تتناول هذه المقالات تعريفا ببعض أهم العلوم الشرعية التي نشأت في الحضارة الإسلامية. فقد ظهرت في تاريخ الإسلام علوم كثيرة دارت حول القرآن والسنة، وهي علوم تعكس طبيعة العقل المسلم وآليات اشتغاله وتنوع اهتماماته.. لقد كانت حضارتنا حضارة علم ومعرفة، لأنها حضارة كتاب وتأسست على كتاب، وهو القرآن. الوسطية علاج للتطرف الديني والغلو الفكري: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف – بما علّمه الله سبحانه- أن الغلوّ سيحدث في الأمة، وأنه سيكون من ابتلاءاتها الكبرى، فأوصى بسلوك طريق الوسطية والاعتدال، في وصايا كثيرة، منها كما تقدم قوله عليه السلام: إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين. قال المناوي في معنى الغلو في الدين: أي التشديد فيه ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها وغوامض متعبداتها. وقال ابن تيمية: قوله هذا (أي الحديث) عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال. والغلو مجاوزة الحد، بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك... ومنها أيضا قوله الكريم: «إياكم والتعمق في الدين، فإن الله قد جعله سهلاً، فخذوا منه ما تطيقون، فإن الله يحب ما دام من عمل صالح وإن كان يسيرا». وفعلا حدث الغلو في الأمة، فأنهكها وشغلها قديما، وشتّت طاقاتها وأضعفها حديثا. ويعتبر السيد مروان الفاعوري، الأمين العام للمنتدى العالمي للوسطية، بأن التطرف قدّم أعظم خدمة لأعداء الإسلام، وبأنه ساهم في تعثر مشاريع التنمية وأشعل الصراعات بين الإخوة ووسّع الهوة بين الشعوب والدول وأضعف التيار الديني المعتدل.. الأساس الفكري للغلو والتطرف : يلح كثير من الكُتاب اليوم على أن جوهر أزمة الأمة فكري، أي يتعلق بنظام التفكير وأولوياته ومصادره. فأي خلل في فهم الدين أو فهم الواقع، أو كليهما، يؤدي لا محالة إلى خلل في السلوك. إذن، ليس غريبا أن يتفق زعماء الإصلاح على أن التعليم السليم من أهم المداخل لتغيير الأوضاع السيئة للعالم الإسلامي، وللدفع به قدما إلى الأمام، بما في ذلك تعليم المرأة. فهذه قاعدة مسلّمة عند جميع المصلحين طيلة القرنين الماضيين، من رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى عبد المتعال الصعيدي وعلال الفاسي وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي. وهذا شكيب أرسلان، مثلا، يتساءل لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟ فيخصص فصلا عنوانه: حث القرآن على العلم: باعث للمسلمين على سبق الأمم في الرقيّ. أما محمد عبده فتكلم طويلا في اشتغال المسلمين بمختلف العلوم في الماضي، وأن ذلك واجب عليهم اليوم أيضا. إن الدين لما نفذ إلى أعماق المسلمين وفقهوه حق الفقه، أقبلوا على العلم والتعلم بقوة، لذلك فإن الفصام بين الدين والجامعة أمر خطر يضر بهما معا، ولن يبدع المسلمون شيئا بمعزل عن الأساس الفكري الإسلامي. يقول التونسي الفاضل بن عاشور في شرح كيف أثار الإسلام في نفوس أتباعه الحرص على العلم: «إن هذا المجتمع الإسلامي مجتمع ديني بالمعنى الأخص، كان الدين فيه العامل الأول المباشر. ومن دعوة الدين والإيمان بها، اكتسب الشعب الذي استجاب لتلك الدعوة وامتاز بذلك الإيمان، خلالا نفسية جديدة. لم يستفد علما ولا صناعة ولا قوة مادية، ولكن الذي اكتسبه من الخلال طوّع له العلم والصناعة والقوة المادية، فكانت المدارك الدينية وحدها هي التي فتحت أمام نظر المسلم آفاق الكون للتأمل والاعتبار والمعرفة والإيمان. ولما عرف نواحي الوجود على ما هي عليه، بنظره الديني، اتجه إلى بحث ما اشتملت عليه تلك النواحي من التفاضل، فتكونت فيه داعية طلب العلم على اختلاف مواضيعه وفنونه، فاصطنع العلوم التي هي من التراث الإنساني المشترك، وابتكر العلوم التي هي من التراث الإسلامي الخاص. وجعل من مجموعة تلك العلوم الإنسانية المشتركة، والإسلامية الخاصة، مجالا لتصريف المدارك الدينية التي التأمت تلك العلوم على محورها، مع اختلاف عنصريها». وتوجد اليوم حقيقة معروفة، تداولتها الدراسات والصحف، وهي أن التعليم الشرعي الصحيح والمتين لم ينشئ تطرفا ولم يخرّج متطرفين، فأعلام التطرف وأتباعه لم يتخرجوا لا من القرويين أو الزيتونة، ولا من الجامعة الإسلامية بالمدينة أو جامعة أم القرى، ولا من الأزهر أو ندوة العلماء.. حتى أصبح معطى ثابتا أن خريجي المعاهد الشرعية نادرا ما يلتحقون بتيارات التطرف، بخلاف التخصصات الأخرى، بما فيها العلمية والتجريبية، التي يعرف أصحابها ضحالة في التكوين الإسلامي، حيث لا تقدم هذه الكليات لطلابها شيئا يذكر من الثقافة الإسلامية في بلدان عربية كثيرة. وهذه بعض نظرات في أسباب هذا التطرف، وفي بعض العوامل المساعدة عليه: - جهل أجيال متعاقبة بأمور دينها جهلا بسيطا. وأمثلته أكثر من أن تحصى، فالكثيرون لا يملكون الحدّ الأدنى من المعرفة بالعقيدة والتوحيد، وبالقرآن والحديث وعلومهما، وبالفقه ومدارسه، وبالسيرة النبوية وأحداثها، وبالتاريخ الإسلامي ومنعطفاته، وبحاضرنا المسلم وتحدياته.. بل كثيرون يجهلون كيف يقيمون عباداتهم على الوجه الصحيح المشروع.. لذلك فثقافتهم الدينية ضحلة محدودة. يقول العراقي طه العلواني: «إن الطالب المسلم يبدأ مرحلته الجامعية غالبا في وقت لا تتجاوز الرؤية الإسلامية لديه معرفة قليلة بالإسلام، يكون قد نالها في البيت أو في مراحل التعليم الأولية أو منها جميعا. ومن الواضح أن هذا القدر من المعرفة الإسلامية، لا يشكل رؤية إسلامية أو فكرا إسلاميا لديه، ولا يحقق له حقيقة الانتماء الإسلامي الذي يصونه من التأثر والتغير. وهكذا يبدأ الطالب مرحلة التعليم الجامعي وفكره خال تماما من هذه الرؤية، ومنفتح لأية تأثيرات..». وإصلاح هذا الوضع يقتضي تدريس مادة الثقافة الإسلامية في جميع مراحل التعليم: من الروض والابتدائي أو الأساسي إلى الجامعي ونظام الماستر، وكذا في جميع المعاهد والجامعات، وضمن كل التخصصات العلمية والأدبية. ولسنا في هذا بدعا بين الأمم، فعدد كبير من دول أوربا وأمريكا يدرسون مادة الدين المسيحي لأبنائهم في المرحلة الأساسية. وبعدها: منهم من يستمر في تدريس المادة إلى الثانوية العامة، ومنهم من يدرّس مواد أخرى، لكن في إطار من التربية المقصودة على الوطنية والاعتزاز بالهوية. ومن أهم هذه المواد: التاريخ، فهذا هو الذي يشكل الأساس الدراسي للهوية في البلدان التي يمنعها نظامها العلماني من تدريس مادة الدين إجبارا. كما تقوم مواد أخرى بالمهمة ذاتها، وإن بدرجة أقل، مثل: اللغة والآداب، والجغرافيا البشرية والاقتصادية، والفلسفة.. أما في المرحلة الجامعية، فإن كثيرا من الأقسام يدرس مادة تسمى «الحضارة الفرنسية» بفرنسا، و«الحضارة البريطانية» ببريطانيا.. - جهل أجيال أخرى جهلا مركبا بالدين: وهؤلاء – على خلاف فئات واسعة من الشباب الذي لا يملك معرفة حقيقية بدينه- قد يعرفون أشياء عديدة عن دينهم وحضارتهم وتاريخهم، لكنها معرفة منقوصة، وأحيانا كثيرة مشوشة ومشوهة. وهذا جهل أخطر. من ذلك قضية الإصلاح والتغيير، فلا أحد ينكر وجوب السعي إلى تحقيق نهضة إسلامية علمية وعملية، تعيد لنا أثرنا في التاريخ ومكانتنا بين الأمم.. وليست هذه الغاية سهلة المنال، وقد رام تحقيقها كبار رواد الإصلاح في الأمة طيلة القرون الثلاثة الأخيرة، أمثال محمد بن عبد الوهاب وجمال الدين الأفغاني وولي الله الدهلوي ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي.. وسطّروا الكتب في تشخيص الأزمة واقتراح الحلول، وعملوا على تنفيذ ذلك ووضعه على الأرض.. فحققوا أشياء عديدة، ولم يمهلهم الزمن لتحقيق جميع الآمال. وساهمت طبيعة العصر وتحدياته العلمية والتقنية والفكرية.. في تعقيد المهمة وإطالة زمن الإصلاح. فهذا عصر فريد من نوعه بين جميع العصور التي مرت على البشرية، إذ حدثت فيه ثورات وانقلابات هائلة في جميع الاتجاهات: الفكرية والتكنولوجية والاقتصادية والأخلاقية.. لا غرابة أنه أصعب الأزمان على الفهم وأبعدها عن الاستيعاب.. حتى بالنسبة لفرق الباحثين وجيوش المفكرين، فكيف بآحاد الشباب من المسلمين؟ وكيف بتغييره وتعديل مسيرته التاريخية؟ لكن بعض شبابنا المتحمس يتصور مثلا أن الجهاد العسكري وحده هو السبيل للنهوض، وأنه قادر على حل كل مشكلة وتجاوز كل معضلة. وبذلك أشهدوا على أنفسهم أنهم يجهلون الإسلام وتاريخه، كما لا يعرفون العصر وخصائصه. ولعلهم لو درسوا تاريخ المسلمين الحديث – أعني به القرنين التاسع عشر والعشرين -، وكيف اندلعت في كافة أرجائه مقاومات مسلحة ضد الغزاة المستعمرين، وقدمت ملايين الشهداء.. ومع ذلك لم ينجح أكثرها في دحر الغزو الفكري كليا، وإن أخرج الجيوش الاستعمارية، كما لم ينجح في بناء البديل العربي والإسلامي المناسب للعصر والزمان.. لو قرؤوا وتأملوا لأدركوا أن حمل السلاح الذي يصنعه الأجنبي غير المسلم ليس حلاّ، وأن قضيتنا أعقد من ذلك وأعمق، وأن السؤال المؤلم للنهضة: لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم.. لا يزال ينتظر الجواب. - تعدد مصادر الثقافة الدينية: من أهم خصائص زمن العولمة انهيار الحدود بين الثقافات والشعوب. لا يحصى عدد ما يجري يوميا من المبادلات الاقتصادية وتبادل المنافع والخدمات، ولا أعداد المسافرين في كل اتجاه، ولا كمّ المعلومات المتنقلة عبر القارات، ولا حجم الأثر والتأثير بين بني البشر. ولسنا في هذه الدوامة بدعا بين الأمم، بل نحن في قلبها، وربما كنّا آخر من يقاوم في هذا العالم جوانبها السلبية. هكذا يجد الإنسان العربي والمسلم نفسه شبه ضائع في هذا العالم المتحرك الصاخب، فتأتيه الأفكار من كل حدب وصوب: الشبكة العنكبوتية، والقنوات الفضائية، والكتاب والمجلة.. أحيانا يكون الاستهداف مباشرا، وأحيانا بالإيحاء أو الرمز، أحيانا بعفوية وحسن نية، وأحيانا عن سوء قصد وتعمد. لذلك ربما مال الشاب المستقبل إلى أحد طرفين: الغلوّ في الدين، أو الغلوّ عنه. وليس لهذا من حلّ إلا بتسليح الإنسان العربي المسلم بثقافة إسلامية صلبة، يتلقاها في المدرسة والجامعة، أي في مؤسسات جديرة بالثقة. وإذا تحصّن الشاب لم يضره الشرّ والخطأ، كما لا تضر الجسم السليم الميكروبات والفيروسات المنتشرة في كل مكان. الثقافة الدينية لا تحتمل الفراغ إن الناس يحتاجون إلى الدين وإلى ثقافته وعطائه، والذين يتصورون أنه لا ضرر في إهمال الثقافة الإسلامية، أو التقليل منها ومن شأنها، في المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام، وأنه لا أولوية لذلك.. هؤلاء واهمون ومخطئون، لأن الناس ستبحث حتما عن هذه الثقافة أينما وجدت، وستتشبع بها كيفما كانت، فإذا ظهر بينهم غلو وتطرف.. فهو أمر وارد ومتوقع، لذلك فالحلّ في توفير المعرفة الإسلامية الوسطية، والتربية عليها.