مهاجرون من إفريقيا السوداء وجدوا، في بداية قدومهم إلى المغرب، فرصة للوصول إلى الضفة الشمالية، لتحقيق العيش في الفردوس الأوربي المفقود.. مكوث هؤلاء داخل المغرب دفعهم إلى ابتداع طرق من النصب والاحتيال لضمان القوت اليومي. يقنعون الضحايا بفضل فن «الخطابة» ويتّبعون من الحيّل ما يكفيهم للإيقاع بهم في المصيدة، في مغامرات تنتهي في غالب الأحيان داخل مخافر الشرطة وردهات السجون والمحاكم. همهمات وأصوات بلكنات إفريقية مختلفة تخرج من حناجر أصحاب السحنات السوداء، هذا هو حال العشرات من مهاجري دول القارة السمراء في حيي التقدم ويعقوب المنصور في الرباط. امتهن هؤلاء عمليات النصب والاحتيال على المواطنين في أحياء العاصمة الإدارية وتعلّموا من الحيّل ما يكفي للإيقاع بالضحايا في الفخ، عبْر إقناعهم بدفع الأوراق النقدية الأصلية والحصول على نصيب من الأوراق المزورة. الصامد أمكرو واحد من الضحايا الذين «اصطادهم» المهاجرون الأفارقة في الرباط. يتحدث هذا الشخص، ذو الأصول السوسية، بنبرة متحسرة، بعدما تم استدراجه إلى حي أكدال في الرباط وطلب منه مواطنان ليبيريان، يتقنان فن «الخطابة»، مساعدتهما في الحصول على أوراق مالية أصلية، ل«استخراج» أوراق مالية أخرى من صندوق حديديّ.. يقول أمكرو إنه كانت تظهر على وجْهَي المواطنين الليبيريين ملامح الخجل، ويبدو من خلال كلامهما، أنهما محتاجان إلى من يساعدهما في حل مشكل داخل المغرب، وكانا يتكلمان باللغة الفرنسية والدارجة المغربية. يقول الضحية: «حاولت مساعدتهما بعدما ظننت أنهما مواطنان ساذجان»، من خلال نظراتهما يظهر أنهما يرغبان في حل مشاكلهما، بعدما رمى بهما حلم الفردوس الأوربي المفقود في الأحياء الهامشية للرباط.. ظل الضحية يفكر لمدة أسبوع قبل الإقدام على أي خطوة لمساعدتهما، وصدفة، التقاهما، فدعَياه لزيارتهما داخل شقة يقطنان بها في حي «أكدال» في العاصمة، فلبى دعوتهما بثقة نفس عالية. يقول الضحية إن مواطنا ليبيريا، يدعى علي موسى، وضع يديه على خديه، والخجل بادٍ على ملامح وجهه، وبدأ يحكي له ظروف وصوله إلى المغرب. أسرّ له أنه يتوفر على مبالغ مالية جلبها عن طريق منظمة الصليب الأحمر، بعد مشاكل عرفتها ليبيريا.. تحدث إليه موسى وعيناه مغرورقتان بالدموع، قائلا إنه في حاجة إلى أوراق مالية أصلية لإعادة «غسلها» و«توليد» مبالغ مالية أخرى عن طريق معالجة أوراق الصليب الأحمر المكدسة لديه في صندوق حديدي.. يحكي الضحية أمام مصالح الأمن أنه وضع ثقته فيهما وتسلم منهما الصندوق الذي ادّعيا أن فيه أوراقاً ملفوفة، ومنحهما مبالغ مالية قصد جلب مسحوق أسود لتسهيل إخراج الأوراق المكدسة في الصندوق. مكر وخداع.. شعر الضحية بفرح واطمئنان، وهو ينتظر عودة المواطنين اللبيريين (علي موسى وبيتر جون). بعد طول انتظار، اعتقد أن الشخصين لن يعودا إليه أبدا بعد كل هذه الغيبة. يحكي هذا المواطن، الذي ازداد طمعه في الحصول على بنسبة خمسين في المائة في حالة استخراج الأوراق المالية، أنه عمل على فتح الحقيبة ولم يجد فيها سوى أوراق عادية ملفوفة داخل القطن، فأدرك أنه وقع ضحية نصب واحتيال.. محمد واحد من المواطنين الذين تعرضوا لعملية النصب. تشبه حالة هذا الضحية، إلى حد كبير، حالة أمكار. كان يجلس قرب مقهى في قيسارية وادي الذهب في حي يعقوب المنصور. يحكي هذا الشاب، وهو لم يصدق بعدُ عملية النصب التي تَعرَّض لها، إذ عرض عليه مواطنان إيفواريان القدوم إلى منزلهما في حي الصهريج لتبادل أطراف الحديث. «فجأة، أحضر شاب إفريقي حقيبة من غرفته وشرع يخاطبني قائلا: «أستطيع جلب الكثير من المال. لكن ذلك يتطلب تسليمنا مبالغ مالية قصد إعادة طبعها على ورق شفّاف واستخراج مبلغ مالي»، يستطرد الضحية. استغرب الضحية، في البداية، وفكر جيدا في العملية: «سلّمتُ لأحدهم ورقة مالية من فئة 100 درهم، ف«استخرج ورقة مزورة»، يوضح هذا الشاب، متابعاً أن الورقة المالية الأصلية تم استنساخها باستعمال مسحوق أسود، وبعد مدة وجيزة، أخرج مواطن إيفواري ورقة مزورة. بدا الضحية «متفائلا» بالعملية التي قام بها المهاجران الإفريقيان وعبّر عن سعادته، والفرحة تغمره، فالتفت إليه المهاجر الإفريقي وطلب منه جلب الكثير من الأوراق المالية الأصلية لاستخراج الأوراق المزورة، باستعمال مسحوق أسود. بعد الثقة الزائدة التي أبداها المهاجران الإفريقيان، وهما يتحدثان إلى بعضهما البعض، انتظرا عودة الضحية وبحوزته حزمة من الأوراق النقدية، بعدما ضرب لهما موعدا، فاعتقد الإيفواريان أن الضحية سيعود بعدما أبدى إعجابه بهذه «العملية»، التي لم تكن في الحقيقة إلا عملية نصب. توجّهَ الضحية مباشرة إلى مصالح الشرطة في حي يعقوب المنصور وعلى قسمات وجهه آثار صدمته جراء عملية النصب التي كان عرضة لها. وتحركت المصالح الأمنية وضبطت المحتالين الأفارقة في حالة تلبّس، ينتظرون «عودة» الضحية. المكر يطال حتى رجال الشرطة.. لا تستهدف طرق النصب والاحتيال التي «يتفنن» المهاجرون الأفارقة في حبْك فصولها المواطنين العاديين فقط بل تشمل حتى رجال الشرطة، إذ يطمع بعض هؤلاء في الحصول على مورد مالي إضافي عن طريق النصب والتزوير. فقد يلجأ المحتالون إلى حيّل وألاعيبَ حتى داخل مخافر الأمن أثناء التحقيق معهم من قِبَل المصالح الأمنية. وقد أكد مصدر أمني، في لقاء مع «المساء»، أن المهاجرين الأفارقة الذين يتورطون في النصب والاحتيال ويتم توقيفهم من قِبَل مصالح الأمن «يتحدثون بلهجات إفريقية غير مفهومة»، مضيفا أن مصالح الأمن تواجه صعوبات في الوصول إلى معلومات مضبوطة عن التّهَم الموجهة لهم، فتارة يشرع هؤلاء في الحديث بلكنات لا يفهمها أحد، وتارة يُصْدرون همهمات في أذن بعضهم البعض باللغة الفرنسية. تلجأ المصالح الأمنية للضغط عليهم بكل السبل، وبعد طول التحقيق، غالبا ما يتخلى هؤلاء المهاجرون عن الحديث باللهجات ويتعاونون مع المصالح الأمنية باستعمال لغات مفهومة لا تخرج عن اللغة الفرنسية أو الإنجليزية. اعترف المهاجران الإيفواريان، بعد 20 ساعة من التحقيق معهما بشكل متقطع في مخافر الأمن، بالمنسوب إليهما وشرعا في سرد تفاصيل حكاياتهما المؤثرة، إذ وصلا إلى المغرب عبر الحدود الشرقية ولم يجدا للحصول على ما يسُدّان به رمقهما سوى النصب على المواطنين المغاربة الذين يزداد طمعهم كلما كانت عملية التزوير «توفر» مبلغا للضحية بنسبة 50 في المائة.. لم يفاجئ سرد تفاصيل النصب عن طريق وضع الأوراق المالية الأصلية على أوراق شفافة ل«استخراج» أوراق مزورة المصالح الأمنية في حي يعقوب المنصور في الرباط، بعدما ارتفعت في الآونة الأخيرة عمليات بطرق مشابهة، إذ يتم توهيم المواطنين بالحصول على المال مقابل الحصول على مردوية من الأوراق المزورة. كان الضحية محمد يجهل، في البداية، طريقة استدراجه إلى منزل الضحايا، ورغب في متابعة الغينيين اللذين ينصبان على الضحايا.. «يجب تربيتهم داخل المغرب»، يشرح الضحية أن الهدف من متابعتهم أمام القضاء هو تلقينهم درسا في الرباط، حتى يكونوا عبرة لبقية المهاجرين الذين يستغلون سذاجة المواطنين البسطاء. بعد عملية تزوير العملات والنصب، يعمل المتّهمون على تصريف العملات المزورة عن طريق اقتناء بعض المواد منخفضة الثمن للحصول على الباقي غير المزور من بائعي التقسيط. يحكي مصدر أمني أن تفاصيل عملية النصب لدى المهاجرين الأفارقة تبقى متشابهة في تزوير العملات الوطنية والدولية، ويقصد هؤلاء النسوة اللائي يمْتهنّ بيع العجائن، لمحاولة التخلص من الأوراق المزورة. لا تقتصر طرق المكر والخداع على مخافر الأمن وحدها، بل تتعدى ذلك إلى ردهات المحاكم: «يلجأ المهاجرون المتورطون في النصب إلى الحديث أمام قضاة الحكم بلهجاتهم غير المفهومة، ومع إرجاء النظر في ملفاتهم أكثر من مرة، يلجؤون إلى الحديث باللغتين الفرنسية أو الإنجليزية، ويلجؤون إلى طلب المساعدة القضائية»، يحكي الفضيل العلوي، المحامي في هيئة الرباط، والذي تعَوّد على مساعدة الهيئة القضائية في الاستماع إلى التّهَم الموجهة إلى هؤلاء المحتالين الأفارقة من قِبَل النيابة العامة في إطار المساعدة القضائية. يرى المحامي العلوي أن المهاجرين الذين تُصْدِر في حقهم العدالة عقوبات حبسية وغرامات مالية، والترحيل نحو بلداهم الأصلية في نهاية المطاف، يعودون إلى المغرب، عن طريق الحدود الشرقية للبلاد، ويمتهنون من جديد عمليات النصب والاحتيال، عن طريق تزوير الأوراق المالية بمساحيق وأوراق كاشفة يحصلون عليها من موريطانيا. أفارقة يهاجرون إلى أوربا لم تعد ظاهرة تهجير الراغبين في الوصول إلى أروبا تقتصر على المغاربة فقط، بل إن للأفارقة أيضاً «حصتهم» من التهجير إلى أوربا بطرق مخالفة للقانون. يحكي المحامي العلوي تفاصيل عملية نصب تعَرَّض لها مواطنان نيجيريان في بداية السنة الجارية، بعدما حاول ثلاثة متهمين أفارقة إقناع المهاجرين النيجيريين ب«الحريك» إلى فرنسا. بعد أن سلّم الضحايا أموالا إلى المحتالين، اختفى هؤلاء عن الأنظار وقصدوا مدينة الدارالبيضاء، لتفادي إثارة الانتباه إلى مكان تواجدهم. يحكي العلوي أن الضحايا كانوا يودّون قضاء بعض الأشغال داخل سفارة بلدهم في الرباط، وفجأة، دخل المتهمون إلى نفس السفارة للاستفسار عن أمر، فتم إغلاق الباب الرئيسي للسفارة وحضرت مصالح الشرطة في المنطقة الأمنية الثانية «السويسي»، التي نقلتهم إلى مصالح التحقيق. أوقع المتهمون الضحايا في الفخ، بعدما أوهموهم بأن لدى أحدهم علاقات خاصة بسفير إفريقي في أوربا يساعد المهاجرين في الدخول إلى دول الاتحاد الأوربي بطرق غير قانونية، لكنْ مع تسليم وثائق وصور فوتوغرافية، اختفى المتهمون عن الأنظار واستقروا بالدارالبيضاء، بعيدا عن أعين الضحايا. أثناء التحقيق الذي باشرته مصالح الضابطة القضائية، لم تتمكن الأخيرة من الحصول على أدلة تثبت تورط الأفارقة في التهجير، وأحيل ملفهم على وكيل الملك في المحكمة الابتدائية في الرباط. بعدما أصدرت العدالة عقوبات حبسية موقوفة التنفيذ، تَوجَّه الضحايا، من جديد، إلى المصالح الأمنية في «السويسي» وأخبروا المحققين أن الموقوفين السابقين يقومون بالاتجار في «الكوكايين»... باشرت المصالح الأمنية، تحريات في الموضوع، ولم تكتشف أن توزيع السموم البيضاء على المدمنين بشوارع الأحياء الراقية. اعترف أحد هؤلاء المتهمين، ضمنيا، بتسلُّم مبالغَ مالية من ضحية نيجيري مقابل إيصاله إلى أوربا، وبعدها، أعاد له الأوراق المالية المسلمة.
73 بالمائة من المهاجرين الأفارقة يرغبون في الوصول إلى أروبا قال الدكتور محمد الخشاني، الكاتب العامّ للجمعية المغربية للدراسات والبحوث حول الهجرة، في تصريح أدلى به ل«المساء» في الموضوع، إن 73 في المائة من المهاجرين الأفارقة يرغبون في الوصول إلى أوربا، حسب بحث أجرته الجمعية في الموضوع، وأوضح الخشاني أن هؤلاء يلجؤون إلى أعمال منافية للقانون المغربي، كالتزوير والنصب. وكشفت الدراسة، حسب الأستاذ الباحث، أن 16 في المائة من المهاجرين الموجودين في المغرب ينتمون إلى نيجيريا و13 في المائة إلى كل من السنيغال ومالي، و9 في المائة إلى ساحل العاج، و7 في المائة إلى كل من الكامرون وغينيا، و6 في المائة إلى الكونغو الديمقراطية و5 في المائة من كل من غامبيا وغانا والكونغو -برازفيل، بينما ينتمي 4 في المائة إلى دولة ليبيريا و2 في المائة إلى دولة النيجر، وبعضهم إلى دولة سيراليون، بنسبة ضعيفة. وأضاف الخشاني أن بعض المهاجرين المتحدرين من دولة نيجيريا أصبحوا يُشكّلون عصابات خطيرة في تزوير الأوراق الإدارية داخل التراب المغربي. وعزا الأستاذ الباحث تفاقم ظاهرة النصب والتزوير إلى طول بقائهم في المغرب، والسبب -يضيف الخشاني- الشروط المجحفة التي أصبحت تتبناها دول الاتحاد الأوربي في محاربة ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وهو ما يدفعهم إلى المكوث في المغرب إلى حين تحقيق طموحهم في الوصول إلى دول الاتحاد الأوربي. وكشف الخشاني أنه يصعب في الوقت الراهن اختراق دول الاتحاد الأوربي، وخصوصا بعد تنامي الأزمة الاقتصادية العالمية، بكل تجلياتها وتأثيرها على اقتصاديات الدول التي يرغب الأفارقة في الوصول إليها بطرق غير قانونية، وهو ما دفع هذه الدول إلى تشديد المراقبة حتى على جزر الكناري في المحيط الأطلسي، التي تعرف تدفقا مستمرا للمهاجرين القادمين من إفريقيا -جنوب الصحراء.