يتخذ المجتمع المدني في الصحراء، من زاوية أنثروبولوجية ثقافية، أشكالا متعددة تتمثل في العديد من التنظيمات الأهلية (لحمية، قرابية، قبلية..) التي تقتضيها ظروف ونمط العيش لدى بدو ورحل الصحراء، وذلك انطلاقا من خلق مؤسسات قضائية عرفية وتقليدية (إيت لربعين مثلا) لتنظيم وتخليق الحياة العامة والمحافظة على توازنها واستمراريتها عبر تسوية الأمور المجتمعية المتصلة بالنزاعات والصراعات حول الأملاك الخاصة والمشتركة، والبت في قضايا الاعتداء والتظلم والنهب، والنظر في شؤون العلاقات الزوجية وفكها وحالات التعرض للسرقة والضرب وممارسة العنف بأنواعه المادية والرمزية.. إلخ، أضف إلى ذلك التحالفات والتكتلات السكانية ذات الأبعاد التعاضدية والتآزرية، ولاسيما عند وقوع حالات الموت والمرض والشعور بالتهديد والأخطار أو المشاركة في تدبير الأفراح والاحتفاليات الدينية والفلاحية والاجتماعية (تارزيفت، لمنيحة..). ورغم أن المجتمع المدني مفهوم حديث لم ينتعش كثيرا سوى مع بروز مفهوم الدولة الحديثة، دولة المؤسسات، فإن مظاهره كانت متجلية في فكر وحياة إنسان الصحراء منذ بواكيره الأولى وبداية نشأته بالرغم من خصيصة الترحال والتنقل الدائم التي تسم ثقافته وسلوكه ونمط عيشه. غير أن المجتمع المدني في الصحراء أضحى يمثل في الوقت الراهن شيئا آخر (مختلف) لا يتلاءم مع الدور الفعلي والحقيقي المنوط به بسبب خضوعه لمتخيل سياسي ضيق يقوم بالدرجة الأولى على استعمال مختلف الوسائل الممسرحة Théâtralisés لفرض السلطة والحفاظ على وجودها بالقوة. هذا النوع من السياسة يكون هدفه الأساس هو خلق أبطال وهميين، من ورق، للعب أدوار مؤقتة سرعان ما تنتهي بتحقيق الأهداف المنشودة. لذلك، تصح الفرضية القائلة بكون «السلطة القائمة على القوة وحدها، أو العنف المدجن، قد يكون وجودها مهددا دوما، والسلطة الواقعة فقط تحت أنوار العقل قد يكون لها القليل من المصداقية، إنها لن تتوصل إلى الحفاظ على نفسها لا بواسطة الهيمنة الشرسة ولا بواسطة التبرير العقلي. إنها لن تكون ولن تقوم وتستمر إلا بواسطة تبديل موضعها، بواسطة إنتاج صور، بواسطة استخدام رموز وتنظيمها ضمن إطار احتفالي»، كما يقول جورج بالانديه G. Balandier في مؤلفه: «القدرة على التمثيل». من ثم، صار المجتمع المدني في الصحراء يشبه قميص عثمان تستغله السلطة كيفما ووقتما تشاء وتوجهه بعض النخب التقليدية المحسوبة على السياسة وفق مقاساتها وأمزجتها الخاصة. وحصيلة ذلك أن الحركة المدنية في الصحراء لا تزال بحاجة ماسة إلى إنضاج حقيقي، والكثير منها فرخه الصراع السياسي الضيق وتنافس المصالح المالية والاقتصادية في المنطقة. إزاء ذلك، تحاول السلطة السياسية استغلال ضعف المؤسسات المدنية، وذلك بممارسة كل أشكال الاحتواء والاختراق والاستبداد الذي يسميه ميشيل فوكو Foucault M. بالوجود المستمر للسلطة داخل شبكة العلاقات الاجتماعية، وهو صراع تقليدي حول (الزعامة) بين سلطة السياسة وسلطة المجتمع. ووفقا لكارل ماركس الذي اعتبر تاريخ البشرية تاريخا للصراع الطبقي، فإنه توجد في المجتمع طبقتان رئيسيتان تتصارعان، هما: طبقة البورجوازيين (أصحاب رؤوس الأموال والأعمال) وطبقة البروليتاريا المكونة من العمال والمستخدمين، فالبورجوازية ظهرت كقوة ثورية ضد الإقطاع وتمكنت، بالتالي، من بسط نفوذها داخل المجتمع؛ لكن مع مرور الوقت، استمرت البورجوازية وتركز هدفها فقط على تحقيق الأرباح على حساب جهود وسواعد العمال، لكن طبقة الكادحين تصدت لها وثارت ضدها خالقة بذلك ديكتاتورية جديدة، هي ديكتاتورية البروليتاريا التي مهدت لظهور ما بات يعرف بالمجتمع الطبقي. ما قاله ماركس يشخص بجلاء الوضع المجتمعي في الصحراء الذي يمثل مجالا للهيمنة والنفوذ والتمايز الاجتماعي والتراتب الطبقي الذي يعد منبع كل المآزق والهزائم التي أدت إلى وجود طبقات إقطاعية سائدة Dominantes مقابل فئات مجتمعية مهمشة ومسحوقة. من ثم، أمسى سؤال النخب السياسية والطبقات الحاكمة في الصحراء موضوعا ملحا ظل، ولا يزال، يشتغل طويلا داخل المسكوت عنه واللامفكر فيه Impensable، باعتبار أنه ارتبط كثيرا بالسلطة واحتكار آلياتها؛ فهيمنة هذه النخب والطبقات، بالشكل الذي نظرت إليه الميكيافيلية الجديدة بقيادة ميشلز وأورس ياجي والباحث الأمريكي رايت ميلز، ساهمت كثيرا في تقسيم المجتمع في الصحراء إلى نخبة قليلة العدد تمارس السلطة والحكم وجماهير غفيرة محكورة ومغلوبة على أمرها. يلح أغلب الميكيافيليين الجدد على كون النخبة السياسية تضم مجموعة من الأشخاص الحقيقيين والذين يدركون تماما مواقعهم ومصالحهم الخاصة ويعملون جاهدين من أجل استمرارها والحفاظ عليها، مما يجعل منهم مجموعة ملتحمة ومنسجمة تملك وعيا واضحا بذلك. وبالمقابل، فإنهم يؤكدون أن الجماهير المحكومة تتسم، في غالب الأحيان، بغياب الاجتهادات الفردية وبالسلبية التامة، الأمر الذي يسهل عمل النخبة الحاكمة. وهذا ما عبر عنه رايت ميلز بوضوح حين ربط ظهور النخبة الحاكمة بوجود مجتمع جماهيري سلبي وغير متميز. فالمجتمع الجماهيري في الصحراء لا يزال، في عموميته، تابعا ومجرد هلوسة مدعية. إنه بحاجة إلى التأهيل الثقافي الذي يعد أساس المجتمعات المدنية الحديثة وخط دفاعها الأخير، وأيضا إلى تطوير آليات التحصين والمقاومة، خصوصا إذا علمنا بأن السلطة السياسية تسعى باستمرار إلى تنمية أدوات السيطرة والإكراه والاستعباد. ومن البدهي القول إن مؤسسات المجتمع المدني تعد أهم أركان رشاد الحكم. وإذا ما تم تفعيلها حقيقة، يمكنها أن تسهم في التسريع بوتيرة سير عجلة التنمية، وعلى الخصوص إذا كانت مؤسسات المجتمع المدني متحررة من تسلط الدولة وهيمنتها، وتتحول بالتالي إلى ند للدولة وتأخذ دورها في مساءلة ومحاسبة المقصرين والمهملين من الموظفين والمسؤولين الحكوميين. إن المجتمع المدني في الصحراء، إذا ما توفرت له شروط الإمكان Conditions de possibilité، سيكون قادرا -ولو نسبيا- على فرض حضوره عبر العمل الدؤوب ومن خلال رسم خطط ووضع استراتيجيات تنموية هادفة تجسد تطلعات الناس وتعبر، بالفعل، عن طموحاتهم وآمالهم لتحسين مستواهم المعيشي.. ومؤسسات السلطة هي من يلزمه دعم هذه الاستراتيجيات بإشراك الفاعلين ومكونات المجتمع المدني. وبالطبع، إذا ما كانت للسلطة قيادات نزيهة، فإن البرامج والمشاريع التنموية تجد طريقها نحو الفعل والتحقق.. والعكس لن يكون إلا صحيحا. ولا شك أن صيرورة الحكم ورشاده يعكسان مستوى العلاقة بين السلطة والمجتمع، أي بين الحاكم والمحكوم، وقد تحدث مونتيسكيو وجون لوك عن ذلك منذ مائتي عام ونيف؛ فرشاد الحكم ليس بديلا عن الديمقراطية. لكن الحكم الرشيد يمكن أن يكون ديمقراطيا أو تسلطيا، فالطابع الاجتماعي-الطبقي للسلطة هو الذي يحدد مساحة شرعيتها، إذ إن جوهر السلطة لا ينفصل عن النظام السياسي الذي تمارس من خلاله مهامها الاقتصادية والسياسية. إن السلطة الرشيدة هي التي تعكس مصالح الشرائح العريضة من المجتمع وتتبنى الديمقراطية بالمعنى العريض للكلمة. وإذا ما توافر هذان الشرطان، فإن الجهاز المؤسسي للسلطة يكون أكثر حصانة في مقاومة عناصر الفساد، علما بأن الدولة الرشيدة لا تخلو من فساد، بيد أنه لا يتحول إلى ظاهرة، بل يبقى محصورا في ممارسات فردية محدودة يمكن بسهولة الحد منها ومكافحتها عبر تطبيق العقوبات الزاجرة. ولا شك أيضا أن الحياة المجتمعية تخضع، في حدود ما، إلى نظام ما أو تماسك ما أو ثبات معين. فإذا لم تكن هذه العوامل موجودة، لا يعود أحد يقوى على العيش بصورة عادية حتى ولا أن تلبي أبسط حاجاته. تأسيسا على ذلك، تحتاج الصحراء إلى مجتمع مدني قوي، فاعل ومؤسس على قواعد صلدة وموعى بها Conscientisées تمتح دعائمها من ترقي المجتمع وتسلحه بالوعي والعلم والثقافة والتعليم.. وغير ذلك من الشروط الأساسية التي تمكن من إلجام السلطة التي تحاول تجاوز الحدود ومراقبة أداء المؤسسات المنتخبة وفضح المفسدين بها والتصدي لمخططي براثن الفساد والبغاء السياسي وقطع دابر الاستبداد والاضطهادات Persécutions.. تحتاج الحياة المدنية في الصحراء، كذلك، إلى توسيع مناخ الحرية والتعبير والمساواة الفعلية Egalité de faite.. فلا حرية بلا مساواة.. ولا مساواة بلا حرية، وتحتاج أيضا إلى من ينزع أوتاد الظلم والهوان والترعيب والتخويف والتضييق عبر المساءلة وتطبيق قانون «من أين لك هذا؟» الذي هو آلية ضرورية لمكافحة الفساد، رغم أنه كثيرا ما يصطدم بمشكلة احتكار القوة من جانب من يستحوذون على السلطة السياسية وينفردون بها أو من جانب أولئك الذين يتحصنون بأموالهم في ظل ضعف مؤسسات المجتمع المدني وعدم فاعليتها، فضلا عن غياب قوى الضغط في المجتمعات النامية التي من شأنها، إذا وجدت، أن تكافح السلبيات. فضلا عن ذلك، لا بد من تأهيل العنصر البشري وتربيته على القيم الأساسية للسلوك المدني، وهي عموما: - التسامح: حرية التعبير، حرية المعتقد، حرية الاختلاف، المساواة، الاحترام المتبادل،.. - الكرامة الإنسانية: حريات وحقوق مدنية وسياسية وثقافية واجتماعية وتنموية واقتصادية متنوعة. - المواطنة، خصوصا في علاقتها بالمشاركة الفعلية في تدبير الشأن المحلي والاستفادة من ثروات المنطقة وخيراتها والتصدي لكل من ينهبها. فهذه القيم، وأخرى، لا يمكن إشاعتها وترسيخها سوى عبر المكونات الأساسية للمجتمع المدني، وهي: الأسرة والقبيلة والعشيرة والتنظيمات الأهلية الأخرى المماثلة، والجمعيات والمؤسسات الإعلامية المحكومة بقواعد مهنية والنقابات والمراكز التأهيلية والخيرية والاتحادات النسائية والنوادي التربوية ودور الرعاية والتنشئة الاجتماعية.. وغيرها. ونستثني من هذا، طبعا، الأحزاب السياسية لأنها مؤسسات صورية فاشلة يتمثل وجودها فقط في التملق للسلطة ومغازلتها للوصول إليها، فهي لا تعتبر مكونا من مكونات المجتمع المدني وبعيدة عن هموم وانشغالات الناس ولا تعبر في أي شيء عن مشاكلهم وحاجياتهم. إنها، باختصار، تندرج ضمن المجتمع السياسي البراغماتي بالمفهوم السلبي للعبارة. يتبع... ابراهيم الحيسن - كاتب وناقد