بعدما عرف العالم العديد من الأمراض الغامضة التي لم تكن معروفة من قبل، مثل «السارس» و«جنون البقر» و«أنفلونزا الطيور»، ثم «إيبولا الخنازير»، يعكف خبراء الصحة حالياً على دراسة مرض جديد آخر، يُطلق عليه اسم الإيكولاي. هاجس مرضي جديد يرعب المواطنين في شتى أنحاء العالم، وخصوصا في القارة العجوز, التي سجلت عددا كبيرا من الإصابات وحالات الوفيات. فبعد أنفلونزا الخنازير، وأنفلونزا الطيور وجنون البقر وتحذيرات بالجملة من مواد مسرطنة في الغذاء، انشغل العالم، مجددا، ببكتيريا معوية مميتة تعرف باسم «أي كولاي»، أدت إلى حد الآن إلى مقتل 33 شخصا في أوروبا. وفي الوقت الذي كان العلماء يتسابقون لمعرفة مصدر هذه البكتيريا الغامضة، كان بعض الأخصائيين في ألمانيا يتخوفون من أن تكون هذه الظاهرة عملا إرهابيا. وأمام هذه الشكوك، تحدثت بعض الصحف الألمانية، مثل صحيفة «بيلد» عن عمل متعمد، وهي فرضية استبعدتها وزارة الداخلية في الصحف نفسها. كما ذكرت مجلة «فوكس» احتمال أن يكون المرض تفشى خلال حفلة في هامبورغ ضمت، من السادس إلى الثامن من ماي، 1,5 مليون شخص. وحسب صحيفة «ليوبكر ناخريشتن» الألمانية، يدرس المحققون في الشرطة خيط مطعم في ليوبك حيث أصيب 17 زبونا بالتسمم. وأشارت صحيفة «سودويتشي تسايتونغ» أيضا إلى مطعم في هذه المدينة نظم فيه منتدى نقابي، منتصف ماي، وشاركت فيه 34 امرأة أصيبت ثمان منهن وتوفيت واحدة. أوربا.. حرب «الخيار» تسببت «إي كولاي» أيضا في توتر على صعيد الدول الأوروبية، إذ قادت روسيا حملة إدانة دولية وحظرت استيراد الخضر الطازجة من أوربا، واتهمت بروكسل بإشاعة الفوضى لعدم إعطاء معلومات كافية عن التفشي. وقوبل حظر روسيا كافة الخضر الطازجة من الاتحاد الأوروبي باحتجاج من حكومتي بولندا وهولندا وغضب المفوضية الأوروبية. وكان المسؤولون الألمان قد ألقوا اللوم على ثمار الخيار الملوثة المستوردة من إسبانيا، قبل أن يتراجعوا عن موقفهم ويعتذروا لمدريد. إلا أن إسبانيا تقول إنها ستطالب بتعويضات من ألمانيا بسبب الأضرار الاقتصادية التي تكبدتها، مؤكدة أن خسائرها وصلت إلى معدل 200 مليون يورو أسبوعيا بسبب امتناع الدول عن استيراد الخضر منها. وبسبب هذه الأزمة التي تلحق بمنتجي الخضار خسائر مادية هائلة، ستتم على الأرجح دعوة وزراء الزراعة الأوروبيين إلى اجتماع استثنائي في لوكسمبورغ لكن ليس قبل 17 يونيو، حسب مصادر دبلوماسية في بروكسل. ارتياح بعد تحديد مصدر الإي كولاي أثار تأكيد معهد فدرالي للتحاليل، السبت الماضي، أن مصدر البكتيريا أي كولاي، التي تسببت في وفاة أكثر من ثلاثين شخصا في ألمانيا هو فعلا حبوب نابتة ملوثة، ارتياح برلين والاتحاد الأوروبي. ويأتي هذا التأكيد بينما أعلنت السلطات الصحية الألمانية أن عدد الذين توفوا بالإسهال الناجم عن البكتريا ارتفع إلى 33 شخصا بينهم 32 في ألمانيا. وأكد علماء المعهد الفدرالي لتقييم المخاطر النتائج التي توصلت إليها سلطات رينانيا الشمالية فستفاليا (غرب). وقالوا إن النوع البكتيري «0104:اتش4» للإي كولاي النزيفية رصد في كيس من الحبوب النابتة سلمه رب عائلة في المقاطعة إلى السلطات. وقد جاء هذا الكيس من مزرعة غيرتنهوف البيولوجية في بيننبوتل في ساكسونيا السفلى (شمال المانيا)، التي تم إغلاقها. وأكد وزير الزراعة في المقاطعة، غيرد لينديمان، لصحيفة راين نيكار تسايتونغ «حسب المعلومات المتوفرة حاليا، المزرعة لم تخطئ في أي إجراء وتتبع معايير صحية عالية». وقال مدير المعهد الفدرالي، اندرياس هينسل، إن «تأكيد نتائج التحاليل يشكل خطوة مهمة» على طريق الكشف عن مصادر البكتريا. وهو ما ينهي أسابيع من القلق كلفت المزارعين الأوروبيين مئات الملايين من اليوروهات، إذ إن المستهلكين امتنعوا عن شراء الخيار والطماطم وخضار السلطة التي حذرت السلطات الألمانية من احتمال وجود البكتريا فيها. وعبرت وزارة الزراعة الاتحادية عن ارتياحها لكشف مصدر المرض بينما قال المفوض الأوروبي للصحة جون دالي إنه «حدث بالغ الأهمية». وصرح دالي بأن «المستهلكين الأوروبيين والشركاء التجاريين (للاتحاد الأوروبي) يمكنهم الآن أن يثقوا في سلامة خضر الاتحاد الأوروبي». ومع ذلك تبقى مسألة العدوى عالقة. وقال وزير البيئة وحماية المستهلكين في رينانيا الشمالية يوهانس ريميل «ما زال الأمر غامضا (...) هل انتقلت البكتيريا عن طريق الإنسان أو الحيوان؟». ويتم إنتاج الحبوب النابتة في درجات حرارة مرتفعة وأجواء من الرطوبة. ويرى باحثون أنها يمكن أن تحمل أنواعا عدة من البكتيريا مثل الإي-كولاي والسالمونيلا. والحبوب النابتة من عدس وفول وصويا وخردل وقمح وفجل وشمر وغيرها توضع في الماء ثم تعرض للهواء والحرارة والضوء حتى تنبت لها جذور فتصبح أغنى بالفيتامينات والمعادن وترتفع قيمتها الغذائية وخلال السنوات الماضية انتشرت ظاهرة تناول هذه الحبوب ولاسيما في المطاعم حيث تستخدم خصوصا في السلطات والسندويشات. كيف تتحول البكتيريا الوديعة إلى شرسة؟ الواقع أن تعدد أنواع البكتيريا إي كولاي الهائل يجعل منها أنواعا نافعة وأخرى ضارة من البداية، لكن أكثرها ضراوة هو ما يحدث نتيجة تغيير في الصفات الوراثية التي تحملها، الأمر الذي يجعل تلك الطفرة الناتجة ضربة موجعة إلى من يصاب بها، وتظل الحيرة قائمة إلى أن يتوصل العلم إلى الصيغة الوراثية الجديدة التي عليها البكتيريا، فيمكن بالتالي مقاومتها بالصورة الطبية الملائمة بمضادات حيوية أو تعويض ما فقده المصاب من سوائل أو بطرق لدعم الجسم في مواجهة ما أصابه من عدوان . إن رصد السلالات الجديدة من البكتيريا وتصنيفها يتيح للأطباء معرفة مصدر العدوى، فالمعروف أن تلك السلالات تنتسب للأمعاء التي تسكنها، فعلى سبيل المثال تحليل أي مصدر للتلوث ورصد نوع البكتيريا يشير إلى مصدرها سواء كان إنسانا أو حيوانا أو طائرا، فالبكتيريا تسكن أمعاء ذوات الدماء الدافئة ولا علاقة لها بذوات الدم البارد كالزواحف. كيف يحدث وينتقل المرض؟ الأنواع الضارية من البكتيريا «إي كولاي» تسبب نوبات من اضطراب الأمعاء والإسهال القاسي، الذي قد يودي بحياة من هم أقل مناعة كالأطفال وكبار السن، ومنها ما يتسبب في عدوى المسالك البولية أو التهاب أغشية المخ عند الرضع حديثي الولادة. الأنواع الأكثر شراسة تتسبب في حالات تسمم الدم والتهاب الغشاء البريتونى، ومتلازمة طبية تعرف بمصطلح Haemolytic Uremic syndrom أو تحلل الدم وفشل الكلى «تحلل الدم اليوريمى». تعد هذه المتلازمة هي أخطر مضاعفات العدوى، وقد منيت الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 2006 بتفشي ذلك الوباء الذي اقترن بتلوث أوراق السبانخ. وعانت اسكتلندا أيضا عام 1996 من وباء مماثل راح ضحيته سبعة أشخاص وتعرض المئات للعدوى. وتتمتع بكتيريا إي كولاي بقدرات خارقة على إنتاج سموم تقاوم عوامل البيئة المختلفة وأهمها الحرارة، فرغم أن بعضها أيضا تقتله الحرارة فإن المقاوم من تلك السموم للحرارة يمتلك أيضا قدرة مذهلة على الالتصاق بخلايا الغشاء المخاطي للأمعاء ليجبرها على تجرعه، بينما يعاونه نوع آخر من السم يمنع الخلايا من امتصاص الماء، الأمر الذي يزيد من سمية العدوى ويتسبب في الإسهال العنيف الذي يتسبب في جفاف الجسم وخسارته لكل المعادن المهمة التي يحتويها. وتنتقل بكتريا «إي-كولاي» عبر المواد الغذائية غير المغسولة والنيئة وغير المعقمة، خضر غير مغسولة وغير مقشرة، اللحوم النيئة، والجبن والحليب غير المعقمين، طبخ المواد على حرارة 70 درجة يقتل البكتريا. كما تنتقل البكتريا عبر المياه والبراز. ويستبعد الخبراء احتمال انتقال البكتيريا الراهنة التي تم اكتشافها في شمال ألمانيا من إنسان إلى آخر ولو حصل العكس لكان انتشار الوباء أكثر اتساعا. سباق مع الزمن سابق العلماء الزمن للحصول على البصمة الوراثية التي يحملها حامض «دي إن إيه» لخلايا تلك الباكتريا الأكثر ضراوة على وجه الإطلاق والتي توصف ببكتيريا إي كولاي المعوية النازفة Enterohaemarrhgic E. coli.والتي توالت التصريحات من الدوائر العلمية المختلفة في العالم لتجزم بأننا بصدد عدو باكتيري غامض يستمد شراسته من تركيبة مزدوجة لطفرة من بكتيريا إي كولاي، ربما حدثت نتيجة تحول غير معروفة أثناء انقسام الخلايا أو أنها نتجت من غزو كائن آخر بكتيري أو فيروسي لخلايا بكتيريا إي كولاي أصابها بعدوى نتج عنها ذلك اللغز المخيف. ومن المعروف أنه من الممكن أن يغزو الفيروس أي خلية حية فإذا تمكن من المادة الجينية فيها «حامض دي إن إيه» فإنه يعيد هندستها بالشكل الذي يحيلها إلى خلية ذات صفات مختلفة تماما عن صفاتها الأصلية. غياب البصمة الوراثية لتلك البكتيريا الضارية يجعل علاجها من أشق الأمور، ويحصر الخدمة الطبية في علاج الأعراض الداهمة وتعويض الإنسان عما يفقده ودعم جهاز المناعة لديه. ازدواجية تركيب الخلية الباكتيرية يجعل من العسير اختيار مضاد حيوي بعينه. الإسهال الدموي وتحلل الدم والفشل الكلوي كلها عوامل تقود للهلاك رغم الرعاية الفائقة التي يجب أن تتوافر للمريض، فلا أمل إلا في نجاح العلم في تحديد هوية تلك البكتيريا الغامضة التي تنتمي إلى عائلة إي كولاي للبدء في مقاومتها بما يقهرها من علاج وربما استحداث «لقاح» يقي الإنسان شرها. بيان منظمة الصحة العالمية وفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية، فقد ظهرت هذه البكتريا في 12 دولة، وهي ألمانيا والنمسا والتشيك والدنمارك وفرنسا وهولندا والنرويج وإسبانيا والسويد وسويسرا وبريطانيا والولاياتالمتحدة. وكان معظم المصابين في تلك الدول قادمين من ألمانيا. وأكدت منظمة الصحة العالمية أن بكتيريا «الإشريكية القولونية» المعروفة باسم (إي كولاي) قد تنتقل بين البشر من خلال البراز أو الجهاز التنفسي. وقالت الخبيرة في علم الأوبئة بالمنظمة الدولية، أندريا إليس، إن «انتقال البكتيريا بهذا الشكل يثير قلقنا، ولهذا السبب نرغب في تعزيز الرسائل المتعلقة بالنظافة الشخصية». وأشارت الخبيرة إلى أن جميع الحالات حتى الآن «على صلة بشمال ألمانيا»، بشكل يدفع إلى الاعتقاد بأنه «محصور في هذه المنطقة». وحول سبل انتشار العدوى، أوضحت الخبيرة قائلة: «قد تنتقل العدوى بسبب عدم الاهتمام بالنظافة»، لهذا، فإن أحد أهم سبل الوقاية منها تتمثل في غسل الأيدي بعد دخول الحمام، وقبل ملامسة الطعام. يشار إلى أن 95 % من حالات العدوى بنوعي البكتيريا تركزت في شمال ألمانيا، أي ما يوزاي ألفا و733 شخصا، توفي منهم 22 جراء المرض، فيما بلغ عدد المصابين بالمرض في 12 دولة ألفا و823، لقي 11 منهم حتفهم. الوقاية خير من العلاج يُمكن الوقاية من الإصابة ببكتيريا «إي كولاي» عبر اتباع العديد من الخطوات، وهي غسل اليدين بالماء والصابون جيداً قبل إعداد الطعام وطهيه وغسل الخضر الطازجة جيدا، أو الامتناع عن أكلها طازجة في حال الشكوك بوجود البكتيريا، وطهي اللحم المفروم حتى زوال اللون الوردي عنه تماما، وتفادي تذوق شيء من اللحم أثناء طبخه وتفادي وضع اللحم المطهي في أطباق وضع عليها اللحم النيئ سابقاً من دون غسلها جيداً، وإذابة اللحم المتجمد تتم إما في الثلاجة أو أفران المايكروويف، ولا يتم ذلك خارجهما، وإبقاء اللحوم غير المطبوخة بعيداً عن بقية الأطعمة وتفادي تناول الحليب الطازج من دون بسترته، وإبقاء الأطعمة أياً كانت في الثلاجة أو المجمد . أما المصابون بالإسهال فعليهم غسل أيديهم باستمرار، خصوصا بعد قضاء الحاجة. ماذا عن المغرب؟ يؤكد المكتب الوطني لسلامة المنتوجات الغذائية، أنه يراقب تطور باكتيريا «إيكولاي» في أوروبا، دون أن يخوض في تفاصيل ما قد يكون اتخذه من إجراءات، ودعا خبراء مغاربة من المعهد الوطني للبحث الزراعي إلى التحلي باليقظة على مستوى الحدود عند مراقبة واردات المغرب من الخضر. وقد أشار مصدر مطلع إلى أن إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة عممت دوريةّ، إثر اتهام ألمانيا ل«الخيار» الإسباني، تلح فيها على ضرورة مراقبة «الخيار والخضر القادمة من إسبانيا، داعية إلى اليقظة واتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل منع استيراد الخيار أو الخضر التي طالتها الباكتيريا، غير أنه تمت بعد ذلك تبرئة الخيار الإسباني من الباكتيريا التي أودت بأرواح من سبق لهم أن زاروا ألمانيا. ولاحظ خبراء مغاربة من المعهد الوطني للبحث الزراعي، أن المغرب ليس مستوردا خالصا للخضر والفواكه، فهو مصدر خالص لها، داعين في الوقت ذاته إلى اليقظة في المراكز الحدودية، على اعتبار أن تلك الباكتيريا لا يختص بها بلد واحد دون غيره.
معظم ضحايا بكتيريا «اشريشيا كولاي» هم من النساء؟! لا حظ العلماء أن من بين الأمور الغريبة المحيطة بوباء النوع القاتل من بكتريا إي كولاي المنتشر في ألمانيا حاليا، أن معظم ضحاياه هم من النساء، في حين أن معظم الأوبئة المماثلة يكون ضحاياها من الأطفال لأنهم لم يكتسبوا بعد مناعة ضد التسمم الغذائي، إلا أنه في حالة ألمانيا كانت الغالبية من البالغين والنساء البالغات تحديدا، ولا يعرف العلماء السبب حتى الآن. ومن المثير، أيضا، أن وباء مماثلا بسبب هذا النوع من البكتريا انتشر في الولاياتالمتحدة عام 1994 وكان أغلب الضحايا، أيضا، من النساء بمتوسط عمر 36 عاما. وإذا ثبت أن النساء أكثر عرضة للإصابة بهذا النوع من بكتريا إي كولاي فإن ذلك ينفي نظرية «الغذاء الصحي». ويقول أولف جوبل، من مستشفى شاريت الجامعي في برلين، إن هذا النوع من البكتريا ربما يعمل في أجساد النساء أكثر من الرجال (مثلما تعمل بعض أنواع البكتريا في أجساد مجموعات عرقية دون غيرها.)