أحتفظ بصورة لي إلى جانب الرؤساء: الجزائري الشاذلي بن جديد والسوري حافظ الأسد والليبي معمر القذافي. مناسبة التقاطها أنني وجدت نفسي، في زحمة فوضى رافقت انعقاد قمة عربية مصغرة في طرابلس، تائها وسط الرؤساء. وإذا كان من شيء يميز قواعد البروتوكول في ليبيا، حتى عندما يتعلق الأمر بقمم تشتد فيها الحراسة وإحصاء الأنفاس، فهو الفوضى، قبل ظهور مفهوم الفوضى الخلاقة. لعل العقيد معمر القذافي كان الأكثر غضبا من بين قادة الدول العربية والإسلامية، الذين شاركوا في أول قمة إسلامية استضافتها الرباط، حين طلب إليه أن ينزع سلاحه، لأن حمل السلاح لا يليق في حضرة الرؤساء. ومثله، أبدى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين انزعاجه حين التفت إلى جانبه، وهو يحضر قمة فاس العربية لعام 1982، فلم يعثر على حراسه المدججين بالأسلحة. والقصة أن الحراس المغاربة استدرجوا نظراءهم العراقيين كي تحط طائرتهم في مطار الرباطسلا، فيما كانت الطائرة التي تقل الرئيس العراقي قد توقفت في فاس. وساعد غياب أولئك الحراس على تأمين مصافحة تاريخية بين صدام وحافظ الأسد، على الرغم مما كان يكنه له. كان على حراسه الشخصيين، الذين أقلتهم طائرة عسكرية على متنها ترسانة أسلحة وسيارة مصفحة، أن يهبطوا في مطار الرباط، لذلك فقد خلا مشهد تاريخي تصافح فيه صدام والرئيس حافظ الأسد من أي تدافع، بل إن صور المصافحة سلمت إلى المرافقين دون حاجة إلى التسابق على التقاطها. وكنت قد حضرت مأدبة عشاء في القصر الجمهوري في بغداد، بدعوة من الرئيس العراقي، ضمن وفد الحوار العربي الأوربي، فرض فيه على كل الضيوف أن يغسلوا أيديهم بمادة لزجة، خاصة قبل مصافحة صدام حسين. وأدركت وقتها لماذا يتمنطق بعض الرؤساء العرب بمسدسات، ليست للزينة على أي حال، لكن مشهد الرؤساء العرب وهم يعتلون شاحنة فرش سطحها بالسجاد المغربي الأصيل وتناثرت حولهم الورود، كان غاية في الإخراج الذي لا تضاهيه سوى الأعمال السينمائية الكبرى. وحين كانت الشاحنة تقطع بعض شوارع المنتجع الشتوي في يفرن بجبال الأطلس، على إيقاع الزغاريد والأهازيج الفلكلورية، بدا أن الرسالة من وراء إلغاء حمل الأسلحة تشي برغبة ما في الانتقال إلى عبور طريق السلام. ولأن العقيد القذافي لا يهتم بغير نفسه، وهو يشرئب بعنقه إلى فوق، فقد أصبح يختار حراسه المرافقين من بين النساء. وقد وجد الملك الحسن الثاني، يوما، نفسه وسط الازدحام، وهو يترجل من باخرة كانت قد أقلته من طنجة إلى طرابلس، وأذكر أننا، معشر الصحافيين المغاربة الذين كنا نتابع تلك الرحلة، لم نجد بدا أن نضرب طوقا حول الملك الذي كان يشق الجموع بصعوبة، وليس على غرار الطقوس الاعتيادية في استقبال الضيوف. ومن طرابلس إلى وهران، سأل الحسن الثاني يوما عن أوضاع الصحافيين المغاربة، فقيل له إنهم يموتون جوعا، فما كان منه إلا أن أمر بإحضار كميات وافرة من الزيتون الأسود والتمر والخليع، حملت على متن طائرة كانت تجلب الصحف والمراسلات والوثائق الخاصة. لازلت أذكر أننا كنا نقيم في منتزه «الأندلسيات» الذي استوى في منطقة جبلية خلابة، لكنه كان عبارة عن مركب سياحي مهترئ يخلو من كل علامات الإقامة في فندق واطئ من الدرجة الثانية. وقتذاك، ألح الصديق المرحوم بنعيسى الفاسي على دعوة أحد المصورين لالتقاط صورة له وهو يحمل سماعة هاتف غير موصولة، انقطعت عنها الحرارة منذ عقود، فقد حول السماعة إلى منفضة سجائر لإثبات أن الصحافة مهنة متاعب حقا، وهي كذلك، فقد حدث في جلسة صحافيين مغاربة، كنا نزور بغداد، أن صدح أحدنا منتقدا ذلك الإطناب في جعل صور الرئيس صدام حسين تلاحق الجميع، من غرفة الفندق إلى المطعم الشعبي الذي يقدم السمك «المسكوف» على ضفة دجلة. كان جزاؤنا أننا أمرنا بمغادرة بغداد إلى الدارالبيضاء في اليوم الموالي. وبعد عناء دام ساعات طوالا، وجدنا أنفسنا في بلغراد بلا حقائب، ومنها انتقلنا، على متن رحلة داخلية، إلى منطقة نائية على متن رحلة للخطوط الداخلية. هذه ليست طريق الدارالبيضاء، فلا بأس، إذن، من الإقامة بعض الوقت في قرية صغيرة. والأكيد أن حظنا لم يكن سيئا، إذ تعرض الوقائع لما يمكن أن يتعرض له من ينتقد السيد الرئيس، ولو على سبيل المزاح. ولعل مرافقيه فضلوا أن يطوحوا بنا بعيدا، بلد أن يضعوا أيديهم على الزناد.