رشيد نيني، الذي قض مضجع الفساد والمُفسدين، في مختلف المجالات التي يُعشش فيها ببلدنا الحبيب، يقبعُ الآن خلف القضبان. إنها مفارقة سوداء، تريد أن تنال من الأمل الذي نسجه المغاربة بقوة الصبر وجرأة المبادرة. مُفارقة تجعل كل من يحلم بمغرب عادل وشفاف يستيقظ على كابوسٍ مَسْخٍ يريد أن يلتهم عينيه ولسانه ويديه. عليكَ ألا ترى ولا تسمع ولا تكتب إذا كتبتَ. أما إذا رغبتَ في استعمال حواسك ويدك الكاتبة في ما يُمليه عليك ضميرك المهني، فأنت تتجرأ على ارتكاب المحظور. هكذا يفكر منطق من جعل المفارقة صارخة: المُفسدون خارج القضبان والمشير إليهم بالأصبع داخله. إن الجهر بالنقد يبقى، حسب لوبيات الفساد المستشري، مُدانا، خاصة إذا حمل ذلك النقد توقيع رشيد نيني، الرجل الذي ينتظر المغاربة عموده كل صباح، لأنهم عثروا في كتابته على صوت النقد الذي لا يهادن في سبيل الحق. مشكلة رشيد نيني مع بؤر الفساد أنه لا يرى بعين ويغمض الأخرى. لا ينظر إلى نصف الكأس الممتلئة فقط، مكتفيا بذلك الحظ من الضمير المهني السعيد. لا «ينزل» مرة ويغيب أخرى. لا يكتب عمودا واحدا وينتهي الأمر. لا يأخذ إجازة تجعله يوقف آلة النقد إلى حين التئام الجراح، بل يكثف من الحضور، فيرسل العمود الواحد عقب الآخر، ضاربا للقارئ موعدا متجددا مع الفضح، بتفاصيل أخرى وتشويق أكبر. هذه الطريقة في التناول، التي لا تؤمن بغير الضربة النقدية «القاضية» المدعمة بكثير من التفاصيل والمهارة في التحبيك والصياغة، هي التي تزعج في رشيد نيني: بيلدوزير الصحافة المغربية. إن رشيد نيني، القابع الآن خلف القضبان، رجل مبادئ. وهو يسخر، في السر والعلن، من كل من يريد بهذا الاعتقال التعسفي النيل من كرامته وإصراره. إن رشيد، حتى قبل أن يصبح الاسمَ الذي نعرفه، كان شديد الحرص على مبادئه، يتعاطى مع ما يبدو له حقا بكل كيانه وما ملكتْ يداه. لقد اختار، منذ فترة بعيدة، نهجه ومعسكره في الصحافة والتحرير والحياة: نهج مزعج، يقظ، ملحاح، عنيد، ساخر، لاذع، لكنه ممتلئ غيرة على بلد يُعلن وفاءه له في كل الظروف، ويتمنى له، ككل الشرفاء، أفضل المراتب بين الأمم. كنتُ أعرف رشيد نيني كواحد من الكتاب الأذكياء الذين يحيون بالاستعارة الشعرية، لكن هذه الاستعارة هي التي وضعته، على نحو مبكر، في طريق الكتابة الصحفية، ليحترف، إلى جانب أقلية هائلة، الحفر والنبش في الجدران المغلقة، حتى تتوسع أكثر كوة الأمل ويتسرب النور. رشيد نيني الآن، بفضل قلمه ومؤسسته الإعلامية الاحترافية والجريئة، في مقدمة هؤلاء. كنتُ أحس دائما بأن الشغف الأكبر في حياة رشيد نيني هو الشعر. كنتُ أسمع وأتخيل، وأنا أشاطره هذا الشغف، أنه ينام على قراءة قصائد ويستيقظ على أمل كتابة أخرى. لكن هذا الشغف أكلته الصحافة التي أحرقتْ أصابعه وأدمتْ يديه. هكذا تعلم الشاعر التضحية: يُمكن تأجيل كتابة القصيدة، لكن كتابة النثر الدامي، الذي يترع مرارة عن أحوال البلد وقصص المفسدين، لا يمكن أن تؤجل. إنها واجب يومي وماركة مسجلة باسم من نذروا أنفسهم لمعركة الإصلاح، حتى تنبثق شمس الحرية. هذا المسار يذكرني بتجربة محمد الماغوط، الذي التهمت الصحافة قسطا وافرا من موهبته الذهبية في قول الشعر، ليمضي إلى توقيع مقالات نقدية بالغة العمق، شديدة السحر والتأثير. رشيد نيني هو ابن هذه المدرسة التي استنبتها في تربة الصحافة المغربية بتفوق، ليضيف إليها عناصر كثيرة من شخصه وأسلوبه ومزاجه وموهبته الفذة، ليصبح ظاهرة وحديث مقاه وصالونات. أعطى رشيد نيني لمهنته الكثير من الصبر والدأب والجهد، بل أعطاها في موقف سابق من دمائه الزكية، ويعطيها اليوم من حريته الشخصية، لذلك كافأته المهنة بهذه المحبة الشاسعة الوارفة في وجدان المغاربة. لذلك أيضا يطالب الناس جميعا، بمختلف مشاربهم، اليوم، بإطلاق سراحه حتى يعود إلى واجبه وقرائه بذات الإيمان الذي عهدناه فيه. إننا نتمنى أن يكون اعتقاله مجرد «خطأ مطبعي» طالعناه في صفحة الماضي، لتعلن صفحات الغد خروجه إلى زرقة الحرية، ليُغرد خارج السرب. رشيد نيني قيمة إعلامية وثقافية وإنسانية نادرة، مكانه في مؤسسته الإعلامية للكتابة عن جراحنا وآمالنا وليس وراء القضبان. أيها السادة، غلبوا صوت العقل، وأطلقوا سراح الشاعر الذي اعتنق الصحافة عن إيمان، لأنه رأى حُلما مغربيا جميلا ورغب في تحقيقه.