بمثول الرئيس المصري «المخلوع»، حسني مبارك، في قفص الاتهام أمام القضاء للرد على اتهامات بالقتل والفساد ونهب المال العام، تقف مصر والأمة العربية بأسرها أمام سابقة تاريخية، قد تكون الأهم منذ عقود، بل ربما منذ قرون، فقد جرت العادة، وما زالت، على أن يقتل الحكام العرب وينهبون ويتجبرون دون أي حساب أو مساءلة. إنها إرادة الشعب.. إنها الشجاعة في كسر كل حواجز الخوف والرعب من الطغاة.. من أجهزتهم القمعية، من الموت نفسه دفاعا عن الكرامة.. أو بالأحرى من أجل استعادتها.. أو انتزاعها من براثن أناس ولغوا في إهانة شعوبهم وسحق كرامتهم وتحطيم عزة أنفسهم. أن يدخل الرئيس «المخلوع».. ونصرّ بقوة على كلمة «المخلوع»، إلى قاعة المحكمة، على كرسي متحرك أو على سرير الموت، سيان، المهم أن يمثل أمام القضاء، كشخص مجرم مدان، وسط بطانته السيئة، وأدوات القتل والتدمير، مع ابنيه اللذين عاثا في الأرض فسادا وراكما المليارات من عرق الفقراء والمطحونين. لا تعاطف مع الطغاة.. ولا شفقة مع من تعاطى مع شعبه كما لو أنه قطيع من الأغنام، ومع بلاده كما لو أنها مزرعة له ولنسله غير المقدس، يورثها لهم من بعده، ويجد الكثير من وعاظ السلاطين الجاهزين لإصدار الفتاوى التي تبرر، بل تحتم هذا التوريث. جريمة الرئيس المخلوع الكبرى ليست في نهب المال وقتل خمسمائة متظاهر كانوا يطالبون بإسقاط حكمه فقط، وإنما في قتله لمصر ومكانتها وهيبتها وكرامتها، وتشويهه لهويتها، وتحويلها من دولة عزيزة، كريمة، إلى دولة ذيلية، متسولة، تتعيش على الفتات. مصر التي كان ينتظر السعوديون محملها السنوي قبيل موسم الحج وكسوة كعبتها، والليبيون مساعداتها المالية والغذائية، والخليجيون أطباءها ومدرسيها، والمغاربة ثوارها وأسلحتها، والعرب جميعا فنونها وآدابها وإبداعاتها، مصر تحولت، وبفضل الرئيس مبارك وأمثاله إلى أضحوكة، «حيطة واطية»، يتزاحم الكثيرون على إهانتها والتطاول عليها. أكثر من ثلاثين عاما من النهب والسرقات وتكديس المليارات في البنوك الغربية هي عناوين حكم الرئيس المخلوع الأبرز.. أتمنى أن يكون أول سؤال يوجهه القاضي إليه هو ليس عن مكان هذه المليارات، وإنما عن الفائدة التي جناها من وراء سرقتها من عرق أبناء شعبه، وماذا ستفيده وهو الآن في أرذل العمر، ويقف خلف القضبان مثل كل اللصوص، كبارا كانوا أو صغارا. سؤال آخر أتمنى أن يوجهه القاضي إليه أيضا، عن أسباب حقده على مصر وتراثها ومكانتها ودورها، بحيث ينحدر بها، وعن إصرار وتصميم، إلى هذا الحضيض، من أجل البقاء على كرسي العرش، وأسرته المالكة، ووسط بذخ وفساد وإفساد يتواضع أمامها بذخ وفساد أسرة محمد علي، ابتداء بزعيمها المؤسس وانتهاء بالملك فاروق. ثمانون مليونا من أبناء مصر الطيبة الصابرة سيتسمرون أمام شاشات التلفزة يتابعون هذه اللحظة التاريخية، ليشاهدوا «خديويهم» السابق في مشهد لم يحلم أو يحلموا به، ومعهم أسر ضحايا نظامه الذين سقط فلذات أكبادهم برصاص الغدر، دفاعا عن نظام فاسد، هؤلاء الرجال الذين سطّروا بدمائهم الصفحة الأهم والأشرف في تاريخ مصر الحديث. الطغاة العرب الآخرون، شركاء مبارك وحلفاؤه في ذبح كرامة هذه الأمة وإذلال عقيدتها وتقديمها قربانا إلى كاهنهم الأمريكي وحاخامته الإسرائيليين، هؤلاء الطغاة سيتابعون المحكمة وهم يرتعدون خوفا ورعبا من مواجهة المصير نفسه، فكم سفكوا من دماء شعبهم، وكم من المليارات نهبوها وما زالوا، في غفلة من الزمن. الرئيس مبارك كان يتربع على قمة المؤسسة البوليسية الأضخم في العالم العربي، بل وفي العالم الثالث أيضا، ومع ذلك فإن هذه المؤسسة، التي يزيد تعداد أفرادها على مليوني جندي، وميزانية ثلثهم تعادل ثلث ميزانية الدولة على الأقل، لم تمنع سقوطه المريع، بفضل حناجر شباب الثورة وصدورهم العامرة بالإيمان والتصميم على التغيير. المجلس العسكري الحاكم اضطر إلى الرضوخ لمطالب الثوار والتسريع بمحاكمة العهد البائد الفاسد ورموزه، بعد تلكؤ طال أمده، نتيجة لضغوط حلفاء مبارك في دول القمع والاضطهاد العربية، الذين لا يريدون تسجيل هذه السابقة حتى لا يواجهوا المصير نفسه، وهذا الرضوخ كان الطريق الأقصر لإنهاء اعتصامات ميدان التحرير وإنقاذ البلاد من الثورة الثانية الزاحفة، وهي ثورة الجياع. فرحتنا الكبرى كانت بتنحي الديكتاتور مرغما ومعترفا بالهزيمة، وفرحتنا الأكبر بمشاهدته ذليلا خانعا خلف القضبان، لا نقول ذلك شماتة أو تشفيا، وإنما نقوله انتصارا للعدالة والمساواة وإحقاقا للحق وعبرة لكل من تغولوا في سفك دماء الأبرياء واعتقدوا أنهم محصّنون من أي محاسبة أو مساءلة. إنها الهدية الأجمل والأدسم للشعب المصري، وكل الشعوب العربية بمناسبة شهر رمضان الفضيل، بل هو المسلسل الأكثر إثارة وتشويقا تتواضع أمامه كل مسلسلات الدراما الأخرى. الرئيس المخلوع لم يشعر مطلقا ولم يتعاطف، بل لم يتحسس معاناة عشرات الملايين من شعبه ويستخلص معاني هذا الشهر الفضيل في هذا الإطار، بل لم يكن ونسله على تماس مع هذه الملايين، أو حتى معرفة بوجودها، كانوا يعيشون في مملكتهم الخاصة وبطانتهم الفاسدة، وجاء الوقت لكي تنعكس الآية وينقلب السحر على الساحر، وهو سحر رديء، من ساحر أردأ. ننحني أمام ثوار مصر، شبابها الطاهر الشجاع، بمختلف أطيافه السياسية والعقائدية، الذي حقق لنا هذه المعجزة، وأعاد إلينا الأمل والبسمة والشعور بالانتصار بعد ثلاثين عاما من القهر والهزائم. مصر كانت دائما، وستظل رائدة وسباقة في تسجيل السوابق التاريخية، وما نأمل أن نشاهده اليوم في كلية الشرطة هو أبرزها.. فشكرا لها، ونأمل أن نرى عشرين طاغية آخرين في القفص نفسه، وقريبا جدا بإذن الله.