التدخل الخارجي العسكري في الشأن السوري، أيا كانت صفته والجهة أو الجهات التي يمكن أن تنخرط فيه، ليس طريقا أحادي الاتجاه، يعارضه المرء -كما أفعل شخصيا، ويفعل كثيرون سواي- لأنه يُلحق الضرر الشديد بانتفاضة الشعب السوري، ويسرق روحها ومنجزاتها وتضحياتها، ويصادر إرادة الشعب السوري في غالبيته الساحقة. هنالك مَنْ يعارض هذا التدخل اتكاءً على أغراض أخرى، نقيضة تماما، بينها إطالة أمد الصراع مع نظام الاستبداد والفساد والتوريث، بحيث تُستنزف سورية حتى الرمق الأخير، لصالح أجندات شتى، محلية وإقليمية ودولية. وليس خافيا، إلا على السذج والحمقى، أن مَن يسمّون أنفسهم «أصدقاء الشعب السوري» ليسوا بالضرورة أصدقاء الانتفاضة، أو دعاة التغيير الديمقراطي في بلدان الشرق الأوسط عموما، ومواقفهم تتحرّك وفق اعتبارات الخصومة مع النظام، لا صداقة سورية المستقبل. على رأس هذه الأجندات، وأخطرها ربما، تلك التي ترى أن النظام الحالي («الشيطان الذي نعرفه» في التعبير الأنغلو أمريكي الشائع)، خير لأمن إسرائيل، ولخدمة مصالحنا الأخرى في المنطقة، من ذلك البديل الآتي بعد آل الأسد: «الشيطان» الذي لا نعرفه بعد، المحفوف بالمخاطر والاحتمالات، «الإسلامي» أغلب الظن وعلى غرار ما شهدته تونس ومصر. وبالطبع، لا أحد يعلن هذه الأطروحة، على هذا النحو المكشوف، إذ ثمة على الدوام مسوّغات أخرى تفضي إلى الخلاصة ذاتها، من بوّابات مختلفة، مواربة وكاذبة، تذرف دموع التماسيح على «عسكرة» الانتفاضة، وتسلل «القاعدة» إلى صفوفها، وما يُنسب إلى بعض أفراد «الجيش السوري الحرّ» من انتهاكات وإعدامات ميدانية، فضلا عن واجب الغرب في حماية الأقليات الإثنية والدينية والطائفية. المثال الذي يقفز إلى الصدارة -دون إبطاء، ودون منازع!- هو الكاتب الأمريكي اليهودي الشهير دانييل بايبس، كاره العرب، والخائف أبد الدهر من المسلمين، بامتياز يكاد أن يكون نسيج وحده، وبدرجة من «الثبات على المبدأ» يُحسد عليها الرجل حقا. وليس الأمر أنّ مواقف بايبس تنبثق من منطلقات خوافية، استيهامية، أو عنصرية، من الطراز الرائج هذه الأيام في الغرب، فحسب؛ بل كذلك، وأولا، لأن الرجل صهيوني العقيدة، إسرائيلي الانحياز (الأعمى، المطلق، الأقصى، كما يتوجب التشديد)، ليكودي الهوى (في زمن عزّ العثور فيه على ليكودي إسرائيلي «أصيل»!). والرأي في الانتفاضة السورية بدأ عنده، منذ أواسط السنة الماضية، على القاعدة الذهبية العتيقة، المعلَنة (الرهاب من وصول الإسلاميين إلى السلطة)؛ والغرض الذهبي العتيق، الخفي (مصلحة إسرائيل، والخشية من «قوس سنّي» يتشكل ضدها، من تونس إلى مصر إلى غزّة، وصولا إلى سورية ما بعد الأسد. مدهش، مع ذلك، أنّ إطلالته على «الربيع العربي» كانت متفائلة في البدء، ليس دون تعليق انتفاضات العرب على أكثر من مشجب، يأتي في طليعتها ما يسمّيه «الحرب الباردة الشرق أوسطية» تارة، أو «الشطرنج الإقليمي» طورا؛ ولكنه لا يحيلها، مرّة واحدة، على إرادة الشعوب، والتعطش إلى الحرّية والكرامة والديمقراطية، إزاء قبائح أنظمة الاستبداد والفساد. ولديه، في تشخيص عناصر هذه الانتفاضات (التي يحصرها بين «التمرّد» و»العصيان»، وليس الانتفاضة الشعبية أو الثورة)، ثلاثة مستويات من «التأمل». الأوّل هو أنها ثمرة تصارع فريقَيْ الحرب الباردة الإقليمية: معسكر إيران و«المقاومة»، الذي يضمّ سورية وتركيا وغزّة ولبنان وقطر، ويسعى إلى «هزّ أركان النظام القائم، واستبداله بآخر إسلامي أكثر تقوى، وأشدّ عداء للغرب»؛ ومعسكر السعودية، وهو صفّ «الأمر الواقع»، الذي يضمّ معظم ما تبقى من دول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، و»يفضّل الحفاظ على الأمور كما هي، في قليل أو كثير»؛ المعسكر الثاني «يتمتع بخاصية تقديم رؤية»، والمعسكر الأوّل يتميز ب«القدرة على نشر المدافع، والكثير منها». المستوى الثاني من تأملات بايبس هو أن «التطورات» في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وسورية ذات مغزى كبير، ولكن الدلالة الكبرى هي في ما ينتظر «العملاقين» قائدَي المعسكرين، إيران والسعودية. صحيح أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمكنت من احتواء الاحتجاجات الشعبية في يونيو 2009، على خلفية الانتخابات الرئاسية؛ إلا أن النار ما تزال تحت الرماد، وانهيار «نظام الخميني» ليس بعيد الاحتمال، وعواقب حدث كهذا تشمل أمن إسرائيل، والأمن النووي في المنطقة، ومستقبل العراق، وسوق الطاقة الدولي، و»معسكر المقاومة» ذاته في المقام الأول. ورغم أن السعودية تتباهى بنظام مستقر، تقوم ركائزه على «مزيج فريد من العقيدة الوهابية، والسيطرة على مكة والمدينة، واحتياطي النفط والغاز»، إلا أن «الفوارق الجغرافية والإيديولوجية والشخصية بين السعوديين يمكن أن تتسبب في انهيار النظام». وهكذا فإن سيناريوهات سقوط آل سعود يمكن أن تضع المملكة في قبضة «الشيعة» الذين «يكرهون بقاءهم في مرتبة مواطني الدرجة الثانية»، والذين لن يتورعوا عن نقل المملكة إلى أحضان إيران؛ أو الوقوع في قبضة «الوهابيين المتشددين»، الذين يحتقرون ميل آل سعود إلى التحديث؛ أو في القبضتين معا، إذا وقع انشقاق في المملكة؛ دون انتفاء احتمال انتصار «الليبراليين»، الذين لا يعتدّ بهم الكثيرون، ولكنّ «التطورات» قد تضعهم في الصدارة. مستوى التأمل الثالث، والأهم في نظر المتأمل، هو أنّ «حركات التمرّد» العربية الأخيرة بدت «بنّاءة» و«وطنية» و«ذات روح مفتوحة»، فغاب عنها «التشدد السياسي في كل أنواعه، اليساري منه أو الإسلامي»، وكذلك غابت الشعارات المناهضة للولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل! فما الذي يقرؤه بايبس في ما يزعم من خصائص، يراها جديدة على الشارع العربي؟ أنها، ببساطة، انفكت تماما عن «تشدد القرن الماضي»، كما صنعه رجال من أمثال المفتي أمين الحسيني، جمال عبد الناصر، آية الله الخميني، ياسر عرفات، وصدّام حسين. ولهذا، وإذْ يمنحنا بايبس هبة الإقرار بأنه كان على الدوام متشائما حول آفاق الديمقراطية في العالم العربي، والإسلامي عموما، يتواضع صاحبنا فيتنازل ويهتف: أنا متفائل! بيد أن تفاؤله هذا يهبط إلى الدرجة صفر، عندما يتصل الأمر بالانتفاضة السورية، راهنها، ومشكلاتها، وآفاقها؛ ليس لأنه يرى احتمال خروج النظام ظافرا (إذْ يرى العكس في الواقع، ولا يتردد في الجزم بأن النظام سقط عمليا، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، داخليا وخارجيا، وبقي أن يتهاوى نهائيا)، بل لأن سورية ليست ليبيا، وهي أقرب إلى العراق: حتى إذا تدخل الغرب، فإن البديل سيكون إسلاميا، معاديا للغرب وللولايات المتحدة وإسرائيل، متشددا، على هيئة «شيطان لا نعرفه»، وهنالك مخاطر قيام كيان كردي في الشمال الشرقي، أو انتقال التوتر إلى علويي تركيا، بما يمنح أنقرة تفويضا بالتدخل العسكري؛ فضلً عن «حقيقة» أن البلد سوف ينقسم، وفق خطوط إثنية وطائفية، في كل حال! وهكذا، في أحدث مقالاته حول الشأن السوري، يرى بايبس أن الدعوات إلى تدخل عسكري تنشطر إلى ثلاث مجموعات رئيسية: «القلق السنّي»، و«الاهتمام الإنساني بوقف التعذيب والقتل»، و«القلق الجيو سياسي حول تأثير الصراع الدائر» على الجوار؛ وبالتالي، في الخلاصة، لا مصلحة للغرب في المخاطرة، استجابة لأي من مطالب هذه المجموعات. ذلك يجعله يهتف: لا تغرقوا في المستنقع السوري! لا تتدخلوا في الصراع الدائر! لا تتجاوزوا حدود العقوبات الاقتصادية! لا تدفعوا النظام إلى الارتماء، أكثر فأكثر، في الحضن الإيراني! مطالب حقّ، كما سيردد للمفارقة الصارخة، ولكن الممكنة تماما- «ممانع»، يحدث كذلك أنه يمقت بايبس، وإسرائيل، وأمريكا، والإمبريالية؛ أو مطالب حقّ يُراد بها باطل، كما سيساجل أي مطّلع على بيت القصيد، الدائم الدائب، في تفكير بايبس بالذات، وأضرابه هنا وهناك، ذلك لأن تفاؤله، اليوم، بخصوص «تمرّد» الشارع العربي، أسوة بتشاؤمه من مآلات الانتفاضة السورية؛ لا يصح أن ينفصلا عن تنظيراته السابقة حول رقاد العرب والمسلمين خارج التاريخ، في أحضان وحاضنات «الإرهاب الإسلامي» وحدها. أطروحته المركزية هي هذه: «المسلمون دخلوا في غيبوبة خلال القرنين الماضيين، وهي محنة أهل الله الذين وجدوا أنفسهم في أسفل الركام. ولا غرو أن بلاد الإسلام تضمّ معظم الإرهابيين، والحجم الأقل من الديمقراطيات في العالم». آخر معاركه ضدّ المسلمين كانت التشديد على عجز المجتمعات العربية والإسلامية عن الاحتفال بعيد الحبّ، في مقالة تفيد التالي: كل المعمورة تحتفي بيوم الحب، ما عدا الإسلام، الذي لا يأبى الاحتفال بهذا العيد الإنساني الجميل فحسب، بل يكرهه ويحرّمه. كيف؟ في ماليزيا يهدر المفتي ضد العيد، قائلا: «نحن المسلمين لسنا بحاجة إلى هذه الثقافة، وهي بوضوح مخالفة لتعاليم ديننا». وفي إيران، أمرت الشرطة الباعة بإزالة الزينات المرتبطة بالقلب والوردة، فضلا بالطبع عن الصور التي تظهر أي عناق بين ذكر وأنثى. وفي السعودية، نصّت الفتوى على أن الإسلام لا يعرف سوى عيد الفطر وعيد الأضحى، فحرّمت عيد الحب، وأمرت الشرطة بالتجوال على المحالّ والمخازن للتأكد من أنها لا تبيع الورود والهدايا الأخرى! بايبس، جريا على عادته، أخذ الناس بجريرة ما يفعله الحاكم أو الشرطيّ أو المفتي أو الإمام، وليس استنادا إلى ما يفعله المواطن نفسه، وما يؤمن به. وهو، دون مفاجآت، يتجاهل تماما ما فعله العشاق العرب والمسلمون في ذلك اليوم، ولا تشكّل الممارسة الفعلية أدنى قرينة دالة عنده. الخلاصة الذهبية هي أن كراهية عيد الحب مجرد تفصيل، ولكنها مع ذلك ترمز إلى مقصد أكثر جدّية وخطورة، هو «مناهضة الحداثة»؛ وبذلك فإن «الصراع الأجيالي والثقافي على بطاقات المعايدة التي تأخذ شكل قلب، يؤشّر على المعركة التي تدور اليوم حول روح الإسلام»... ليس أقل! وهو يستعيد ثقافة مرابطة الجيوش العثمانية أمام أسوار فيينا قبل مئات السنين، فيكتب: «هنالك أساس واقعي للخوف من الإسلام، فمنذ موقعة أجنادين سنة 634 وحتى حرب السويس سنة 1956، كان العداء العسكري هو المهيمن علي العلاقة المسيحية الإسلامية (...) وفي واقع الأمر لم يتوصّل الأوربيون إلى بناء دولتهم إلا عن طريق طرد المسلمين، ابتداء من استعادة إسبانيا في مطلع القرن الثاني عشر، وحتى حرب استقلال ألبانيا سنة 1912». ولكي لا يقع المرء في سوء فهم يجعله يظن أن الإرهاب مقيم في دار الإسلام وحدها، يذكّر بايبس بأن «مجتمعات أوربا غير مهيأة لهذه الهجرات الواسعة من المسلمين سُمر الوجوه، الذين يطبخون أطعمة غريبة، ويلتزمون بمعايير مختلفة للصحّة والحياة. إنهم، بعبارة أخرى، يهددون فيينا من داخلها أكثر من تهديدهم لها عند البوّابات». فهل التفاؤل، أو التشاؤم، بما تشهده شوارع العرب من «تطوّرات» يخفّف، أم يشدّد، احتمالات تهديد أسوار فيينا، مجددا؟ أم إن جوهر قلق بايبس هو هذا السؤال الآخر، المضمَر عنده عن سابق قصد: هل الديمقراطية العربية تهدد أمن إسرائيل، في الصميم والعمق والوجود؟ أليست مراقصة «الشيطان»، الذي نعرف، خير وأبقى؟