كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. إن السيطرة الإيديولوجية التي تفرضها الولاياتالمتحدةالأمريكية، والمدعومة من سيطرتها العسكرية، قد نمت الآن بوضوح صار معه بعض مَن كانوا في السابق يوجهون بعض النقد لكيفية استعمال هاته القوة يكتفون بالقرقرة اللطيفة والمديح المبتذل. لقد أصبحت تستقى تعميماتٌ سطحية من حوادث عابرة أو تافهة، وتنازل العديد من كبار الصحفيين الأمريكيين ومن الصحفيين الأوروبيين المساعدين عن الملاحظة الموضوعية والتفكير المستقل لصالح وطنية إمبريالية زائدة. ويوجد «العارفون» الأمريكيون في بحث دائم عما يدل على أن الأشياء في الخارج أسوأ مما هي عليه داخل الوطن، وبينما ينقلون الأخبار من مراكز متقدمة بالإمبراطورية (لندن، سراييفو، الرياض، القاهرة، لاهور، سيول، طوكيو) يحنون بصوت واحد إلى الواقع المألوف الأمريكي الذي تركوه وراءهم. أما غور ڨيدالْ وسوزان صونطاغ ونعوم تشومسكي وغيرهم من الأمريكيين الذين يتشبثون باستقلاليتهم عن النزعة الشوفينية ويرفضون الامتثال عبر التنبيه إلى جملة من الحقائق الناقصة والرهيبة في الإمبراطورية فإنهم يتعرضون للإدانة من طرف الوطنيين فوق العادة. في هذا الجو الإيديولوجي، يتم التعامل مع أي انتقاد للسياسة الخارجية الأمريكية على أنه «معاداة لكل ما هو أمريكي» أو، حسب اصطلاح أحدث، «استغراب». يستعمَل كِلا المصطلحين للإشارة إلى الكراهية العمياء إزاء الأمريكيّين وجميع الجوانب الدنيوية من الحياة والسياسة والثقافة الأمريكية. هاته، من دون شك، هي النظرة التي يتبناها كثير من الأصوليين الدينيين، بصرف النظر عن الديانة التي يؤمنون بها. وإلا، فبماذا نفسر ردود الفعل الأولى للإنجيليين الأصوليين المبشرين عبر التلفزة، الذين رأوا في هجومات 11 شتنبر 2001م «عقاباً من الله» على ذنب التسامح مع الشذوذ الجنسي والإجهاض، إلخ؟ وإلا، فكيف نفسر الارتباك الذي أصاب الواعظ المعتدل نسبياً بيلي غراهام؟ كان هذا القسيس جنْبَ الرئيس جورج بوش (الإبن) في حفل التأبين المقام في نيويورك على شرف الضحايا عندما أخبر جمع النجوم العاديين وفوق العاديين الحاضرين بأنه تلقى طوفاناً من الرسائل والاستفسارات منذ وقوع الأحداث. أراد الناس أن يعرفوا من خلاله «لماذا سمح الله بأن تُضرَب أمريكا». جوابُ غراهام كان مباشراً. اعترف بحيرته، وقال لرعيته إنه لا يملك جواباً على سؤالهم. يخص الأصوليون الدينيون الولاياتالمتحدةالأمريكية بعناية خاصة لا لشيء وإنما بسبب سلطتها المُهيمِنة. ويطبقون نفس المعايير الصارمة على المجتمعات الأخرى. أما بالنسبة للإسلاميين، فلا أحد من حكام الدول الإسلامية اليوم يُعتبر مسلماً «حقيقياً». لا أحد. لهذا لزم النضال لتغيير الأنظمة القائمة واستبدالها بإمارات مقدَّسة. بعض اليهود الأورثودوكسيين يعتبرون وجود إسرائيل في حد ذاته عاراً. وآخرون، ممن ينتمون إلى حركة المستوطنين اليهود، يزعمون أن الكتاب المقدس يزكّي أفعالهم، ويشحنهم الاعتقاد السماوي بأن استصلاح الأراضي سيُعجّل بمجيء المسيح. كما أن الإحيائيين الهندوس مستاءون جداً من الوزير الأول بدعوى أنه يتعامل بليونة بالغة مع مسلمي الهند الذين يبلغ عددهم 130 مليون نسمة، ولا يسمح، كما نصت على ذلك تعاليم «الهندوسية»، بتحقق انتصار كامل للثقافة الهندوسية ضد «الأجانب» عبْر هدم جميع المساجد القديمة في الهند وبناء معابد هندوسية على أنقاضها. وطوائف «المسيحيين الجدد» في الولاياتالمتحدة غير قنوعة بمجرد وجود تابع لها في البيت الأبيض. فهؤلاء يتحسرون على القوانين الفاسدة والمعادية للمسيحية التي تدنِّس الولاياتالمتحدة. بل إن البعض منهم يزكون قَنبَلة مِصحات الإجهاض وقتل الأطباء العاملين بها. ولكن رهبان الإمبراطورية العلمانيين لا يَعنون التطرف الدّيني وحده حينما يندّدون ب«المناهضين لأمريكا» و«المستغربين» (عكس المستشرقين). إنهم يقصدون أولئك النقاد الليبراليين واليساريين الذين لا يعني لديهم انهيار الاتحاد السوفياتي الانحناء إجلالا لقيصر البيت الأبيض. بالنسبة ل«المولعين بأمريكا»، كل انتقاد للإمبراطورية يعدّ غير ذي جدوى إذا لم يتم في إطار من الولاء لها. تستحوذ هاته الفكرة على قلوبهم وتؤثر على كل أنشطتهم في الحياة العامة. ويرون أنفسهم في صورة مستشارين أوفياء وبدون أطماع شخصية للسياسيين الموجودين في السلطة: لو أنهم عملوا فعلا بهذه النصيحة المجانية لكان كل شيء في العالم على أحسن ما يُرام. التراضي التاريخي مع الاستقامة الشخصية الذي يقتضيه هذا الشكل من «الولع بأمريكا» يُحول المنتقد الودود إلى عبدٍ للسلطة، يحاول دائماً إرضاءها. يصير مدافعاً باللسان أو بالقلم وينتظر من الإمبراطورية الأداء بحسب بلاغَتها. للأسف، الإمبراطورية، التي تحركها اليوم أغراض اقتصادية ذاتية، قد تخيب أحياناً آمال المنضمين حديثاً لمناصرتها. يشعرون بالخيانة، لكنهم لا يقبلون بأن ما تمت خيانته هي أحلامهم. وما لا يروقهم إطلاقا هو أن يذكرهم أحد برائحة التاريخ المُرة. ومن بين العلل المقدَّمة تلك القائلة إنَّ على المرء أن يناصر الولاياتالمتحدة لأنها «اللعبة الوحيدة المتوفرة» ولأنها متنورة أكثر من تلك التي تسعى (هي) لتدميرها. هذا الاستعراض لداء النسيان التاريخي يرفض استحضار زمن ولادة الإمبريالية الأمريكية، فترة الحمل واللصوصية المبكرة، التي سبقت بكثير التغيير الذي أحدثته الثورة الروسية في العلاقات الدولية بعد 1917م. لقد تشابك تاريخ الهجرات والغزوات بشكل مكثف عبر آلاف السنين. ومعظم العالم الحديث هو نتاج للهجرة والإمبريالية. خلال قرنين ونصف من الزمن، ظلت الولاياتالمتحدة كما هي اليوم عالماً مكتفياً بذاته، يتلقى الرعاية من المتبقين من الحضارة الأوروبية والدعم من مجموعة من المهاجرين المتحمسين للغاية. الأصوليون الدينيون في المرحلة الأولى، واللاجئون السياسيون الفارّون من الاضطهاد في المرحلة الثانية، ولاحقاً أولئك الذين كان حافزهم الوحيد هو الذهب. كان خليطاً قوياً، غير أن غنى إمكانياته لم يكن ليصير مربحاً سوى عبر مزيج من الإمبريالية الداخلية (إبادة الأقوام الأصلية) والاتجار المسلح على السواحل الأفريقية (الرق). كانت الإبادة هي الوسيلة المفضلة لدى الوافدين الجدد المتقدمين تكنولوجياً لفرض تفوقهم على الأهالي الأصليين. هذا أمر لا غبار عليه بالرغم من أن بعض المؤرخين الليبراليين والأخصائيين في مجال التربية، إلى حدود القرن الميلادي العشرين، غالباً ما نفوا هذه الحقيقة، مفضِلين الاعتقاد بأن أسلافهم وفدوا إلى «أراضي عذراء». في أكتوبر 1948م، أخبر جيمس برايانت كونانتْ، رئيس جامعة هارفارد الأمريكية، «منتدى هيرالدْ تريبيون بنيويورك» بأنه «في المقام الأول، هذه الأمة، بخلاف جلّ الأمم، لم تتطور انطلاقاً من دولة تأسست على غزو عسكري. لهذا لا توجد في تقاليدنا إطلاقاً فكرة أرستقراطية منحدرة من الغازين وتمنح حق الحكم بموجب النسب. على العكس من ذلك، نحن طورنا عظمتنا في فترة اكتسح فيها مجتمع مَرن قارة غنية وخالية...»