«الثائر الهادئ»، كما وصفه عبد الرحيم بوعبيد، عايشه في زنزانة تضم 13 معتقلا بينما سعتها مخصصة لشخص واحد، كان مؤمنا بقضيته مرددا «الاستعمار لا يمكن قتاله إلا بالسلاح، ويجب وقف تعامل بعض المغاربة الضعفاء «الجبناء» مع فرنسا»، في ساحة المعتقل توجه بشجاعة لتنفيذ حكم الإعدام في حقه، قائلا « يا السي عبد الرحيم .. إلى اللقاء عند الله». من يكون هذا الذي كتب عنه أحمد معنينو واصفا «الشهيد أحمد الحنصالي الذي أعلنها بداية للثورة التي قادت البلاد إلى حصولها على الاستقلال»، هذا الذي جند له الاستعمار عشرة آلاف محارب وطائرات حربية، ووصفه ب«سفاح تادلة» و«اللص المسلح لتادلة»، وهللت الصحف الفرنسية بعد اعتقاله، شارك فتى يافعا في مقاومة المستعمر، وكان ضمن قبيلة لم تستسلم إلا في سنة 1933، أعاد إطلاق أول رصاصة ساهمت في اندلاع الثورة المسلحة، وأعقبها بتنفيذ عمليات نوعية أرعبت فرنسا، التي فشلت في اعتقاله، ليقدم الخونة المقاوم طمعا في نيل مكافأة مالية كبيرة، نعيد في هذه الحلقات رسم مسار قصة واحد من الذين لم ينالوا حقهم الكافي بالاعتراف بفضله في تاريخ المغرب، أسد تادلة ومفجر ثورة المغرب المسلحة. انطلقت أولى محاكمة لأحمد الحنصالي ورفاقه يوم الثلاثاء 10 فبراير 1953. وكانت أحداث كثيرة قد شهدها المغرب خلال ال 22 شهرا التي تلت ثورة الحنصالي واعتقاله، وكانت السلطات الاستعمارية قد شددت الخناق على الملك محمد الخامس، فيما بدأت شرارة ثورة أحمد الحنصالي تتسع يوما بعد يوم، عقب انطلاق المقاومة المسلحة من جديد، التي ألهمها أحمد الحنصالي عندما أطلق أولى رصاصات الثورة من أجل الاستقلال ومن أجل طرد المستعمر. وكان الجنرال جوان ومن بعده خلفه غيوم قد فتكا بالمغاربة، خصوصا الوطنيين، وبلغت ذروة الفتك في حملة الاعتقالات والتقتيل التي جاءت بعد يوم 5 دجنبر 1952 تاريخ اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد، حيث أعلن المغاربة إضرابا عاما واجهته السلطات الاستعمارية بقتل عشرات الآلاف من المغاربة، ففي مدينة الدارالبيضاء وحدها استشهد حوالي 16 ألف مواطن مغربي، وتم خلال هذه الأحداث اعتقال الوطنيين، ولم تسلم جهة تادلة من هذه الحملة الشرسة، خصوصا أنها كانت بداية لشرارة الثورة المسلحة على يد أحمد الحنصالي. اختارت السلطات الاستعمارية أن تشرع في محاكمة البطل أحمد الحنصالي في 10 فبراير 1953 بعد شهرين من القمع الموسع، الذي مارسته السلطات الاستعمارية، وأن تسرع وتيرة المحاكمة بعد فترة التحقيق والاعتقال الطويلة جدا. وقد استغرقت الجلسات من يوم الثلاثاء 10 فبراير إلى غاية الاثنين 16 فبراير، عقدت فيها هيئة المحكمة 11 جلسة للمحاكمة في ظرف ستة أيام، حيث عقدت الجلسة الأولى صباح الثلاثاء، أعقبتها عشر جلسات، مقسمة على جلستين كل يوم إلى غاية يوم الاثنين 16 فبراير 1953 حيث تم النطق بالأحكام في ختام الجلسة المسائية. واحتضنت ثكنة المحكمة العسكرية بالدارالبيضاء أطوار المحاكمة التي ترأسها مستشار المحكمة العسكرية بالرباط المدعو كايرال، بمساعدة فلوري، الرائد المفوض من الحكومة الفرنسية، وبعضوية كولونيل ورائد وملازمين. كان الموعد المحدد لانطلاق الجلسات هو الساعة التاسعة صباحا، لكن القاعة امتلأت في الساعات الأولى من صباح الثلاثاء 10 فبراير، حيث سمحت السلطات الاستعمارية للصحف الاستعمارية بحضور الجلسات، فيما منع صحفيون عرفوا بموضوعيتهم، كما منع ممثلو الصحافة الوطنية، وحضر معمرون وأقارب للقتلى الذين سقطوا خلال العمليات الفدائية. كما حضر أطوار الجلسات أعوان الاستعمار بالمغرب، وحضر أيضا شهود، كان من أبرزهم الناجون من العمليات الفدائية التي قام بها الحنصالي. كما حضرت إيزة بنت أحمد، زوجة المخزني سعيد أوخلا، الذي كان أول من قتله أحمد الحنصالي بمنطقة بونوال بدائرة القصيبة، واستولى على بندقيته يوم 8 ماي 1951، قبل أن يباشر عملياته الفدائية بمنطقة بين الويدان وبوادي أمرصيد، والتي خلفت ستة قتلى من الفرنسيين وستة جرحى. كما حضر بأمر من المحكمة كل من الكومندان روسو رئيس دائرة القصيبة، وحبيبي بن سعيد، ومبارك الوالي، وشهود آخرين. واستعانت الهيئة بمترجمين اثنين، أحدهما لترجمة الأمازيغية، والثاني لترجمة العربية، وسرعان ما تم الاستغناء عن الثاني، حيث إن أغلب المتهمين يتحدثون الأمازيغية. وقد حضر دفاع المعتقلين المتكون من كل من الفرنسي شارل دوكراف، محامي البطل أحمد الحنصالي، وكان مسجلا ضمن هيئة المحامين بالدارالبيضاء، والمحامي المغربي عبد القادر بن جلون، محامي ولد سميحة، والمحامي الفرنسي فييني، الذي كلفه الحزب الشيوعي الفرنسي بالدفاع عن القيادي في الحزب الشيوعي المغربي المعطي اليوسفي، وهو من هيئة المحامين بباريس، والمحامي مارزاك، الذي كان يدافع عن بوعزة نايت ميمون، والمحامي جون شارل لوكرو، الذي كان يدافع عن إبراهيم بن سعيد المدعو الزروقي، وعن شيخ القبيلة محمد بن موحى والحسين، إضافة إلى المحامية جينيفير كودير، التي كانت تنوب عن موحى وصالح واعلي المدعو البقالي، الذي كان أكبر المعتقلين، حيث كان يقدر عمره أثناء محاكمته ب63 سنة، والمحامي دو مانغان، الذي كان يدافع عن رئيس فرع حزب الاستقلال بمدينة قصبة تادلة عبد العزيز ولد رقية عمر.