جزاء سينمار.. هي الحكمة العربية التي تفسّر المنهج الذي تتعامل به الولاياتالمتحدة مع حلفائها غير الغربيين، و«الميكافيلية» هي المفهوم الغربي الذي يفسّر هذه المنهجية، منهجية اللا منطق، حيث لا وجود مطلقا لمبادئ الوفاء بالعهد أو المعاملة بالمثل أو حماية الأصدقاء (العملاء). لا وجود لصداقة تدوم مع أحد. لا وفاء يستمر. لا مكان لحليف أو صديق.. المعيار الوحيد هو المصلحة الأمريكية، التي تخلو من الأخلاق والصداقة والأعراف والتقاليد. منطق الغدر بالعميل والحليف، الذي أفنى عمره ونفسه في خدمة بلاد «العمّ سام». منطق اللا وجود لحقوق الإنسان أو أي مصطلحات أو مفاهيم أخرى تحمل شبها بأي شيء يتعلق بالإنسانية.. منطق الغدر برجال أوجدتهم الولاياتالمتحدة لقمع شعوب أوطانهم خدمة لمصالحها في المنطقة لتتخلى عنهم سريعا بتُهَم مختلفة بين إيواء طالبان والإرهاب والتجسس والاتجار في المخد رات، بعد استنفاد قدراتهم على القيام بأدوارهم أو تراجع قوتهم ونفوذهم أمام قوى المعارضة أو ظهور البديل الآخر، الذي يمكنه أن يقدم خدمات أفضل... عملاء وحلفاء تخلّت عنهم أمريكا لصالح بديل وحليف آخر ووضعتهم في كفّ مزادها العلني ليتم «بيعهم» بأبخس الأثمان، بعد أن اعتقدوا لبرهة ولحظة صغيرة أن قوة الولاياتالمتحدة يمكن أن تضمن لهم الاستمرار في السلطة ونسوا وتناسوا أن الضمانة الوحيدة هي ضمانة الشعب وأن السلطة الوحيدة هي سلطة الشعب فقط وليست سلطة «العم سام».. إنهم، باختصار، رجال وحلفاء في المزاد العلني الأمريكي... «معادلته السياسية أشبه بنظام المقايضة مع الغرب: دعوني أفعل ما أشاء وخذوا ما تشاؤون». حمل ولاء واشنطن لسنوات حكمه السبعة والثلاثين عاما ورافقه هذا الولاء كظلّه على الدوام بعد أن تخلّصوا معه من الزعيم الوطني باتريس لومومبا، بعد أن فشلوا في إخضاعه لهم، وعندما وجدوا البديل آل حاله كشاه إيران محمد رضا بهلوي يعاني الويلات في منفاه بعد أن رفضت واشنطن استقباله وعلاجه حتى سقط جريحا ثم جثة هامدة في منفاه بالمملكة المغربية في العام 1997 بعد أن أجبره حليفهم الجديد كابيلا على الفرار من البلاد وترك الحكم والدولة التي طالما هوس بالسلطة فيها. هو جوزيف موبوتو سيسي (ولد بتاريخ 14 أكتوبر 1930 بمدينة ليسالا في الكونغو البلجيكية) رئيس جمهورية الكونغو أو زائير، كما أطلق عليها خلال فترة حكمه، بعد أن قاد انقلابه العسكري بمباركة أمريكية ضد الزعيم الوطني باتريس لومومبا قبل أن تتنازل عنه واشنطن من جديد بعد ظهور بديلها الجديد كابيلا وتركه يعاني من ويلات المنفى داخل المملكة المغربية التي لقي حتفه فيها متأثرا بالمرض الخبيث. مناجم النحاس والبلاد الذهبية بعد وفاة ملك الكونغو انطونيو الأول في العام 1665 بمعركة أمبيلا التي خسر فيها أمام الجيش البرتغالي الذي أخذ يغزو البلاد حينذاك، توجهت الأطماع الأوربية إلى تلك المنطقة الغنية بمناجم النحاس بعد أن أطلقوا عليها لقب البلاد الذهبية، واقنع بالتالي هنري مورتون ستانلي (أحد المستثمرين الانجليز) ملك بلجيكا آنذاك ليوبولد الثاني بتعيينه رئيسا لشركة الكونغو الدولية التي أنشئت في العام 1879 للسيطرة على تلك المناجم قبل أن يقوم الملك ذاته وتحديدا في العام 1885 بإقناع زعماء أوروبا بحقه الشخصي في ملكيّة الكونغو في اجتماع كبير عقد بالعاصمة الألمانية برلين. سنوات قليلة مضت حتى بدأ الرفض البلجيكي لتصرفات الملك واستثماراته لموارد الكونغو لحسابه الخاص، وازداد هذا الرفض بعد ظهور الأطماع الانجليزية والأمريكية في المستعمرة البلجيكية، الشيء الذي دفع البرلمان البلجيكي سنة 1908 إلى نزع الخصوصية التي كان يتعامل بها الملك مع المستعمرة بعد أن أطلقوا عليها الكونغو البلجيكي. الصبغات الدينية للتحرّر مع بداية العام 1920 (بعد ستة عقود تقريبا من الاستغلال البلجيكي لثروات الكونغو) بدأت حركات التحرّر ذات الصبغة الدينية في الظهور رغم محاولات الردع الشديدة التي قوبلت بها من طرف البلجيكيين، وكان على رأس هذه القوى الثائرة سيمون كليمنغو الذي ادعى زيارة الله له معتبرا نفسه مأمور التبشير بالمساواة والعدل بين الناس وإنقاذ العرق الأسود مؤسسا بذلك لحركة الكاكية، التي اعتقل على إثرها في العام 1921 قبل أن يلقى حتفه داخل سجنه نهاية العام 1951، وعلى إثر ذلك زادت الروح القومية وأخذ الكونغوليون بمختلف طبقاتهم الاجتماعية والمهنية ينخرطون في حركة واحدة وشاملة للمطالبة بالتحرّر من زيغ الاستعمار البلجيكي ونيل الاستقلال والتمسك بزمام الأمور في البلاد، وبلغت هذه المطالب ذروتها ما بين 1955-1959 وأضحت تطالب بالاعتراف بالقومية الإفريقية، خاصة بعد تأكدها من النوايا الاستعمارية لبلجيكا نتيجة زيارة الملك بودان لها لخفض حالة التوتر والاضطراب. مطالب سياسية للشعب الكونغولي بمرور الوقت تحوّلت الدعوات المناهضة للاستعمار البلجيكي إلى مطالب سياسية وأضحت (بإعلان الجنرال الفرنسي ديغول استقلال المستعمرات الفرنسية ومن بينها الكونغو برازفيل عام 1954)، تلك المطالب التي تحوّلت إلى حراك شعبي عارم وأخذت تطالب بالاستقلال الكامل للكونغو ليعلن ملك بلجيكا في 13 يناير 1959 نتيجة منح الكونغو استقلالها بحلول شهر يونيو من العام 1960 بعد أن تنامت الحركة الوطنية الكونغولية التي برز معها نجم الزعيم الوطني باتريس لومومبا قبل أن تنقسم هذه الحركة إلى جناح يميني بزعامة كازافوبو وجناح يساري بزعامة باتريس لومومبا الذي تم إلقاء القبض عليه من طرف السلطات البلجيكية نهاية العام 1959 بتهمة الإخلال بالنظام العام والتعاطف مع الشيوعية. سرعان ما تزايدت الاحتجاجات المؤيدة للزعيم الوطني لومومبا والمناهضة لاعتقاله حتى تم الإفراج عنه سريعا والدعوة إلى اجتماع عام عاجل قاده ملك بلجيكا مع رموز الحركة الوطنية في بروكسل 1960، تم من خلاله الإعلان عن استقلال الكونغو بتاريخ 30 يونيو 1960 بعد أن صدر القانون الأساسي بمثابة الدستور قبل ذلك بشهر واحد ليتوافق مثل هذا الإعلان مع مطالب القوى الوطنية التي يتزعمها باتريس لومومبا بغية تحقيق آمال الشعب الكونغولي. ما هي إلا أياما قليلة حتى تمت الدعوة إلى انتخابات تشريعية جاءت بنتائج متقاربة بين زعماء القوى الوطنية، حيث جوزيف كازافوبو وباتريس لومومبا تلك الانتخابات التي كشفت عن تيار انفصالي قوي سرعان ما أخذت القوى والأحزاب الوطنية في تفاديه عبر تأسيسها لجبهة اتحاد وطني أصبح بمقتضاها كازافوبو رئيسا لجمهورية الكونغو وباتريس لومومبا رئيسا للحكومة، الشيء الذي لم يرض عنه البعض الآخر من القوى الوطنية حيث «مويس تشومبي» الذي استقل وبدعم من بلجيكا بإقليم كاتنغا وعقد شراكة اقتصادية معها، وحيث «ألبير كالونغي» الذي استقل بدوره بمقاطعة كازائي بعد أسبوعين فقط من انفصال كاتنغا، وبدأ السعي وبدعم من الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى إسقاط حكومة باتريس لومومبا المناهضة للغرب ولسياسات الولاياتالمتحدة في المنطقة وتعاونها الصريح والواضح مع بلجيكا واستغلالها لثروات البلاد التي اعتبرها لومومبا ملكا للشعب فقط، وبدأت بذلك القوات الدولية تحلّ محل القوات البلجيكية التي تم إنزالها في الأقاليم المنفصلة عن حكومة لومومبا توازيا مع سوء وتدهور العلاقات بين الرئيس كازافوبو ورئيس حكومته باتريس لومومبا، حيث حملّ الأول لومومبا مسؤولية أخطاء الجيش الوطني الكونغولي في ما يحصل بمناطق كاتنغا وكازائي الانفصاليتين إلى جانب خلافهما القديم حول رفض لومومبا الواضح للنظام الفدرالي الذي يؤيده كازافوبو. موبوتو في المصيدة الأمريكية أمام هذه التناقضات أخذت الولاياتالمتحدة ومن قبلها بلجيكا بالتخوف كثيرا على مصالحها المشتركة في جمهورية الكونغو، نظرا لسياسات لومومبا وحكومته المناهضة للغرب والتواجد العسكري في البلاد، إضافة إلى تأميمه لبعض الشركات الأمريكية هناك لصالح أفراد الشعب الكونغولي، تلك السياسات التي وجدت ترحيبا منقطع النظير من طرف فئات الشعب المختلفة التي أخذت تلتف من حوله وبالتالي لا بد من التحرك سريعا بعد أن أوجدت البديل المناسب الذي سيلبي كل مطالبها ألا وهو رئيس أركان الجيش الجنرال جوزيف ديزي (موبوتو سيسي سيكو) الذي دعمت انقلابه على حكومة باتريس لومومبا وسيطر على البلاد لمدة ثلاثة شهور فرّ خلالها لومومبا إلى المقاطعة الانفصالية كاتنغا حيث عدوّه «تشومبي» الذي سارع إلى إلقاء القبض عليه وقتله في العام 1961 بعد أن فشلت المخابرات الأمريكية في اغتياله لمرات عديدة وأعاد سريعا كازافوبو إلى رئاسة البلاد بعد منحه سلطات، رئيس الوزراء والحكومة وإقالته للزعيم الانفصالي «تشومبي» من ذلك المنصب بتاريخ 13 أكتوبر 1965. لحظة وصوله إلى السلطة (رئيس الحكومة) قام موبوتو وبدعم أمريكي بحلّ البرلمان وإلغاء الأحزاب وتقليص عدد المحافظات من 21 إلى 8 محافظات فقط مستعينا بالجيش في إدارة البلاد ومؤسّسا بذلك للحركة الشعبية للثورة ومحاولا امتصاص غضب الجماهير ضده بعد أن عمد إلى بناء تمثال ضخم للزعيم الثوري باتريس لومومبا أطلق عليه تمثال شهيد الاستقلال الأول وأعلن ولادة جمهورية الكونغو الجديدة 24 مارس 1974 بعد أن أسماها (زائير) ووضعه لدستور جديد يعطي السلطة الفعلية لرئيس الدولة وليس لرئيس الحكومة نظير تكهنه بالفوز الساحق في انتخابات الرئاسة المقبلة التي فاز بها بنسبة 100% من الأصوات داعيا الكونغو للعودة إلى الديمقراطية والأصالة الإفريقية ونبذ الأسماء الأوروبية ابتداء من اسمه، الذي قام بتغييره في العام 1995 ليصبح موبوتو سيسي سيكي بدلا من جوزيف ديزيريه واسم البلاد من الكونغو إلى جمهورية (زائير). سقوط الحليف أخذ موبوتو يشعر ببعض الضيق الأمريكي نتيجة لسياساته التي أخذ باتباعها والتي قد تضر بمصالحها وتنقض وعوده التي قطعها على نفسه تجاهها، فبدأ بتشجيع الاستثمارات الأجنبية يونيو 1969 إلا أن الوضع الاقتصادي لم يتحسن على الإطلاق نتيجة لهبوط أسعار النحاس عام 1971 فعاد من جديد (بعد رحلته إلى الصين) فبراير 1973 إلى تأميم بعض الشركات حتى ملكت الدولة قرابة 60 في المائة من اقتصاد البلاد نهاية العام 1974 وبدأ صبر الولاياتالمتحدة ينفد وكأنه تحوّل إلى عداء حتمي، واتجهت إلى سياسة إشعال فتيل التمرد والثورات ضده بعد أن تم تصويره كزعيم راديكالي يمثل ظاهرة ثورية يخشى تفشي أضرارها بمصالح البلاد والمنطقة الإفريقية برمتها عام 1977 (والتي ابتدأت بمنطقة شابا «كاتنغا سابقا»)، لتمتد إلى المناطق المجاورة مع أوائل العام 1978 رغم تمكنه من إخمادها بمساعدة القوات البلجيكية، التي عمدت إلى إنزال نفسها في تلك المناطق خشية على مصالحها الكبرى هناك، رغم رفض الولاياتالمتحدة لمثل هذه المساعدة كونها أضحت ترى في هذا العميل والحليف السابق عدوا لها ولمصالحها في المنطقة، خاصة بعد أن أوجدت البديل الجديد لوران ديزيريه كابيلا. فما أن جاء عام 1991 حتى فاز موبوتو بالانتخابات الجديدة التي سارع من خلالها إلى تقليص الأحزاب لحزبين اثنين إلى جانب حزبه الحاكم رغم انتقادات زعماء المعارضة للنظام الانتخابي الذي منح موبوتو نتائج غير عادلة، الشيء الذي أدى به إلى إعادة تنظيم البرلمان وإقالة زعيم المعارضة ورئيس الوزراء تاشيكيدي أوائل 1992 وإقالة وزرائه في 1994 ودفع بذلك البلاد إلى حالة من الإضراب العام امتد حتى العام 1996، تاريخ قيام قواته بمحاولة فاشلة للقضاء على قبائل التوتسي المؤيدة ل«لوران كابيلا»، عميل الولاياتالمتحدة الجديد، الذي سرعان ما عمدت إلى تجهيزه للانقضاض على موبوتو والتخلص منه في 16 ماي 1997، ذلك التاريخ الذي استولى فيه كابيلا وبدعم أمريكي على الحكم في البلاد وانتهت بمغادرة موبوتو كرها باتجاه المملكة المغربية التي بقي فيها حتى وفاته بالسرطان في شتنبر من نفس العام.