أثار وصول الإسلاميين إلى السلطة في عدة مناطق من العالم العربي، بعد ما سمي الربيع العربي، ويثير أسئلة عدة حول قضايا السلطة والحكم والمسألة الدينية والتعددية داخل الحقل الإسلامي نفسه. الكتاب الذي تنشره «المساء» على حلقات يفتح ملف الإسلاميين بين الدين والسلطة ويحاول تقديم إجابات عن العديد من الأسئلة التي طرحها الإسلاميون منذ ظهورهم إلى اليوم: كيف تعامل الإسلاميون مع قضية الخلافة؟ وكيف تم الانتقال من التنظير للخلافة إلى التنظير للدولة الوطنية؟ ولماذا تأخر الاعتراف بالديمقراطية كثيرا لصالح الشورى؟ وما علاقة ممارسة الحكم بالنص؟ وهل يشكل وصول الإسلاميين إلى السلطة نهاية الرحلة أم مجرد بداية لتفجير قضايا جديدة؟.٫ يتزامن ميلاد الحركة الإسلامية في العصر الحديث مع الانقلاب الكبير الذي وقع في تفسير الدين والتعامل معه والاجتهاد فيه. فقد دخل العالم العربي والإسلامي، مع بداية القرن العشرين، مرحلة جديدة لم تكن لها سابقة في التاريخ. فبعد أن كان المسلمون أمّة تحت سلطان واحد أصبحوا متفرقين تحت سلاطين متعددين.. وبعد أن كان الإسلام هو الذي يحكم من أعلى هرم السلطة -على الأقل في الظاهر- أصبحت هناك دعوات تجهر بنزعات عرقية أو قومية أو بنقل تجارب الغرب ووضع القوانين المدنية مكان الشريعة الإسلامية. وفي الوقت الذي كان المسلمون خاضعين ل»خليفة» يقف على رأس إمبراطورية ممتدة أصبحوا يخضعون لحكام جدد لا أحد منهم يثير مسألة الخلافة. ووسط هذه الفتنة العمياء التي لا سابق لها، لم يكن هناك مجال لسماع أصوات الاعتدال أو التوفيق بين المواقف، على أساس أن الإسلام يبقى هو الإطار العامّ وأن نقل تجارب الغرب وفق اجتهاد مرِن ليس خروجا من الدين، كما فعل السابقون، لسبب يبدو الآن واضحا وهو أن الغرب الذي أشرف على تفكيك العالم الإسلامي كان هو نفسه من يشرف على هذا النقاش ويحسمه لصالحه سلفا. وبكلمة أخرى، فإن هذا النقاش حول الموازنة بين الإسلام والتجارب الغربية لم يكن انعكاسا لواقع داخلي في العالم الإسلامي أملاه النضج والحاجة إليه، وكانت أطرافه داخلية وسيدة نفسها، بل فرضه الغرب الذي كان يدرك أن المعركة التالية بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية هي أن يجعل الدين الإسلامي يلقى نفس مصير المسيحية. ولم يكن من الصعب أن ترى الحركة الإسلامية في هذا النقاش غير المؤسس نوعا من الهجوم على الإسلام أو صليبية جديدة. كما لم يكن من الصعب أن ترى في الدولة الوطنية الحديثة رديفا للاستعمار وهي تسلم مقاليدها للغرب دون أن تقوم بأي دور لصد هذا الهجوم ودون أن تعمل ما فيه الكفاية لحماية الدين. لقد كان لمختلف مظاهر الفتنة المعاصرة مماثل لها في تاريخ الإسلام، ذلك أن قضية الانحراف من العدل إلى الجور أو عدم اللجوء إلى الشورى أو الاستبداد السياسي أو الخضوع للقوى الأجنبية أو مظاهر الانحراف السياسي الأخرى، كلها وجدت في تاريخ الإسلام، حسب المراحل ووفق مقتضيات موازين التدافع في الداخل والخارج، وهي كلها مظاهر كانت تتعرض للنقد من طرف فئات من العلماء كانت ترى مهمتها في المجاهرة بالإصلاح. كما كانت تلقى نوعا من التأييد الضمني أو المُصرَّح به من قِبل فئات أخرى من العلماء كانت ترى أن ذلك من باب توقي الفتنة وإراقة الدماء. بيد أن الأمر الجديد والأهمّ الذي وقع في العصر الحديث وغطى على مختلف تلك المظاهر ثم حوّلها إلى مجرد أجزاء في بناء متكامل هو سقوط الخلافة العثمانية. لقد أصبح زوال الخلافة يعني هنا، بشكل ضمني، زوال الإسلام نفسِه، فطالما أن الخلافة سقطت فإن الإسلام هو الآخر قد سقط معها. وبالتدقيق في هذه الأطروحة جيدا سنلاحظ أن اللا وعي الإسلامي الحديث قد ربط بطريقة ميكانيكية بين إقامة الخلافة وإقامة باقي أركان الدين، وأن وجود الخلافة في الماضي كان يعني اكتمال الإسلام، رغم الانتقادات الواسعة لواقع الخلافة في العصور الماضية واتهامها بالتقصير. إن هذا التحول الذي وقع في بدايات القرن وواكب نشأة الحركة الإسلامية يشبه تقريبا ذلك التحول الذي حصل بعد مقتل الإمام علي بن أبي طالب وتولي معاوية بن أبي سفيان السلطة. فقد أجمع الفقهاء والمؤرخون على أن ذلك كان أولَ انحراف ديني وسياسي عن المنهاج النبوي، بل أطلق على حكم معاوية اسم «الملك العضوض»، لأنه تحول من حكم على مجرى الشورى بين الجماعة إلى حكم على مجرى التغلب، غير أنهم سلّموا به لسبب تتضمنه كتب الفقه السياسي القديمة، التي أقرّت إمامة المتغلب، ولم يشذ عن هذا «الإجماع» سوى فرقة «الخوارج»، الذين كانوا أول من رفع السيف في وجه السلطة في تاريخ الإسلام، ورأوا أن عليا ومعاوية هما أصل المشكلة، ولذلك اجتمعوا في ما بينهم «وقالوا إن عليا ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقه».. بيد أن تسليم فقهاء تلك المرحلة بحكم معاوية كان أيضا لسبب آخر، وهو أن الخلافة ظلت قائمة كما ظلت الفتوحات مستمرة وبقيت الإمبراطورية الإسلامية موحدة، ولذلك انصبّ التشكيك لدى هؤلاء الفقهاء على عدم توفر بعض شروط التولي وليس على مشروعية الدولة، التي بقيت قائمة بمؤسساتها ونظامها القانوني، كما بقي مفهوم الجماعة والإجماع قائما. أما ما وقع في العصر الحديث فهو يختلف عن المرحلة السابقة في أن الأمر أصبح يتعلق ب«سقوط» الخلافة، التي استمرت أربعة عشر قرنا، وليس بمجرد «انحراف» عنها، كما وقع في عهد معاوية. كما لم يعد الانحراف انحرافا عن الشروط الشرعية التي وضعها الفقهاء لتولي منصب الخلافة، بل أصبح انحرافا عن الدين كله، طالما أن الخلافة لم تعد موجودة من الأصل، ومن هنا ارتبطت نشأة الدولة الحديثة بالخروج عن الإسلام في عرف الحركة الإسلامية. وما تسبب في هذه الحيرة أن الفقه السياسي الإسلامي وضع في إطار الخلافة ولأجلها، فقضايا الشرعية والحكم هي قضايا وُضِعت لتنظيم هذه المؤسسة الكبرى التي تسمى الخلافة، ولم توضع للتعامل مع الدولة المستقلة، بل إن هذه الأخيرة ترتبط في تاريخ الإسلام بالخروج عن الخلافة والتمرد عليها، ومن تمة فهي فاقدة للمشروعية.. وهذا ما يفسر أن الحركة الإسلامية لم تعترف بالدولة الوطنية لمدة طويلة، ليس فقط لأنها رفضتها منذ البداية كمظهر من مظاهر التجزئة الاستعمارية لضرب الخلافة، بل أيضا لأنها لم تجد أمامها في الموروث الفقهي قواعد محددة في كيفية التعامل معها، ولذلك رأت فيها، منذ البداية، تعبيرا عن العصبية وانحيازا إلى الغرب. وينبغي النظر إلى نشأة الحركة الإسلامية في النصف الأول من القرن العشرين باعتبارها عنوانا ل«الانشقاق الديني» الذي وقع في إسلام العصر الحديث وعلى أنها كانت إيذانا بحدوث أول انقسام داخل المجتمع العربي الإسلامي الحديث بين فسطاطين، الأول تمثله هذه الحركة نفسها، والثاني يمثله الباقون. فقد أصبحت الحركة الإسلامية ترمز إلى الدفاع من أجل حكم الدين، فيما أصبحت الأطراف المقابلة، بمختلف تشكيلاتها، ترمز إما إلى تهميش الدين من الحياة العامة أو تقليص موقعه في المجتمع أو محاربته بشكل صريح. ونظرت هذه الحركة، منذ البداية، إلى هذه المكونات الثقافية والفكرية والسياسية الأخرى بوصفها خصما سياسيا وليس بوصفها -أو بعضها- ذات اجتهادات خاصة يمكن التلاقي أو الحوار معها. وبسبب غلبة هذا التوجه السياسي على الحركة الوليدة جرى «تقزيم» مطلب الإحياء الديني في بناء الدولة الإسلامية، وشكّل ذلك تأسيسا للقطيعة مع تيار الإصلاح الأول الذي تزعّمه الرعيل الأول من المصلحين المسلمين، فلم يعد الحديث يتم عن إحياء دور الاجتهاد وإطلاق باب الحرية أمام المسلمين ورفع يد الدولة عن حريات المواطنين وفهم الإسلام فهماً صحيحا انطلاقا من ينابيعه الأولى، بل جرى اختزال كل تلك المطالب السابقة في مطلب وحيد هو إنشاء الدولة الإسلامية.