إنه توافق لإرادتين وصفقة تتم بين مفسدين: مفسد يملك وسائل مادية فعلية ومفسد يملك، بحكم وظيفته والبيروقراطية المعقدة وسلطته على الضبط والمراقبة، القدرة على التأثير في آلية صنع القرار، وهو يرتبط عموما بنشاطات خفية، مجردة من كل منطق ومخالفة لكل القواعد والقوانين والمساطر، تنمو وتتطور، بسبب التسيب العام والاستهتار بهيبة الدولة والانتهازية السياسية وغياب الحكامة الجيدة واختلال المنظومات الاقتصادية والأجهزة الإدارية. إنه يصيب الحكومات ويدين الشركات بخلاف الفساد الصغير الذي يصيب فئة محدودة من الموظفين الصغار عندما يمكنهم من تحسين أوضاعهم، من خلال تعديلات طفيفة تقع على مداخيلهم، للحفاظ على قدراتهم الشرائية ومستواهم الاجتماعي ومكانتهم الاعتبارية. فأما الحكومات فهي متهمة، عندما تفقد الإرادة وتتماطل في تحديث أنظمة الحكم والإدارة، ويتعطل لديها حكم القانون وسلطان القيم، وتغيب عندها مبادئ النزاهة والشفافية في التوظيفات والتعيينات والترقيات والصفقات والميزانيات والرخص والامتيازات، وعندما تقبل بالدعم بمقابل وتتنازل عن الثوابت وتتلاعب بالمنح والعطايا والهبات والمساعدات، فتحول دون وصولها إلى مستحقيها أو تحقيق أهدافها. وأما الشركات فهي متهمة كذلك، عندما تسخر مساراتها التطورية وسياساتها الاستراتيجية وبنياتها التنظيمية وأنظمتها الإنتاجية وأصولها وأرصدتها المالية لخدمة دولة أجنبية أو شركة، وعندما تقع في صفقات مشبوهة وأنشطة محظورة ومعاملات ممنوعة، لتتحول إلى إقطاعيات حقيقية تتمادى في التملصات الضريبية والمضاربات الاحتكارية والممارسات غير الوطنية التي تضر بالإنسان والأنظمة البيئية، وعندما تحصل على العقود الاستثمارية وتظفر بالمناقصات العمومية دون الخضوع لقواعد اللعب التنافسية، مقابل عمولات سخية تستعمل غالبا لتغذية صناديق سوداء لتمويل الأحزاب والمؤسسات والأنظمة والحكومات. إن الفساد آفة وثقافة، شذوذ وانحراف، جريمة اقتصادية وإشكالية تنموية، فهو يعيق النمو ويهدد الأمن ويزعزع الاستقرار، يهدر الموارد ويضر بالاقتصاد ويضيع الحقوق، ينزع الثقة ويفقد المصداقية ويمس في العمق علاقة الدولة بالمواطنين ويحول دون تدفق الرساميل وإعادة التوطين، ويحد من طموحات الملايين من الفقراء والمحتاجين، كما يمكّن، في يسر وسهولة ودون مجهود أو عمل، من الإثراء المفاجئ وغير المبرر للعديد من الموظفين والمسؤولين الفاسدين من ذوي السلط النافذة والمهام السامية والمرتبات العالية.. رشوة واختلاس، غدر وتدليس، حياد عن الحق ونهب للمال العام، أشياء وأصولا وحقوقا وقيما، دون استحياء أو أدنى احترام، وفي غياب تام لآليات حقيقية وفاعلة للرقابة والمساءلة والمحاسبة والعقاب. إن مكافحة الفساد والقضاء عليه يعتبران تحديا كبيرا ورهانا صعبا، نظرا إلى تشابك خيوطه وتشعب مجالاته وتعدد أدواته وتنوع أخطاره ومضاعفاته، وهو ورش كبير يتطلب فتح نقاش عام، يشترك فيه الجميع، حكومة وبرلمانا وأحزابا وجمعيات وشركات، من أ جل بناء فهم متبادل، يؤسس لأرضية مشركة، تحدد المعنى والمضمون والوسائل والأهداف، وفق منهجية علمية ومقاربة بيداغوجية تفضي إلى استراتيجية واضحة المعالم، تجعل من أولى أولوياتها: - التوعية العامة والرقابة الإعلامية؛ - إحداث مدونة للأخلاقيات وحسن السلوك، سلوك الحكومة والإدارات والشركات والجمعيات وممثلي الشعب، مع إلزامية التصريح بالممتلكات والتدقيق في الذمم المالية للموظفين والمسؤولين الكبار، وذلك فور حصولهم على مهامهم والشروع في مباشرة أعمالهم؛ - محاربة اللاعقاب والتملص من دفع الحساب، كيفما كانت طبيعة المتورطين ومكانتهم ومسؤولياتهم؛ - دعم وتنمية مؤسسات الحكامة ذات الصلة بمكافحة الفساد وتمكينها من أدوات العمل اللازمة. إن أي اقتصاد، كيفما كان، لا يمكن أن ينمو ويتطور إذا كان المجتمع يقبل بل ويتعايش مع أفعال غير قانونية وممارسات غير أخلاقية. كما أنه لا جدوى من إدانة الفساد أخلاقيا وتجريمه سياسيا، بل الجدوى كل الجدوى في تحليله والوقوف على أسبابه وحوافزه؛ وهو الأمر الذي يحتاج، قبل كل شيء، إلى إرادة حقيقية ونية صادقة، من أجل التصدي له والإطاحة به والقضاء عليه.