إلى قصف الأعراس في اليمن والعراق وباكستان وأفغانستان وغزة والضفة الغربية. إن هذا الفيلم، ومن قبله فيلم كيرت فلدرز الهولندي، ومن قبله الرسوم الدنماركية، لو كان ظهر في الكاميرون أو الباراغواي لما أثار كل هذا الغضب. إن المزاح، حتى المزاح، لو جاء من نواحي واشنطن وحلفائها الأطلسيين بعد كل هذا الدم، فمن الطبيعي أن ينتج ما رأيتم من مظاهرات. إن الحكومة الأمريكية لا علاقة لها بالفيلم، هذا صحيح، ولكن لها علاقة بالقتل الذي أنتج الغضب الذي كان الفيلم فرصة للتعبير عنه. واشنطن لم تنتج الفيلم، ولكنها بنت غوانتنامو وباغرام وسمحت لجنودها بأن يلقوا بالمصاحف في الحمامات، والناس في القبور. إن من يدين من لونوا حوائط السفارة في مصر عليه أن يدين من هدموا حوائط البيوت على أهلها. إن ما جرى قي بلدان أخرى مجاورة من قتل في غير حالة دفاع عن النفس أمر مدان، ولكن ما جرى في مصر هو تعبير عن غضب مفهوم لم ينتج عنه أذى لأحد من الناس إلا للمتظاهرين أنفسهم. وانتقالا إلى النقطة الثانية، فإنني أزعم أن لهذا الغضب الذي رأيناه في الشوارع قيمة دفاعية. إن إسرائيل، ومعها الولاياتالمتحدة، تدركان حقيقة مشاعر المصريين، وتدركان أيضا قدرتهم على الحشد، وأنه ليس من قبيل الصدفة أن العلمين اللذين أنزلا في مصر منذ الثورة، حصرا، هما العلمان الإسرائيلي والأمريكي. لذلك فإن تهديد إسرائيل بأي عمل مفتوح لها في سيناء إما كذب أو حمق، لأن تل أبيب تعلم بأن تدخلها سيولد ضغطا شعبيا هائلا على الحكومة المصرية تكون بسببه أمام خيارين، إما أن تلغي اتفاقية السلام وتواجه التدخل الإسرائيلي بالقوة دفاعا عن سلامة التراب المصري أو، ببساطة، أن تسقط. فإذا وصلت الأمور إلى القوة، فإن الإسرائيليين الذين لم يفلحوا في لبنان لن يفلحوا في مصر. والجيوش النظامية تتعب في الأراضي الجبلية وفي الكثافة السكانية، وسيناء لها الصفة الأولى، وعمق سيناء الاستراتيجي في الدلتا له الصفة الثانية. كما أن إسرائيل مهددة في جبهتها الشمالية بحزب الله، وفي جبهتها الشرقية بإيران، وفي جبهتها الجنوبية بحماس، وفي جبهتها الداخلية بمليون ونصف المليون من العرب الذين لن يقفوا هذه المرة موقف المتفرج، وكل هذه عناصر لم تكن موجودة عام سبعة وستين. وبالمناسبة، فإن إسرائيل لم تحرز نصرا حاسما في أي حرب دخلتها منذ ذلك التاريخ. والعرب والمسلمون المنقسمون اليوم على أنفسهم، سنة وشيعة، لن يبقوا منقسمين إذا تحركت إسرائيل في أي اتجاه كان. والمنطقة أشبه بحقل من الألغام إذا انفجر لغم واحد انفجرت كلها، وأي مناوشة بين إسرائيل وأي من جيرانها من المحتمل جدا أن تتحول إلى حرب إقليمية تمتد من وسط آسيا إلى البحر المتوسط. ربما لم تكن إسرائيل تكترث من قبل لمشاعر المصريين، ولكن بعد أن أدت هذه المشاعر إلى إسقاط حسني مبارك، فإن الشعب المصري، ومشاعره، لم يعد خارج المعادلة الإقليمية. ولما كانت المظاهرات أمام السفارة الأمريكية تعبيرا آخر واضحا عن هذه المشاعر واتجاهها، فإنني أزعم أنها تساهم في ردع إسرائيل عن أي تهور، وتساهم في أن تدعو واشنطن إسرائيل إلى التريث قبل ارتكاب أي حماقة، لا في حدودها الجنوبية فحسب، بل في المنطقة كلها. إن شباب الميادين لا يدركون كم تخافهم عواصم الظالمين في هذا العالم، ولا يدركون كم هم أقوياء. إنني لا أخاف على مصر من أي تدخل إسرائيلي لأنه، على الأرجح، لن يحدث، ولو حدث -لا قدر الله- فسيفشل فشلا ذريعا، بل أخاف على مصر من تعاون الحكومة المصرية وتهاونها مع إسرائيل وأن تظن القيادة في القاهرة أن أفضل وسيلة لحماية سيناء من الاحتلال الإسرائيلي هي أن تقوم القوات المصرية بتأمين إسرائيل بدلا من القوات الإسرائيلية، أو أن تتعاون الحكومة المصرية مع إسرائيل وتتكتَّم على ذلك فلا يعرف الناس شيئا عنه. إن هذه السياسة إن كانت هي المطبقة فإنها لن تنفع مصر في شيء. إن أي جهد تبذله مصر في تأمين إسرائيل لن يكون كافيا لهذه الأخيرة، أولا لأن تل أبيب مصابة بالبارانويا الاستراتيجية المزمنة، وثانيا لأن الحملات العسكرية والأمنية لن تجدي نفعا مع سكان سيناء بل ربما زادت من استفزازهم. وبما أن هذا الشهر تمر ذكرى ثلاثين عاما على مذبحة صبرا وشاتيلا، فلنتذكر أنه عندما حكم لبنان من كانوا يؤمنون بأن قوته هي في ضعفه، وأن المقاومة تشكل عبئا عليه، احتلت بيروت، وأخرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت، ووعدت بضمان سلامة المخيمات، ثم ذبحت أُسر المقاومين غدرا في غيابهم، ولم يحصل لبنان مع ذلك على أي أمن. ولكن حين حكم لبنان من كانوا يرون أن قوته هي في مقاومته، تحرر البلد. يا أهل مصر، أنتم أقوى بكثير مما تظنون.