الأحداث الكبرى التي كانت تنقل البلاد العربية، وما حولها إقليميا، من مرحلة إلى أخرى جاءت خلال السبعين سنة الماضية من اعتداءات وحروب يشنها الكيان الصهيوني أو من تغييرات نوعية تحدث في مصر، وهذا دون التقليل من أهمية متغيرات حدثت وتحدث في أقطار عربية أخرى. أما الأمثلة لما جاء من الكيان الصهيوني، فتبدأ بإقامته وحرب 1948 وتهجير حوالي مليون فلسطيني، ويمر بالعدوان الثلاثي وحرب عدوان يونيو 1967 وتداعياتها. وأما الأمثلة لما جاء في مصر، ومن مصر، ففي ثورة 23 يوليوز 1952 وما تداعى من مرحلة ناصرية حكمت الوضع العربي العام لعقدين من الزمن ثم مرحلة السادات-حسني مبارك لأربعة عقود، ثم ثورة 25 يناير 2011 وتداعياتها. على أنه في السنوات العشر الأخيرة أحدث محور المقاومة والممانعة -سوريا وإيران والمقاومتان اللبنانية والفلسطينية ثم المقاومة المسلحة والشعبية ضد الاحتلال الأمريكي للعراق- متغيرا كبيرا في ميزان القوى العربي في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني. وقد تمثل في تحرير جنوب لبنان وتحرير قطاع غزة وفي الانتصار في حربي 2006 و2008/2009 في كل من لبنان وقطاع غزة، وفي إسقاط مشروع المحافظين الجدد (الشرق الأوسط الكبير) ثم برحيل الاحتلال الأمريكي من العراق دون قيد أو شرط. لقد أريد بهذه المقدمة السريعة لفت الانتباه، مرة أخرى، إلى ما يحدثه الكيان الصهيوني من عدوان اغتصابي للمسجد الأقصى. وقد أخذت الولاياتالمتحدةالأمريكية تدعمه وتهيئ لإنجازه. ثم ما قد يحمله ذلك من تغيير في الوضع العربي والإسلامي العام سوف يفاجئ ويهز ما تشهده الآن البلاد العربية من متغيرات أحدثتها الثورات العربية منذ 2011 وتداعياتها المختلفة. فكل ما يمكن أن يقرأ من توقعات لمسارات الوضع العربي والإقليمي ضمن الصورة الراهنة وما تحمله من اتجاهات وتوجهات مستقبلية قد يؤثر تأثيرا عميقا في المعادلة السائدة الآن بسبب ما يجري في القدس والمسجد الأقصى على الخصوص. طبعا إلى جانب تداعيات ازدياد احتمالات حرب عدوانية أمريكية-صهيونية على إيران. يجب أن يلحظ في ما يتعلق بما يجري من حفريات تحت المسجد الأقصى ومن قرار صهيوني بوضع اليد على باحته واعتبارها مرفقا عاما يتبع للبلدية الصهيونية في القدس، ثم مشروع اقتسام وقت الصلاة بين المسلمين واليهود فيه، كما حدث في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل. ثم أخيرا وليس آخرا، وهذه ثالثة الأثافي والإنذار الأخطر، حيث صدر تقرير عن لجنة الأديان في وزارة الخارجية الأمريكية انتقد منع اليهود من الصلاة في باحات المسجد الأقصى، معتبرا ذلك المنع «شكلا من أشكال منع الحريات الدينية». لا يمكن أن يفهم هذا التقرير الصادر عن لجنة الأديان في وزارة الخارجية الأمريكية، مع إعلانه رسميا، إلا باعتباره سياسة أمريكية سوف تضع كل ثقلها إلى جانب تنفيذ المشروع الصهيوني المتدرج على مراحل، مبتدئا بالحفريات تحت المسجد الأقصى، ومنتقلا إلى اقتسام الصلاة بين اليهود والمسلمين في باحاته، وصولا إلى بناء الهيكل المزعوم في مكانه. وبالمناسبة، بسبب الحفريات تحت المسجد الأقصى أصبح بنيان المسجد مهددا بالانهيار إذا ما تعرض لهزة أرضية خفيفة جدا. وقد كان هذا الهدف على رأس أهداف الحفريات التي ادعت البحث عن أثر للهيكل المزعوم أو أي أثر يهودي آخر. وقد تأكد منذ البداية أن البحث عبثي وباطل، ولكنها استمرت وأخذت تتضاعف. هذا التقرير الأمريكي الرسمي أو شبه الرسمي (سيّان) يؤكد، مرة أخرى، أن الولاياتالمتحدة اليوم ليست أمريكا «الآباء المؤسسين»، وليست أمريكا آيزنهاور وكيندي ولا حتى أمريكا بوش الأب، فقد أصبحت الآن صهيونية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فالنفوذ الصهيوني وتأثيره في القرار الأمريكي لم يعد مجرد أداة ضغط (لوبي) متنفذة كما كان عليه الحال إلى ما قبل عقدين، ولاسيما قبل العقد الأخير. فهذا النفوذ الآن أصبح متحكما في الكونغرس أكثر مما للقيادة الصهيونية في كنيست الكيان الصهيوني في فلسطين. وأصبح استصدار قرار للكيان الصهيوني في الإدارة الأمريكية يلقى معارضة أقل من استصدار مثيله في الحكومة الصهيونية. ومن ثم فلا يتوهمن أحد في صداقة أمريكا أو في السياسات الأمريكية واتجاهاتها، إذ أصبحت خاضعة للمرور حتما من المنخل الصهيوني إن لم تنشأ من ممثلي النفوذ الصهيوني أنفسهم أو ممن أصبحوا أشد صهينة منهم، وإلا فكيف يمكن أن تفسر المواقف الأمريكية وآخرها تقرير لجنة الأديان في وزارة الخارجية الأمريكية بغير هذا التماهي الحاصل بين الصهيونية والسياسات الأمريكية. بل كيف يمكن أن يفسر هذا التمادي على المسجد الأقصى في الوقت الذي تدعي فيه إدارة أوباما الانفتاح على الثورات العربية، بما في ذلك على التيارات الإسلامية، ولاسيما الإخوان المسلمون. فكيف تدعم إدارة أوباما عملية تهويد المسجد الأقصى وإشراك اليهود في باحاته ودعوة السلطات الصهيونية إلى وضع اليد عليها وفتحها للصلاة من قبل «غير المسلمين»، ويقصدون اليهود بالتحديد، أوليس ثمة غيرهم يسعى إلى ذلك أو يطالب به، ثم تتوقع أن ينجح ما تدعيه من انفتاح على المتغيرات المستجدة في الوضع العربي؟ لا يمكن أن تكون الإدارة الأمريكية بكل هذه السذاجة حين لا تلحظ التناقض الصارخ بين موقفيها؛ ولهذا فهي تعلم علم اليقين بأن انفتاحها عملية نفاق وذر للرماد في العيون حين لا تستطيع حتى إقناع سلطة رام الله بقبول تقرير لجنة الأديان أو ابتلاعه؛ فهل يمكنها أن تقنع عربيا واحدا، أكان مسلما أم مسيحيا، ناهيك عن مسلمي العالم بحق اليهود في الصلاة بباحة المسجد الأقصى أو بالحفريات تحته. وبالمناسبة، ثمة اعتداءات صهيونية كثيرة على المقدسات المسيحية في فلسطين، بل إن تهويد القدس يشكل تحديا للمسيحية العربية بإطلاق وللمسيحية العالمية ما عدا قلة ممن تصهين منها، ولاسيما في الولاياتالمتحدةالأمريكية. المهم، يتوجب على النظرة الاستراتيجية لمستقبل الوضع العربي بالخصوص والإسلامي بالعموم، أن تضع في حسابها أن إنجاز المشروع الصهيوني في إتمام عملية تهويد القدس من خلال فرض اقتسام الصلاة بين اليهود والمسلمين في باحات المسجد الأقصى سيشكل حدثا من النوع الثقيل الذي سيؤثر في الوضع العربي كله، وذلك إلى حد الطغيان على ما عداه من متغيرات راهنة أو متوقعة مستقبليا. وهذا المتغير متوقع لا من قبيل الافتراض، وإنما هو محكوم بما يجري العمل لإنجازه صهيونيا وأمريكيا في القدس والمسجد الأقصى. إن إنجاز المشروع الصهيوني المدعوم أمريكيا سوف يفجر الشارع العربي والإسلامي حتى في الأقطار التي لم يتحرك فيها الشارع بعد، وسيكون الإخوان المسلمون والسلفيون والقوميون والليبراليون الوطنيون وكل المساجد الإسلامية والكنائس المسيحية صفا واحدا. تصور البعض أن الثورات العربية عموما ابتعدت عن فلسطين بسبب انشغالاتها وأولوياتها الداخلية، أو بسبب محاولات أمريكا اختراقها وإبعاد بوصلتها عن القضية الفلسطينية، أو بسبب بعض القيادات التي ردت على «التحية» الأمريكية ب«أحسن» منها، وبغض النظر عن تقدير كل طرف لطبيعة العلاقة بأمريكا وآفاقها المستقبلية. هذا التصور خاطئ بالنسبة إلى تلك القيادات، كما يتجاهل طبيعة الشعوب العربية وتاريخها ووعيها ومكانة القضية الفلسطينية في قلوبها وشرايينها، فكيف حين يأتي الأمر ليمس قدسها ومسجدها الأقصى. ومن ثم فاستخدام عبارة «ابتعاد عن فلسطين» ملغوم. وإنما هي أولويات تتقدم فيما هي شبيهة بالرجوع خطوة إلى الوراء (على سبيل التشبيه، فهو ليس رجوعا) من أجل القفز خطوتين إلى الأمام، وإحداهما إلى فلسطين والوحدة العربية. أما أمريكا فهي بسبب صهيونيتها، ودعك من أطماعها الإمبريالية، كفيلة بتصحيح البوصلة، وقد فعلت ذلك من قبل مع الكثير من حركات التحرير في العالم، فكم من شهر عسل تحول إلى شهر بصل أو فلفل يفرك في العيون، بل أكثر. المهم توقعوا متغير القدس والمسجد الأقصى وأنتم تستشفون احتمالات المستقبل وما هو آت، بل حتى وأنتم تقوّمون الوضع الراهن، وهذا متغير واحد، ولكن ليس الوحيد، وفي الاتجاه نفسه. منير شفيق