شكل حادث تفريق مظاهرة في الدارالبيضاء، نظمتها جماعة العدل والإحسان وكذا اليسار الاشتراكي الموحد أمام مقر هذا الأخير بالمدينة، وحوادث مدينة خريبكة، التي شهدت أعمال شغب وفوضى ونهب للممتلكات، مناسبة لعودة الحديث عن جماعة العدل والإحسان وتجدد المواجهة مع الدولة، في وقت أطلقت هذه الأخيرة مبادرة للإصلاح من خلال خطاب الملك ليوم 9 مارس الجاري وتكوين لجنة خاصة للتشاور حول الدستور الجديد. وقد حملت السلطات المغربية مسؤولية ما حصل بمدينة خريبكة من تخريب إلى الجماعة، بينما سارعت هذه الأخيرة من خلال بيان لها إلى نفي صلتها بتلك الأحداث، وحملت المسؤولية بدورها إلى التدخل الأمني العنيف. لعبة شد الحبل هذه بين الجماعة وبين الدولة ليست جديدة، إذ طيلة أزيد من ثلاثة عقود منذ نشأة الجماعة في السبعينيات من القرن الماضي ظلت ثقافة المواجهة هي المسيطرة على العلاقة بين الطرفين بالرغم من أنه خلال هذه المدة الطويلة حصل نوع من التحول على مستوى الدولة في التعاطي مع الجماعة، بينما نجحت هذه الأخيرة في الاقتراب أكثر من الممارسة السياسية المباشرة، من خلال مجموعة من المحطات أكسبتها نوعا من النضج أو من القدرة على التعامل مع الدولة وغيرت من ممارساتها ولو دون أن تدخل تغييرات على أدبياتها التقليدية، التي وضعتها في ظرفية وطنية ودولية وإقليمية مختلفة عن الوقت الراهن. وقد انتقلت الدولة في تعاملها مع الجماعة من المنع الكلي إلى التغاضي الجزئي، تاركة لها مساحات محددة للعمل مع الإبقاء على الخطوط الحمراء التي يتفهمها الطرفان، ومن بينها لجوء الجماعة إلى نهج استراتيجية الحشد أو التجييش كنوع من المغالبة، مثلما حصل قبل سنوات مع المخيمات التي كانت تقيمها الجماعة، ثم بعد ذلك مع «الأبواب المفتوحة». وفي المقابل أخضعت الجماعة خطابها السياسي لقليل من التلطيف، وبدل أن تستمر في التأكيد على بعض الشعارات التقليدية مثل «الدولة الجبرية» أو«القومة» تحولت إلى الانضباط أكثر للقوانين الجاري بها العمل، ومناكفة الدولة من داخل هذه القوانين نفسها متكئة على الخلل في تطبيق القانون. كما بدأت تقترب أكثر من الحراك المدني في المغرب من خلال المشاركة في المسيرات والوقفات الاحتجاجية جنبا إلى جنب مع القوى والهيئات السياسية والمدنية الأخرى، وهذا أكسبها أمرين أساسيين: الخروج من العزلة تجاه النسيج السياسي والمدني المغربي بعدما كانت ترفض في السابق الانخراط ضمن فاعلياته، واكتساب مهارات العمل السياسي والمدافعة المدنية بعدما كانت جماعة مغلقة لديها خطاب رافض يتمثل في معادلة: إما نحن أو الآخرون، وفق نفس المنطق الذي حكم الرسالة التي كان الشيخ عبد السلام ياسين قد وجهها في منتصف السبعينيات إلى الملك الراحل الحسن الثاني «الإسلام أو الطوفان»، والتي كان محتواها الضمني في ذلك الوقت -أخذا بالاعتبار المناخ السياسي الذي كان يسيطر عليه اليسار آنذاك- هو «إما نحن أو الطوفان». وتعتبر جماعة العدل والإحسان من أطول الحركات الإسلامية في المغرب والعالم العربي عمرا، ولذلك فإن أي قراءة لخطابها الدعوي والسياسي خارج التحولات السياسية التي مرت منها سوف تؤدي بالضرورة إلى الخطأ. عندما ولدت الجماعة في السبعينيات من القرن الماضي نشأت وفي يدها هدف تريد أن تصل إليه، وهو تحقيق القومة في المغرب. وشكل هذا الهدف جوهر الأدبيات التي خطها قلم عبد السلام ياسين في كتابه المرجعي «المنهاج النبوي» وفي كتبه اللاحقة. وطيلة الزمن الذي مر حتى اليوم بقيت أدبيات الجماعة غير خاضعة لأي مراجعة، في الوقت الذي شهدت أساليب عملها تطورا ملحوظا. وعندما وضعت الجماعة ذلك الهدف كانت تقرأ المرحلة التي نشأت فيها، وهي المرحلة التي كان شعار الثورة فيها هو المسيطر على المنظمات والأحزاب اليسارية في المغرب والعالم العربي، لأن المناخ السياسي داخل البلاد -لدى الحركات اليسارية- كان معبأ بمفهوم الثورة الاشتراكية التي ستأتي بوسائل الإنتاج إلى العمال بدل أن يذهبوا هم إليها، ولذلك كان على الجماعة أن تمنح لذلك المفهوم ثوبا دينيا، وهو ما يفسر أن الشيخ ياسين بذل جهدا كبيرا في «المنهاج النبوي» لكي يشرح لأتباعه أن القومة ثورة، لكنها ليست كالثورة، وكان ذلك طبيعيا لأن المفهوم في تلك المرحلة كان يحمل مضمونا واحدا في الأذهان وهو مضمون الثورة الروسية. وكما أن اليسار في المغرب كان يرى أن نظام الحسن الثاني آيل للسقوط لا محالة، وهو يرى حواليه الأنظمة تتساقط تحت الانقلابات العسكرية(آنذاك كانت تلك الانقلابات تعتبر ثورات في العالم العربي)، رأت الجماعة هي الأخرى أن نفس النظام يسير نحو نهايته الحتمية، وهو ما يفسر الأسلوب التفاؤلي الذي كتب به كتاب المنهاج في ذلك الوقت، لذلك اعتقدت الجماعة أن عليها أن تمد يدها هي الأولى قبل أن يسقط النظام في يد اليسار، ويؤول المغرب إلى نظام شيوعي ملحد تابع لروسيا. لكن في نهاية السبعينيات تغيرت الظروف وأصبحنا أمام معطى جديد وهو الثورة الإيرانية. وقد قلبت تلك الثورة المعادلة السيكولوجية في العالم العربي والمغرب لصالح الجماعات الإسلامية، لأن انهيار نظام إمبراطوري كبير كنظام الشاه كان يعني أن أنظمة أخرى أقل سطوة يمكن أن تسقط وربما بكلفة أقل، وشكلت تلك التجربة مصدر إلهام لعبد السلام ياسين، الذي ألف كتابا بالفرنسية عنوانه «الثورة بتوقيت الإسلام» كانت الغاية منه الحوار مع العلمانيين والفرانكوفونيين في المغرب للالتحاق بصفوف الثورة قبل أن يفوتهم القطار، لأن الثورة الإيرانية لم تعد تمهل أحدا. غير أن التحولات السياسية في المغرب التي جاءت فيما بعد دفعت الجماعة إلى أن تكون أكثر واقعية، فالنظام لم يسقط، والعلمانيون أكثر نفوذا مما كان يتم تصوره، والثورة الإيرانية لم تنجح سوى في إيران بسبب القوة الشيعية الممؤسسة، ولم تطرح الجماعة أي سؤال على نفسها حول أسباب نجاح حركة الخميني في إيران وفشل حركة حسن البنا في مصر، لأن السياسة غلبت التحليل الاجتماعي والثقافي للواقعين الشيعي والسني. وبالرغم من أن هذه التحولات السياسية في المغرب بدا أنها في أحيان كثيرة تتجاوز حتى خطاب الجماعة نفسه، وتقلص من منسوب مشروعيته، فإن الجماعة ظلت تعتبر أن خطابها الأصلي، الذي يشكل هويتها، مازال قائما، فهي الجماعة الوحيدة في المغرب حتى الآن التي لم تقم بأي مراجعة لفكرها في ضوء التحولات الواقعية الجديدة طيلة المدة التي تلت ميلادها، وهي لكي تستمر في إبقاء مشروعيتها نجحت في تطوير استراتيجية جديدة تقوم على سياسة التشكيك في كل شيء، أي أنها تعتبر كل ما تنجزه الدولة مجرد مشاريع مخزنية للالتفاف على الأهداف الحقيقية، لكنها في نفس الوقت تطور ممارسة سياسية سلمية ذكية لتأكيد الحضور، والسؤال الذي يظل معلقا هو: في حال تقدم هذه الممارسة أكثر فأكثر نحو الدولة، ماذا سيكون مصير أدبياتها الكلاسيكية التي ظلت جامدة بدون تغيير، أم أن الجماعة تلعب في التكتيك فقط؟.