أكيد أن هناك مغاربة كثيرين يمكنهم العودة بذاكرتهم إلى الوراء، ليتذكروا تلك الأيام الخوالي التي كان فيها الناس يجلسون أمام القناة التلفزيونية الوحيدة في البلاد، لكي يتابعوا مسلسلا أمريكيا مثيرا للجدل، اسمه «دالاس»، كان فيه أبطال خارقون، كالممثل «جي آرْ» والممثلة «باميلا»، وآخرون. في تلك السلسلة، وجد بعض الناس تعويضا مناسبا يسترون بواسطته حياة البؤس التي يعيشونها؛ ففي المسلسل كل شيء متوفر، الرجال الوسيمون والنساء الجميلات، النبيذ والمال والسهرات والسيارات الفارهة، العلاقات النسائية المتعددة والخيانة الزوجية وسيادة نظرية «الغاية تبرر الوسيلة». كان مسلسل دالاس مثيرا للجدل، ليس في المغرب فقط، فحتى في بريطانيا انتقده سياسيون وخبراء وقالوا إنه يحمل إلى المجتمع البريطاني قيما غريبة ومهينة. في تلك الأيام، انتقد مغاربة كثيرون ذلك المسلسل، لكنه استمر، تماما كما كان يستمر النقل المباشر لمباريات الغولف أو التزلج الفني لساعات طويلة، فالمغاربة كانوا صفرا على الشمال. اليوم، هل صار المغاربة صفرا على اليمين؟ أبدا، فها هو مسلسل دالاس يعود من جديد، لكن في نسخ كثيرة، ابتدأت قبل سنوات بالمسلسلات المكسيكية، ثم جاءت المسلسلات البرازيلية والكورية وهلم جرجرة، وها نحن اليوم أمام موضة جديدة اسمها «مسلسلات مهند ولميس». في تركيا، يسخر الأتراك من السائحات المغربيات اللواتي يبحثن عن القصر الذي مثل فيه مهند وكأنهن يبحثن عن رداء الكعبة؛ فهناك نساء كثيرات لا يذهبن إلى تركيا إلا من أجل هدف واحد، وهو التقاط صور إلى جانب الجدران والأدراج التي ظهر قربها مهند، وعوض أن يعدن إلى المغرب بعلب الهدايا للأقارب والأصدقاء، فإنهن يعدن بآلات تصوير مثقلة حتى الثمالة ب«بركة مهنّدْ». من حق الأتراك، إذن، أن يسخروا منا وهم يرون كيف أن شعبا، نصفه أمي، يتسابق فيه الناس لالتقاط صور مع جدران ظهر قربها ممثل وسيم. من حقهم أن يهزؤوا بكل هؤلاء السائحات الغبيات اللواتي لا يتحملن لوحدهن وزْر غبائهن، لأن تلفزيون المغرب هو الذي ربى فيهن كل هذا الغباء. لدى الأتراك أعمال تلفزيونية مختلفة تماما عن «مهند ولميس»، لكن لا أحد يراها في المغرب لأن المسؤولين عن هذا القطاع لهم في «مهند ولميس» مآرب أخرى. هناك العشرات من الأفلام والمسلسلات التركية التي تحمل قيما إنسانية رائعة، وهناك أفلام تاريخية هي بمثابة كنوز حقيقية، لكن لا أحد من المغاربة شاهدها لأن السياسة المعمول بها هي إغراق المغاربة بأي شيء تافه، سواء كان تركيا أو مكسيكيا أو فرنسيا أو عربيا، فالهدف هو تعويض الناس عن بؤسهم وعُقد نقصهم وجعلهم يعيشون على أوهام الرفاهية والوسامة والخيانات المتبادلة وحياة السكر والعربدة. في تركيا أيضا برامج رائعة للأطفال، ورسوم متحركة تختلف كثيرا عن رسوم القمامة التي يمطر بها التلفزيون الأطفال المغاربة، لكن لا أحد يريدها. اليوم، يتحدث الجميع عن سياسة محاربة الفساد، والمسؤولون يكشفون عن لوائح المستفيدين من رخص النقل ومن رخص اقتصاد الريع وأشياء كثيرة أخرى؛ لكن محاربة الفساد في المغرب كل لا يتجزأ، لذلك يجب أن يتم الكشف أيضا عن المستفيدين من رخص الريع الإعلامي الذي رسخ جذوره جيدا في بلد «لا تقل ها أنذا.. وقل كان أبي». في المغرب، يعرف الناس جيدا أولئك المسؤولين التلفزيونيين الذين يتحملون مسوؤليات وازنة في قنوات تلفزيونة، وفي الوقت نفسه يملكون شركات إنتاج؛ ويعرف الناس جيدا أولئك الذين راكموا الثروات مقابل استيراد أعمال تافهة وتقديمها إلى المغاربة؛ ويعرف الناس من هم المسؤولون عن بث كل هذه الخردة التلفزيونية صباح مساء، ومن هم أصحاب العمولات والمكافآت. اليوم، إذا كان المغرب ينوي فعلا محاربة الفساد، فإن قطاع الإعلام فيه الكثير منه، الكثير جدا، لذلك سيكون من المفيد جدا الكشف عن أسماء المسؤولين في القنوات التلفزيونية الذين يتوفرون أيضا على شركات إنتاج. وسيكون من الرائع إعداد لائحة بأسماء كل أولئك المسؤولين التلفزيونيين الذين يأخذون رواتب فلكية، وفي الوقت نفسه ينشئون شركات إنتاج بأسماء زوجاتهم أو آبائهم أو أمهاتهم أو أصدقائهم.. إنه الفساد بعينه وأذنه.