بعد أكثر من ستة أشهر على اندلاع الثورة السورية وبعد سيل التضحيات التي قدمها أبناء الشعب السوري وبناته، فإن الثورة، كغيرها من ثورات الشعوب العربية، لم تكن نتيجة مباشرة للعمل التراكمي الذي قامت به أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، بل هي جاءت من وعي تشكل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادرا على تحمل أو فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ أربعة عقود. وهي لا تسير وفق جدول زمني محدد أو طريق أحادي الأبعاد، بل تخضع لمعادلات تبدو معقدة: النظام السوري يعيش حالة إرهاق متنامية يعوض عنها برفع حدة القمع، والشعب السوري، الذي كان حتى الأمس القريب خارج المعادلة السياسية، نجده وقد أصبح اللاعب الأول والأهم في الواقع السوري. إن الطابع العام للثورة ظل مدنيا وتحرريا وإنسانيا، وبقيت قاعدتها الاجتماعية تحظى بدعم من مختلف الأطياف السورية، وأخذ وجهها العام يستعير مفرداته الحداثية؛ فقد تشكلت قيادات شابة قادرة على استيعاب معطيات التحول العالمي نحو الديمقراطية، وتُمسك بزمام الأمور وتتحكم في حركتها حسب المتغيرات، رغم وجود حالات تشويش فردية. وتكتسب هذه القيادات الخبرة اللازمة في سياق عملها وبالاحتكاك مع المخضرمين من المعارضين، فتنجز أعمالا مشهودة. وهي تعرف أن هذا الليل السوري الطويل لن ينجلي بسرعة، وأن أمامها مهمات شاقة وتضحيات كبرى، لكنها تعرف أيضا أن لا عودة إلى الوراء، وأن لا خيار أمامها سوى مواجهة ظلام هذا الليل الطويل بالصمود والتحدي والتفاؤل. ويمكننا، اليوم، استخلاص عدد من العِبر من يومياتها ومن أشكال تعامل النظام معها: فهي الأكثر تمددا على الصعيد الأفقي أو الانتشار الجغرافي بالمقارنة مع باقي الثورات العربية؛ وهي الأكثر مثابرة رغم التعرض لسادية الأجهزة الأمنية المدعومة بميليشيات «الشبيحة» في مواجهتها؛ وهي الأكثر قدرة -إلى الآن- على المحافظة على السلمية وتجنب الانزلاق نحو المواجهات المسلحة وأعمال الثأر الواسعة النطاق، رغم فظاعة ما يتعرض له المشاركون وعائلاتهم، ورغم محاولات النظام المتكررة جرَّ الناس إلى أعمال انتقامية تضاعف التشنج الطائفي وتزيد من خوف المترددين، فيُتاح المجال أمام الأجهزة الأمنية للمزيد من البطش والإجرام ضد المتظاهرين من دون أدنى تمييز؛ وهي كذلك الأكثر اعتمادا على الذات لتغطية أنشطتها وفعالياتها نتيجة منع النظام لوسائل الإعلام المستقلة من الوجود في سورية؛ وهي الأكثر إنتاجية وإبداعا في الشعارات والهتافات، والأكثر تعبيرا عن تضامن داخلي تشهره لجانها وتنسيقياتها مداورة في مواجهة استهدافات النظام للمدن والقرى والبلدات والمناطق؛ وهي الثورة الأكثر حضورا للنساء في المواقع القيادية لتنسيقيات الثورة. ولكن من المهم قيام إطار سياسي وطني شامل يحظى بقدر معقول من الإجماع والثقة، يتولى القيام بمبادرات سياسية، ويحاول التأثير على سير الثورة باتجاهات تتوافق مع السمات المشار إليها أعلاه، ويمكِّنها أيضا من تقديم مبادرات سياسية تحاصر النظام، فتسهم في إحكام عزلته وفي المزيد من تجريمه، إقليميا وعالميا، أو في فرض تفاوض من مواقع أقوى عليه. وفي هذا السياق، فإن كل المجالس الوطنية التي أُعلن عنها هي نقطة ضوء في الطريق الصحيح، ولكنها تحتاج إلى التصويب، بكل شفافية ودون تجريح أو تخوين، إذ إن ما يجري على المستوى التنظيمي في الخارج ليس ناضجا، وهو بالتالي عاجز عن إنتاج تشكيلة تقود الثورة وتمثلها، والمطلوب هو العودة إلى قاعدة الثورة، والعمل معها من أجل إنتاج مرجعية سياسية، بوصفها جزءا عضويا من تنسيقيات الثورة، يسمح ببناء تفاعل صحي مع قيادات الخارج من أجل بناء إطار لمجلس وطني سوري، يلعب دوره في حشد الدعم والتأييد وبناء مصادر استمرار الثورة حتى إسقاط النظام. ويبدو أن ثمة قاسما مشتركا سياسيا يجمع قوى المعارضة بكل فئاتها: سلمية الاحتجاج، تغيير النظام، إقامة دولة مدنية تعددية وديمقراطية تصون حقوق الإنسان وحرياته وتساوي بين جميع السوريين. أما الاختلاف في التفاصيل فهو مسألة طبيعية وبديهية، لا بل ضرورية لحياة ديمقراطية سليمة وتعددية. وهكذا، على الرغم من أن اصطفافات قوى المعارضة التقليدية تصدم المزاج الشعبي المطالب بوحدتها، فإنها في العمق تخدم مسيرة الثورة، خاصة إذا توفرت لها الشفافية والوضوح، حيث يمكن أن تخدم كل قوة من هذه القوى الثورة من موقعها ويبقى الانحياز الواضح إلى الثورة والعمل على إسقاط النظام هو المعيار الفاصل بينها والمقياس الحاسم لمدى جديتها وصدق مواقفها. أما قوى الثورة الشعبية فهي الجسم الحيوي الفاعل والواعد والذي نهض بصورة عفوية دفاعا عن كرامة السوريين وحريتهم من غير قوى سياسية أو شخصيات ورموز تقوده ومن دون شعارات أو برامج مسبقة، بل تنطحت لقيادته مجموعات شبابية نالت ثقة الناس من خلال صدقيتها واستعدادها العالي للتضحية. وعلى الرغم من عفوية الثورة وغياب أي تحضير أو تخطيط لها، نجح شبابها في بناء هياكل وأطر تنظيمية، حملت اسم التنسيقيات، قابلة للتطور بما ينسجم مع حاجات تقدم الاحتجاجات وتجذيرها، وتمكنوا تدريجيا من توحيد قطاعات مهمة من هذه التنسيقيات على مستوى المناطق الأكثر سخونة ونشاطا، ويبدو أنهم الآن في طريقهم عبر إعلان الهيئة العامة للثورة السورية لاستكمال هذه العملية وتشكيل قوة واحدة قادرة على العمل الميداني والسياسي المتسق. وهكذا، تقتضي الثورة السورية، التي وصّفنا واقعها أعلاه، اعترافها بالحاجة إلى الخارج ودعمه بالحدود التي لا تهدد وحدة البلاد أو تجرها إلى تدخل عسكري، إذ يختلف تصور الحماية الدولية ما بين مراقبين دوليين ومنظمات حقوقية ووسائل إعلام مستقلة يراقبون الوضع السوري وممارسات النظام، وما بين توقع حظر طيران ومناطق آمنة، وصولا إلى التدخل العسكري الدولي. وفي هذا المنظور، طالبت الهيئة العامة للثورة السورية، في 8 شتنبر، المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته واتخاذ كل الإجراءات التي من شأنها فرض حماية للمدنيين وفق ما نصت عليه قوانين ومواثيق الأممالمتحدة ذات الصلة. والسؤال اليوم هو متى سيسقط النظام، وبأية كلفة، وعبر أية مسارات متعرجة، وضمن أي نطاق زمني؟ قد يأخذ سقوطه شكل اهتراء تدريجي يدوم شهورا طوالا، ولا يستبعد أن يتسبب النظام خلالها في تخريب وطني واسع، قد لا تنهض منه سورية إلا بمشقة وبعد سنوات. ولكن العودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل 15 مارس متعذرة، فما تشهده سورية حاليا هو نوع من المأزق: لا السلطة تستطيع وقف الاحتجاجات ولا الاحتجاجات الحالية قادرة على إسقاط السلطة. والمهم أن النظام سيلحق بأقرانه التونسي والمصري والليبي، وكلما تضافرت الجهود وتعاظمت العوامل المنهكة له كان هذا اللحاق أسرع وبكلفة بشرية واقتصادية أقل وطأة، مما يفرض على الكتلة التاريخية للثورة السورية أن تبلور توازنات جديدة، تصون الحرية المكتسبة بعد كفاح شاق، وتضمن استقرارا مواتيا للتراكم الوطني، وتؤسس لنشوء تقاليد سياسية واجتماعية جديدة.