في سياق مبدأ الحوار الذي كان يعتمده المفكر الإسلامي محمد أركون كفلسفة فكر وحياة، لم يتردد في تخصيص حوارات ومقابلات للصحافة المكتوبة والمرئية، إحياء للتقليد الفلسفي السقراطي الذي بموجبه على الفيلسوف أن يشغل حيزه الكامل في المدينة.. ومن هنا جاء كتاب «محمد أركون.. البناء الإنساني للإسلام»، وهو عبارة عن نص المقابلات التي أجراها كل من رشيد بنزين وجان لوي شليغيل مع أركون قبل وفاته، ثم تزداد قيمة الكتاب حين نعلم أن تصديره كان بخط عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إدغار موران. مر عام ونصف على وفاة الفيلسوف والمؤرخ البروفيسور محمد أركون. فقد وافته المنية في باريس بتاريخ 14 سبتمبر عن عمر يناهز 82 عاما. ويرقد اليوم بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء بالمغرب، الذي جعل منه بلده الثاني بعد قطعه لأواصر الصلة ببلده الأول الجزائر الذي حمله مع ذلك في دواخله حتى وإن انساق البلد فيما أسماه «الحرب الأهلية الثانية». ومن عرف أو قارب البروفيسور، إلا ولمس زخمه الفكري، فضوله المعرفي وحسه التركيبي للوضعيات والمواقف مع قابلية نادرة للإنصات. انسحب بشكل مفاجئ من المشهد الفكري، مثلما انسحب فيلسوف آخر هو محمد عابد الجابري، الذي غيبه الموت بالدار البيضاء في 3 ماي 2010. ولم يتسن لأي منهما معاينة وقائع ثورات الربيع العربي. وكان الاثنان من أعلام الفكر العقلاني في العالم العربي. بعد وفاة محمد أركون، صدرت له دراسة قيمة في موضوع شائك: «المسألة الأخلاقية والحقوقية في الفكر الإسلامي» ( منشورات فران، 2010). وفي سياق مبدأ الحوار الذي كان يعتمده كفلسفة فكر وحياة، لم يتردد في تخصيص حوارات ومقابلات للصحافة المكتوبة والمرئية، إحياء للتقليد الفلسفي السقراطي الذي بموجبه على الفيلسوف أن يشغل حيزه الكامل في المدينة. كما أن الحوار لا يستهدف عرض فورمولات أو صيغ جاهزة، بل إذكاء النقاش في عوائق الفكر وسبل معالجة إشكالاته. في هذا الاتجاه صدر هذا الأسبوع في كتاب نص المقابلات التي أجراها كل من رشيد بنزين وجان لوي شليغيل مع محمد أركون قبل وفاته. الأول باحث في مجال الإسلامولوجيا من باب التأويل ( الهيرمينوطيقا) والثاني عالم اجتماع في مجال الديانات وناشر. الإنسانية الكاملة للقرآن في التصدير الذي كتبه الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران، نقرأ أن محمد أركون يعرض علينا في هذا الكتاب المعركة الثنائية أو المزدوجة لحياة بأكملها. وهي معركة على جبهتين وواجهتين: جبهة نقد العقل الإسلامي والثانية واجهة العقل الغربي. فقد قاده نقده للعقل الإسلامي المغلق، بشكل جريء وحذر، إلى بناء أجهزة وسندات عقلانية منفتحة توفر إمكانية إجراء نقد ابستمولوجي. ويرى موران بأن الأمر يتعلق بضرورة لا يمكن لأي حقيقة، سواء أكانت دينية أو علمية، أن تستغني عنها. كما أن هذا النقد هو نقد تاريخي يموقع النبي محمد وقوله أو كلامه ضمن تاريخ ملموس. ويتعلق الأمر أيضا بنقد سيميوتيقي ينهل من منهجية غريماس ونموذجه الفاعل. وأخيرا يموقع أركون أصالة الإسلام في العالم ضمن أنثروبولوجيا دينية. يمكن أن نعاين في تلاقي هذه العقلانية النقدية صواب وتعقد فكر محمد أركون، الذي لا يقتصر فحسب على النقد التاريخي ( الذي يبدو للبعض كافيا)، بل يجند جميع العقلانيات العلمية والفلسفية ضمن «نقد للعقل اللامتحرك» الذي سكن بل تجلمد بداخله الإسلام. هذا الفحص ليس نقديا وحسب بل يطرح تساؤلات كبرى في موضوع انبثاق المتسامي، وأيضا في موضوع انفلات الوحي من الزمن التاريخي. وبنفس الطريقة التي ينتقد بها أركون العقل الإسلامي، لا يتردد في توجيه سهام نقده للعقل الغربي. لأن هذا العقل وهذه العقلانية لها حدود وقيود هي نفس القيود المفروضة على المنطق: وذلك بافتقاده في أحايين كثيرة لحس النقد الذاتي وعدم القدرة على تصور العمق الأنثروبولوجي للأسطورة. لهذا العقل الغربي انحرافاته المتمثلة في العقلنة ( فرويد)، العقل الأداتي (آدورنو وهوركايمر)، وأيضا في التمركز الغربي. لا يحرم أركون القرآن من بعده الغيبي الرباني، لكنه يعيد له إنسانيته الكاملة. لم يكن أركون من «المخضرمين ثقافيا»، بل نحت استقلاليته انطلاقا من هذه الثنائية التي تتأصل الواحدة في الأخرى. مما يفسر سوء الفهم الذي رافق بحثه، ويفسر أيضا ثراء فكره الذي سيتزايد أهمية في المستقبل. مدخل لأنثروبولوجيا الإسلام وتضمن التقديم المقتضب للناشر تذكيرا بالمقام الفلسفي الذي تبوأه الفيلسوف والمؤرخ محمد أركون، أب الإسلامولوجيا التطبيقية، وأحد رموز الدراسات الإسلامية الحديثة. فقد كان المفكر أركون يذكر الناشر، متحليا بصرامة فكرية تجاه نفسه وتجاه الآخرين. لم يبحث هذا الوريث الشرعي للنزعة الإنسانية العربية للقرنين العاشر والحادي عشر، يوما عن الإشعاع الإعلامي أو التزلف لأقوياء اللحظة الراهنة. كان خطابه عن الإسلام المعاصر غير مقبول من طرف السلطات الدينية القائمة. لكنه لم يكن أيضا متسامحا مع دعاة الإسلاموفوبيا. لذا وإن كان اسمه معروفا وشائعا، فإن فكره لم يدرس ويعمم بما فيه الكفاية. ولتغطية هذا العجز، ووضع بين أيدي القارئ أفكاره، جاء هذا الكتاب، بغاية تعميق أغراض السؤال في موضوع الإسلام والمكانة التي تحظى بها الظاهرة الدينية في مجتمعاتنا. وقد تم تجميع هذه المادة خلال مناقشات وحوارات مستمرة. لكن ابتداء من أبريل 2009 تدهورت الحالة الصحية لمحمد أركون ليتوفى بعدها في باريس في 14 سبتمبر 2010 ولم تتح له فرصة الاطلاع على المخطوط. وتابع الناشرون عملهم بالاتفاق مع ثريا اليعقوبي أركون، زوجة الراحل، التي رافقته خلال هذه السنوات في أشغاله والتي أضافت بعض المعطيات بعد اطلاعها المتأني على المخطوط. ويقوم هذا الكتاب مقام مدخل لأنثروبولوجيا الإسلام التي كان محمد أركون أحد مؤسسيها. ويعرض الكتاب لمختلف المفاهيم التي نحتها وكذا الأشغال المعرفية التي نهل منها. علاوة على بعض العناصر البيوغرافية غير المعروفة، يتضمن أيضا التكهنات الخارقة والنيرة موفرا لفكر أركون الديمومة والإشعاع. ويستعرض الكتاب في 12 فصلا مسار ونتاج المفكر. وهو بذلك يقدم لنا بانوراما شفافة لما كانت عليه الورشة الفكرية التي قلب جنباتها محمد أركون بعناية نظرية ومفاهيمية حرص على أن تكون متعددة التخصصات ومفتوحة على آفاق جديدة. بدأت الحكاية الفلسفية لأركون في منطقة القبائل إبان الفترة الاستعمارية وخاصة عند نهاية حقبته المظلمة. وكانت المنطقة تعيش إلى حد ما وضعا استثنائيا بحكم إفلاتها من «النظام» الاستعماري بحيث لم يكن أي أثر للبوليس، للضرائب، كانت القبائل ومنطقة لمزاب بمثابة جيب منعزل. لم يشعر السكان بثقل الاستعمار. فقد نشبت المعارك والصراعات على الهامش وفي المدن مثل الجزائر، قسطنطينة، وهران الخ... وكان العامل اللغوي أحد الحواجز غير القابلة للتجاوز. ذلك أن خطابا بالفرنسية أو بالعربية لم يكن له أي وقع في هذا المجال. اللغة البربرية في هذه المنطقة كانت هي اللغة الأم لكنها كانت ممزوجة بالعربية والفرنسية. «وإن أردتم أخذ فكرة عن جزائر اللغات فما عليكم سوى الاستماع أو مشاهدة سكيتشات الفنان «فلاق» الذي قدم توصيفا حيا ودقيقا للاختلاط اللغوي واللسني بالجزائر» يقول أركون. تعلم أركون الفرنسية في سن السادسة. و«فرضت اللغة العربية علي نفسها» على حد تعبيره في سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة لما كان يرافق والده البقال إلى عين الأربعاء. ثم تعلم الدارجة وبعدها لغة القرآن الذي حفظه عن ظهر قلب. رغبة التحرر من أسر الاستعمار كانت خارج هذا المجال القروي. وفي غياب وسائل الإعلام كانت القبائل تعيش في عزلة تامة. وعن سؤال يتعلق بعائلته أجاب محمد أركون بأن عائلته باستثناء أمه وأبيه، لا زالت على قيد الحياة وبأن علاقته بها لم تنقطع يوما وأنه تردد على الجزائر إلى غاية 1992 ، التي شهدت آخر زيارة له بعد أن تدهور الوضع الأمني والسياسي ودخول البلد فيما أسماه بالحرب الأهلية الثانية، التي انعدمت فيها التعددية ودخل الجزائريون في مواجهة بعضهم البعض. ويوم وفاة والدته سنة 1997، لم يتمكن من حضور مراسيم دفنها. بل لم يسمع الخبر إلا بعد وفاتها. ميشال فوكو واللقاء الحاسم كان لمفهوم «القطيعة الابستمولوجية» الذي طرحه ميشال فوكو أثر حاسم على الرؤيا الفكرية لأركون وعلى علاقته بالموروث الثقافي والديني العربي الإسلامي. تبين أن القيام بمجرد تاريخ سردي أو تعاقبي هو بلا أهمية مقارنة بالقيام بمقاربة بنيوية و«إبستيمية» تنصب على دراسة الأنسقة والأنظمة والتي بإمكانها تفسير أسباب بقاء دول المغرب العربي بعد حصولها على الاستقلال ضمن إطار حقوقي وقضائي يخضع لتعاليم القرآن على الرغم من مظهرها الحداثي؟ من دراسة إلى أخرى، من بحث إلى آخر، متكئا على أحدث المناهج ومتابعا عن كثب النص القرآني والأحاديث، نجح محمد أركون في تقديم التراث والموروث بناء على قراءة جديدة قوامها هدم اليقينيات. اختفى محمد أركون قبل أن تتاح له فرصة معاينة والتأمل في الرجات التي أحدثها الربيع العربي، خصوصا أنه كان منشغلا بمسألة السلطة، التي غالبا ما تلجأ للتمويه والاحتيال بارتداء الزي العلماني فيما قلبها لاهوتي خالص. ولنا في بعض الديكتاتوريات التي تهاوت حديثا أحسن مثال. ماذا سيكون عليه موقفه من وصول الإسلاميين للسلطة في كل من تونس، المغرب، مصر؟ المهم أن فكره يوفر لنا إمكانيات هائلة لمساءلة النظام السياسي على الطريقة الإسلامية، وأيضا مساءلة طرق تفكيره وكيفيات تسييره للحكم. يبقى أن هذا الكتاب يقربنا من حكمة صوت محمد أركون، الذي ناضل من أجل قيام حداثة عقلانية كفيلة بمصالحة العرب والمسلمين مع الأنوار.
أثر مدرسة الحوليات يعود أركون إلى مرحلة الدراسة بثانوية وهران العمومية التي كانت تسمى ثانوية لاموريسيير. وكانت هذه الثانوية تنافس بمستواها الجيد ثانويات ما كان يعرف بالميتروبول. كان محمد أركون تلميذا في الداخلية. لم يتعد عدد الجزائريين ستة تلاميذ كانوا يمنحون طاولة على انفراد. تابع أركون دراسته في القسم الأدبي وكان من بين الأدباء من أصل قبائلي كل من مولود فرعون، مولود معمري. بعد الدراسة الثانوية في الجزائر العاصمة، حيث، تعلم على يد روجيه لوتورنو، الذي كان أستاذا ل«كرسي تاريخ إفريقيا الشمالية». لعب بصفته أحد الوجوه الوسيطة، دورا رئيسيا في تسريب أفكار السلام في بيئة مثخنة بالعنف. لكنه على النقيض من فيردينان بروديل لم يكن قادرا على الإمعان في الحقائق التاريخية للمتوسط، إذ كانت مقاربته تسلسلية لتاريخ السلالات. لكن العامل الحاسم الذي دفعه إلى مغادرة الجزائر كانت المحاضرة التي ألقاها المؤرخ لوسيان فيفر بالجزائر عام 1950 بعنوان «دين فرانسوا رابليه». وكان لوسيان فيفر، أحد مؤسسي مدرسة الحوليات. خلف التحليل الذي قدمه لوسيان فيفر، وقعا قويا على نفسيته بحيث دفعه إلى مغادرة الجزائر إلى باريس لمتابعة الدراسة والبحث والوقوف أيضا على الهاجس السياسي الذي كان يشغل طلبة إفريقيا الشمالية لتلك الفترة. ولما انسلخت هذه القارة عن الاستعمار لم تكن النتيجة مشجعة. في الجزائر، مع الخطابات الأولى التي ألقاها أحمد بن بلة ثم فيما بعد الهواري بومدين، أحس أركون بضرورة القيام بنقد للعقل الإسلامي وبالموازاة، إطلاق مبادرة من أجل قيام نزعة إنسانية. وكان هذا الموضوع محور الأطروحة التي رافع عنها عام 1980 تحت عنوان: «الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري». وقوبل أركون بعناية بعض من الأصدقاء من أمثال روبير برونشفيغ وكلود كاهين وريجيس بلاشير المترجم للقرآن. وقد عاش أركون في تلك الفترة حيرة بين البقاء في فرنسا أو العودة إلى الجزائر، إلى أن قرر في الأخير البقاء ومتابعة البحث، خصوصا وأنه كان ملحقا بجامعة السوربون.