«لا تدعه يبقيك مستيقظا طوال الليل لأن اللغز لن تستطيع حله والأسئلة لن تجد لها أجوبة»، لكن في «أسرار غامضة طبعت التاريخ» نقوم بالإحياء الدرامي الدقيق لتلك الأسرار التي ألهمت الخبراء وأثارت اهتمامهم وأذهلتهم لقرون وعقود وجعلت من شخصياتها أساطير في الذاكرة. سوف نقوم بكشف حقيقة بعض الشخصيات الأسطورية من خلال اكتشاف أدلة ونظريات جديدة. حيث يدرك الشهرة العظيمة إلا بعد وفاته وصنّفه النقاد على أنه واحد من أعظم الفنانين التشكيليين في العالم، لكنْ خلْف شهرته العريضة قصة درامية ارتبطت بجنونه ثم انتحاره دون سن السابعة والثلاثين، إنه فنسنت فان غوغ.. غير أن ظهور أدلة جديدة تشكك في الراوية الرسمية التي ظلت لأزيد من قرن تؤكد بوثوقية انتحار فان غوغ أعادت فتح كل الأسرار التي تختفي وراء حقيقة «انتحاره». هل انتحر أم قتل؟ هل أنهى فان غوغ حياته، فعلا، منتحرا يوم 27 يوليوز عام 1890؟ الجواب بالنفي فجره صدور كتاب «فان غوغ: الحياة»، لمؤلفَيه ستيفن نايف وغريغوري وايت سميث، وهو كتاب فكّك الرواية الرسمية وأعاد تركيب ما حدث في ذلك اليوم البعيد من صيف 1890. يؤكد ستيف نايف، أحد مؤلفي الكتاب، أن فان غوغ لم ينتحر في حقل القمح، كما هو شائع، وإنما اغتيل أو قُتِل خطأ في فناء ضيعة في قرية أوفير -سور- واز الفرنسية من قِبَل أخوين مُراهقين.. تطلبت هذه الخلاصة المثيرة من الكاتبين، الحائزين على جائزة «بولتزر» سنة 1991، عشر سنوات من البحث والتقصّي، اطّلعا فيها على أرشيف متحف فان غوغ في أمستردام وعلى 28 ألف وثيقة، منها رسائل بعثها فان غوغ إلى أخيه ماثيو ومعارفه، توضح جريدة «لوفيغارو» أن «جيشا صغيرا من الموثقين والمترجمين» اشتغل مع الكاتبين الأمريكيين. ما حقيقة ما حدث بالتحديد يوم 27 يوليوز 1890؟ قبل كتاب «فان غوغ: الحياة» كانت هناك فقط رواية رسمية وحيدة ظلت المرجعَ الرئيس للأحداث في ذلك اليوم البعيد. لكنْ بعد صدور الكتاب الجديد، صارت هناك روايتان مختلفتان تتنازعان حقيقة واحدة عصية على القبض. روايتان متناقضتان تقول الرواية الأولى إن فان غوغ، الذي كان يقيم في قرية أوفير -سور -واز، بعدما أمضى عاما داخل مصحة للأمراض العقلية في جنوبفرنسا، غادر ذاك اليوم نزل رافو، وهو يحمل عُدّة الرسم، واتجه نحو أحد الحقول، كما اعتاد أن يفعل. لكن عوض أن يرسم أطلق رصاصة على قلبه من مسدس استلفه من آرثر رافو، صاحب النُزل.. غير أن الرصاصة أخطأت القلب، فعاد أدراجه بعد بضع ساعات نحو مأواه وهو ينزف، وهناك فارق الحياة بين ذراعي أخيه ماثيو، بعد يومين من الاحتضار.. شكك في وقائع هذه الرواية الكاتبان الأمريكيان، إذ أكد غريغوري وايت سميث أن «هذه الرواية ليست لها مصداقية». وسبب هذه الشكوك، حسب الكاتبين، وجود ثغرات عديدة فيها، تتعلق أولاها بالمسدس الذي لم يُعثَر عليه، والذي استلفه فان غوغ من صاحب النزل كي يقتل به نفسه.. والتساؤل المطروح كيف يعقل أن يعطيّ آرثر رافو المسدس لشخص يعاني من اضطرابات وغادر لتوه مصحة للأمراض العقلية؟!.. تكمن الثغرة الثانية في الرصاصة التي أنهت حياة فان غوغ، إذ يؤكد الكاتبان أن الأخصائيين اكتشفوا أن الرصاصة القاتلة اخترقت بطن الرسام الهولندي بزاوية مائلة وليس بشكل مستقيم، كما هو مفترض في حالات الانتحار.. «لنتذكر أنه لم يكن في ذلك العصر أي تحقيق طبي -شرعي أو أي تشريح للجثث». وأثار مكان الحادث هو الآخر شكوك الكاتبين، إذ تساءل ستيفن نايف: «لماذا يذهب شخص إلى حقل للقمح كي يرسم وهو يخطط في الآن ذاته للانتحار؟».. قبل أن يعلق على ذلك: «هذا غير مقبول، بكل بساطة». إضافة إلى ذلك، استغرب الكاتبان عدم وجود رسالة وداع يشرح فيها فان غوغ سبب إقدامه على الانتحار، هو الذي كان يردد باستمرار في رسائله المُتبادَلة مع شقيقه ثيو أن «الانتحار غير أخلاقي وخطيئة».. كما استغربا اختفاء عُدّة الرسم وكذا تقريرا أمنيا حول إصابة فان غوغ بتلك الرصاصة القاتلة. وحسب الكاتبين، فإنّ فان غوغ لم يصب بتلك الطلقة القاتلة في حقل القمح، بل في بهو ضيعة في زنقة بوشي، على بعد مئات الأمتار من النُّزل الذي يقيم فيه. وهما يستندان في ذلك على شهادة أحد الأشخاص، رأى الرسام الهولندي قبل وفاته بعدما سمع طلقا ناريا كان قادما من تلك الضيعة.. وترخي هذه الثغرات بظلال من الشك على نظرية الانتحار، التي ظلت هي المتبناة طيلة أزيد من قرن.. الدليل الثاني ما حكاه ريني سكريتان -المتهم بقتل فان غوغ- سنة 1956 بأنه حين كان مراهقا كان رفقة أخيه غاستون يزعجان ويتحرشان باستمرار بالرسام الهولندي كأن يضعا الملح في قهوته أو الفلفل على فرشاته أو ثعبانا في حقيبة الرسم.. الخيط الثالث لوحة رسمها فان غوغ لطفل يضع قبعة رعاة البقر على رأسه، ويعتقد الكاتبان أن الطفل المرسوم هو ريني سكريتان، «الذي شاهد سنة 1890 في باريس حفلا لرعاة البقر». ويضيف الكاتبان أن الأخوين المراهقين كانا مهووسين برعاة البقر وأنهما استلفا مسدسا من آرثر رافو، صاحب المأوى الذي كان يقيم فيه فان غوغ، من أجل قنص الطيور.. فهل يكون المسدس الذي قتل به الرسام الهولندي؟.. تأكيدات روالد حسب الرواية البديلة، التي تبناها ستيف نايف وغريغوري وايت سميث، فإنّ فان غوغ قُتِل في ذلك اليوم الصيفي من سنة 1890 بمسدس كان يحمله أحد الأخوين، اللذين كانا يقضيان عطلتهما الصيفية في قرية أوفير. «كان هذان المراهقان، اللذان كان أحدهما يرتدي في ذاك اليوم لباس رعاة البقر ويلهو بمسدس لا يعمل بشكل جيّد، معروفين بأنهما يأتيان لشرب الخمر رفقة الرسام»، قبل أن يضيفا أن اللعب بذلك المسدس ربما نتج عنه إطلاق تلك الرصاصة أو أن المراهقين كانا يقصدان، فعلا، إزعاج فان غوغ. من الصعب معرفة ما وقع بالتحديد في ذلك اليوم وربما لذلك ظل الكاتبان متأرجحين في روايتهما بين القتل العمد وغير العمد، وإن كانا يرجّحان فرضية القتل غير العمد، لأنه «من الصعب تخيل أن يكون للمراهقين أي نية في قتل فان غوغ».. في زيارة قام بها مؤرخ الفن جون روالد إلى مدينة أوفير، حيث التقى بعدد من الأشخاص أخبروه أن فان غوغ قُتِل من قبل مراهقين وأنه أخبر محيطه، وهو على فراش الموت، أنه حاول الانتحار حتى يحمي الأخوين المُراهقين.. وأشار جون روالد إلى أنه التقى مجموعة من الشهود أخبروه أنّ فان غوغ قُتِل عن غير قصد على يد أخوين مراهقين، أحدهما يدعى ريني سكريتان، كان في السادسة عشرة آنذاك، والآخر يدعى غاستون سكريتان، وأن الرسام الهولندي لم يشأ أن يقاضيّهما وفضّل أن يحميهما وأن «يلعب دور الشهيد».. وقد علق ستيفن نافي على هذه الفرضية قائلا: «تتماشى هذه الرواية مع الأحداث».. وفي رأيه، فإن فان غوغ، الذي كان يؤرّقه أن يكون حملا ثقيلا على أخيه ماثيو، وجد في حادث الرصاصة مَخرجا جيّدا تقبله بصدر رحب، وربما لذلك أجاب رجال الأمن حين سألوه إن كان حاول الانتحار أم لا بالقول: «أعتقد ذلك. لا تتهموا أحدا آخر»..