الدخول المدرسي على الأبواب، وسؤال التعليم وإشكالية التمدرس لازالت من هموم المغاربة وأشد ما يثقل كواهلهم ويؤرقهم، خصوصا بعد تردي مستوى التعليم العمومي وتوسع أخطبوط التعليم الخاص الذي يتعامل مع الصغار وآبائهم كصيد ثمين بفرض واجبات باهظة الثمن ورسوم ومشتريات ومتطلبات لا قدرة للعباد على توفيرها. لقد أصبح التعليم تلك النقطة السوداء التي ما من جهة وصية تسعى بالفعل إلى تلميعها، فالمدارس العمومية لا تصلح حتى فضاء لرعي الأغنام، والمؤسسات الخاصة لا يهمها سوى كسب المال، والخاسر الأكبر هو الآباء والتلاميذ والمجتمع بأسره. أنا أنتمي إلى الجيل الذي جربت فيه وزارة التربية والتعليم كل مخططاتها وتغييراتها وعبقريتها الفذة من التعريب إلى نظام الدورات إلى الامتحان الموحد ونقط الفصل، وجميعنا دون استثناء خضعنا، بطريقة أو بأخرى، للتغيرات الارتجالية التي ترافق كل دخول مدرسي دون أن نشعر بأن هناك مخططا فعليا واضحا، علميا وفعالا، للنهوض بقطاع حيوي مصيري مثل قطاع التعليم. الكل ينتقد المنظومة التعليمية بكافة مكوناتها منذ سنين والكل ينادي بالإصلاح أو يحمل شعاره، فيما بلدان كثيرة تشتغل في صمت لتوفر لأبنائها تعليما عموميا جيدا ومتقدما لبناء أجيال تستطيع أن تبني وتؤسس وتتحدى بقوة وإدراك ومنهجية. دول كثيرة جعلت من قطاع التعليم هدفها الأسمى فوحدت الفرص وجعلت الصغار سواسية في الحق في تعليم عمومي حكومي جيد ومتكامل، يشمل التربية على الأخلاق والسلوكات والمواطنة قبل التعليم والتكوين والتمدرس، وبالتالي فهي تضمن مستقبلا مشعا ومتطورا وجيلا جديدا يكسب من الأدوات ما يؤهله ليكون الأفضل. أما نحن فقد خسرنا كل ما كنا نعتبره مكسبا في السنوات السابقة، على الأقل كان التعليم العمومي يقدم إلى المغاربة مستوى جيدا من العلوم والآداب، وكان الأساتذة يستميتون في سبيل تلقين تلاميذهم وطلبتهم ما جد من الأفكار والعلوم والمناهج، وكانوا، رغم كل الظروف الصعبة، يناضلون ويشاركون في تنمية البلاد بتعليم المغاربة وتكوينهم وحثهم على النجاح. الآن، انسحب التعليم العمومي وهو يحمل راية الاستسلام وعوضه التعليم الخاص الذي لا يشبه حتى المدارس العمومية في الدول التي تدرك أهمية التعليم لبناء مجد ومستقبل الأمم.. أطفال مكدسون في سيارات تطوف بهم بسرعة جنونية من مكان إلى مكان، مناهج تدريسية لا خصوصية لها ولا هوية، أطفال يحملون حقائب تضاعف وزنهم فيما لا يجب، قانونيا وعلميا، أن يفوق وزن حقيبة الطفل كيلوغراما واحدا، تمارين كثيرة ينجزها الآباء عوض الأبناء، ومطالب مادية كثيرة تبين بوضوح أن المؤسسات الخاصة تبتز الآباء باستغلال نقطة ضعفهم.. صغارهم. في الواقع، ارتبط مصطلح التربية بالتعليم منذ القدم، فلا وجود لأحدهما دون الآخر. وربما لم أستوعب، شخصيا، كيف يمكن للمؤسسات التعليمية أن تكون فضاءات أيضا للتربية إلا حينما شاهدت كيف تقوم مدارس عمومية عبر العالم بتعليم الصغار كيف يأكلون وكيف يفرشون أسنانهم وكيف ينظفون الفصول وكيف يعبرون الشارع وكيف يحترمون القوانين وكيف يتعاونون وكيف يعملون بشكل جماعي، وجدت أن التربية في مدارس عديدة عبر العالم تسبق التعليم، لذلك فطبيعي جدا أن يختلف سلوك طفل يغادر مدرسة حقيقية تقوم بواجباتها كاملة عن سلوك طفل يغادر مؤسسة تجارية تحمل، خطأ، صفة مدرسة. همّ التعليم وإشكالية التربية مسؤولية الدولة والحكومة بالدرجة الأولى، ومراقبة هاته المؤسسات الخاصة التي تنبت كالفطر مسؤولية الدولة والأوصياء على قطاع التعليم، وصغارنا ومستقبل بلدنا مسؤوليتنا جميعا إن كنا، فعلا، نحلم بالتغيير وبأن ننجب جيلا جديدا سليما ومعافى.. يبقى أن نتذكر جميعا أن هناك أطفالا في عمر الزهر يقطعون مسافات طوالا ليدرسوا، صغار يمشون تحت الثلج والمطر في ظروف صعبة جدا ليجدوا حجرات بلا مدرس.. بلا كراس.. بلا مستقبل..