في إحدى مقابلاته التلفزيونية، قال الرئيس السوري بشار الأسد: «إنهم يسيطرون على الفضاء، ولكننا نسيطر على الأرض»، في إشارة إلى أن قوات جيشه وأمنه لها الكلمة الأولى والأخيرة على طول بلاده وعرضها؛ ولكن يبدو، وفق الأحداث الأخيرة في العاصمة دمشق والأطراف الحدودية، أن هذه السيطرة بدأت تتآكل تدريجيا بفعل النجاحات التي حققتها قوات المعارضة بانتماءاتها كافة. الرئيس الأسد حاول أن يقلل من أهمية خسارة «الفضاء» لمصلحة تعظيم أهمية السيطرة على الأرض، وكان مخطئا في ذلك في تقديرنا، لأن أشرس الأسلحة التي استخدمت لتقويض نظامه هي أسلحة الدمار الشامل الفضائية، وهي أخطر بكثير من كل الأسلحة الأخرى، فمن تقف محطات تلفزة من الوزن الثقيل ضده من الصعب أن ينتصر في نهاية المطاف، خاصة تلك التي حققت رصيدا عاليا لدى الشارع العربي، وظّفته في خدمة أجنداتها. الفضائيات المدعومة ماديا بشكل مهول هي التي سرّعت بهزيمة نظام العقيد القذافي، وربما كانت لا تقل فاعلية عن غارات طائرات الناتو وزحف قوات المجلس الوطني على الأرض. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يتم ضرب محطات التلفزة الليبية التابعة للنظام في اللحظات الحرجة من المواجهات، وشلّها بالكامل رغم بؤس تغطيتها وبرامجها. وعندما تتم كتابة تاريخ ثورات الربيع العربي في مرحلة لاحقة، ستظهر حقائق مفاجئة، بل ربما مرعبة، عن الدور المبرمج والموجّه لمحطات التلفزة في هذا الإطار، وفي ليبيا وسورية على وجه الخصوص. ولا بدّ من الاعتراف بأن حلول النظام الأمنية الدموية، وتاريخها الحافل في سحق كرامة الشعب وإذلاله لسنوات طويلة واستفحال الفساد، والتعاطي بفوقية ودموية مع الانتفاضة الشعبية في بداياتها السلمية، في انعكاس واضح لسوء إدارة الأزمة، بالإضافة إلى تخلف وسائل الإعلام المحلي وانعدام مهنيتها وحشوها بالموظفين عديمي الكفاءات ومن لون واحد مع وجود استثناءات قليلة، كلها عوامل سهّلت مهمة هذه الفضائيات لتعبئة الرأي العام السوري ضد النظام ولمصلحة المعارضة السلمية، ومن ثم المسلحة. اغتيال أربعة ضباط كبار، في عملية ما زالت غامضة، وجّه ضربة قوية إلى النظام السوري دون أدنى شك، ولكن الخسارة الأكبر جاءت معنوية قاتلة، تمثلت في سقوط المعابر الحدودية السورية في أيدي قوات الجيش السوري الحر، وبعض وحدات تابعة لتنظيمات إسلامية متشددة، مثل تنظيم القاعدة؛ فهذا التطور سيؤدي حتما إلى حالة من الفوضى في البلاد، وتعدد الجبهات والجهات المقاتلة والمتقاتلة. من الواضح أن النظام في سورية، وقد أدرك حجم التحديات التي تواجهه والقوى التي تريد إسقاطه، عربية كانت أو دولية، بدأ يتبع استراتيجية جديدة بالتخلي عن الأطراف، أو بعضها، من أجل إحكام، أو بالأحرى الدفاع عن العاصمة، وبعض المدن الرئيسية الأخرى لأطول مدة ممكنة. لا نعتقد أن الرئيس الأسد سيرضخ للضغوط المتعاظمة، من الداخل والخارج، التي تريده أن يتنحى ويغادر البلاد، ولا نستبعد أن يقاتل والمجموعة الموالية له حتى اللحظة الأخيرة، وإلا لما استخدم حلفاؤه الروس والصينيون حق النقض «الفيتو» ثلاث مرات في مجلس الأمن الدولي لمنع فرض أي عقوبات دولية على نظامه. الرئيس الأسد حسم أمره بتبني الخيار الجزائري، أي القتال بشراسة ضد الثورة المسلحة التي تريد إسقاطه، وهو الخيار الذي أدى إلى سقوط أكثر من 200 ألف قتيل، في حرب أهلية استمرت ثماني سنوات انتهت بانتصار النظام. الظروف التي اندلعت فيها الحرب الجزائرية مختلفة كليا عن نظيرتها الحالية في سورية، وأبرز أوجه الخلاف أن النظام الجزائري كان مدعوما من الغرب، بطريقة أو بأخرى، لمواجهة معارضة إسلامية متشددة، بينما يحدث العكس تماما في سورية، فالغرب يعادي النظام ومعه عرب الخليج وتركيا، ومصمم على إسقاطه، ويدعم هذا المعسكر المعارضة بشكل شرس، ماديا وعسكريا وإعلاميا. سورية تتحول وبشكل متسارع إلى حرب شوارع في المدن الكبرى، وهي حرب مرشحة للاستمرار لسنوات، هذا إذا لم تحدث حرب إقليمية تقلب كل الموازين، لأن النظام السوري يحظى بدعم دول إقليمية (إيران، العراق، وحزب الله)، ودولية روسيا والصين، وهناك من يريد التخلص منه للانتقال إلى الهدف الأخطر، وهو حليفه الإيراني وذراعه العسكرية في لبنان أي حزب الله. تعاظم الحديث عن أسلحة النظام السوري الكيماوية يصب في هذا الإطار، ولا نستبعد أن تكون الولاياتالمتحدة، ومعها إسرائيل، تخطط لإحداث الفوضى العسكرية في سورية لتبرير تدخلها في عملية خاطفة للاستيلاء على هذه الأسلحة مبكرا، حتى لا يستخدمها النظام أو حزب الله ضد إسرائيل في حال بدء الهجوم الإسرائيلي-الأمريكي على إيران، وهو يبدو قد بات وشيكا. لم يكن من قبيل الصدفة أن تجرى مناورات عسكرية على الحدود الأردنية-السورية قبل شهرين، تحت اسم «الأسد المتأهب» بمشاركة 19 دولة بقيادة أمريكية، وتتمحور حول السيطرة على ترسانة الأسلحة السورية الكيماوية، في حال فقدان النظام سيطرتَه على الأوضاع في البلاد. صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية تحدثت يوم الجمعة عن اتصالات أردنية أمريكية إسرائيلية لبحث موضوع هذه الترسانة، وكيفية الاستحواذ عليها؛ وجاء هذا الحديث بعد يومين على تصريحات أدلى بها العاهل الأردني لمحطة «سي إن إن» أكد فيها وجود تنظيم القاعدة في سورية، وحذر من إمكانية وقوع أسلحة سورية كيماوية في قبضته. أي عملية للاستيلاء على هذه الأسلحة غير مضمونة النجاح، كما أن النظام الذي يتابع هذه المناورات والاتصالات في هذا الإطار ليس على درجة من الغباء بحيث يتركها في العراء وفي عناوين معروفة، ولا نستبعد أن يكون أخفاها في أماكن عدة، أو سرّب بعضها إلى «حزب الله» ليستخدمها في الساعة الحاسمة، وهذا ما يفسر تكرار حديث السيد حسن نصر الله، زعيم الحزب، عن مفاجآت كبيرة في أي حرب قادمة ضد إسرائيل. سورية تتحول بسرعة إلى دولة فاشلة، ولن يكون غريبا إذا ما فلتت الأمور من أيدي النظام والقوى العاملة على إسقاطه في المستقبل القريب، لمصلحة قوى فاعلة لا تحتكم إلى معايير أو قيود دولية أو قانونية (Non state actors). إذا صحت التقارير الاستخبارية الأردنية التي تقول إن هناك ستة آلاف عنصر تابع لتنظيم القاعدة موجودون حاليا في سورية، فإن علينا أن نتوقع أن يكون هؤلاء كتائب المقاومة الجديدة التي ستزلزل إسرائيل، سواء في حال ما إذا انكمش النظام السوري أو سقط. إسرائيل ستكون الخاسر الأكبر من جراء ما يحدث في سورية من تطورات، فالمقاتلون على الأرض السورية، سواء في النظام أو المعارضة، أو المنظمات الإسلامية المتشددة قد يختلفون مذهبيا أو عقائديا أو في الأهداف، ولكن هدفا واحدا سيوحدهم جميعا، وهو أن إسرائيل هي العدو الأول، وستبقى كذلك. التغيير الذي يحدث في سورية حاليا، وآيا كانت نتائجه، لن يتوقف عند الحدود السورية، وهي دون حارس على أي حال حاليا، وإنما سيمتد إلى دول الجوار، وسيحرق أصابع وربما أجساد الكثيرين، إنه «تسونامي» كاسح. تنحي الأسد أو عدمه ليس هو المشكلة، فالأحداث والتطورات ربما تجاوزت هذه المسألة، نحن أمام تحد من نوع مختلف، نحن أمام منطقة تتغير، ويعاد رسم خريطتها من جديد، تصحح خرائط سايكس بيكو، ولا نعتقد أن أمريكا التي انهزمت في العراق وأفغانستان ستكون المنتصر هذه المرة، وإن كانت الوقائع على الأرض السورية تشير إلى عكس ذلك. سورية ليست ليبيا وليست أفغانستان، سورية شهدت قيام أول إمبراطورية إسلامية عربية في التاريخ.