كثيرة هي الأقلام التي حاولت أن ترسم معالم وحدود الفضاء العمومي، فمذ أن أخرجه كانط إلى حيز التداول، توالت الأبحاث والتعريفات لمعالجة هذا المفهوم، باعتباره إطارا تمثيليا لعلائق تظهر في مجتمع ما وتحوله إلى فضاء تواصلي يعج بألوان من التفاعلات وتبادل الرموز والدلالات والأفكار،و الخبرات المادية أيضا. ففيه يعي الإنسان ذاته ويطورها، إنه بمثابة المرآة التي ترينا وجوهنا وما يحيط بنا. وحيث يكون هذا الفضاء مضمارا توسطيا بين الجهاز الحاكم (الدولة بمختلف آلياتها وأجهزتها)، وباقي أفراد المجتمع بمختلف تنوعاته وشرائحه. وحيث يكون الزمان والمكان سمتين تميزان هذا الفضاء، إذ يحتل فيه الإنسان مركزه الفاعل والمنفعل، وينخرط بمعية الآخر في تأسيس المعالم الكبرى لحركية هذا الفضاء، ويؤسس مستوياته الأساسية. وطبيعي أن الإنسان يمتاز بخصيصة الكائن المفكر، الذي بمكنته أن يقرب المسافات بينه وبين المحيط، من خلال تسميته الأشياء من حوله، وبالتالي يمنحها مشروعية الحضور أولا ويعطيها خصوصية المشاركة الفاعلة داخل الحراك الاجتماعي ثانيا، وبهذا يتسم بكونه كائنا اجتماعيا، يشارك الآخر في معطيات الزمان والمكان. والناظر للفضاء العمومي المغربي، يقف على العديد من المعطيات والخصائص التي تؤثث هذا الفضاء، وتغلفه بسمات تحبل بالعديد من التيمات الكبرى، فيها الاختلاف والتشابه والتناقض، وبالتالي يحوله بابا مفتوحا على العديد من القراءات والمقاربات. ففي هذا الفضاء يظهر أيضا ذلك الصراع والتدافع بين العديد من الأفكار والتمثلات، من قبيل التقليد والحداثة، المحافظة والتجديد، حيث المجال يكون أهلا لاقتراض العديد من القيم والمفاهيم التي يتداولها الآخر من ناحية، وإعادة تفعيل وتجسيد العديد من التمثلات السابقة وإعطائها مفعولا جديدا يحاول أن يضاهي المفاهيم المستوردة من جهة أخرى. ذلك أن الانفتاح التقني- الاتصالي، حتم علينا أن ننخرط بشكل أو بآخر في هذا الفضاء من الحزم المعلوماتية التي تخاطب كل حواسنا، مما يجعل العديد من المفاهيم تدخل فضاءنا، وأخرى تنقرض أو تترك المكان لأخرى، وهذا ما أضفى على ثقافتنا حمولات ودلالات جديدة. كل ذلك يجعل الطريق معبدا لفتح نقاش حاد يبلغ درجة مئوية عالية، قد يتحول التبادل الرمزي للأفكار إلى مرحلة من تبادل صكوك الاتهامات، وقس على ذلك النقاش الذي خلفه تعديل مدونة الأسرة. و على اعتبار أن هذا الفضاء بمثابة حقل توسطي بين أصحاب الحل والعقد، (الدولة)، وبين مختلف فعاليات المجتمع، فإن ذاك لا يمنع من وجود تصادمات، فعندما تصل درجة الفقر مراحل لا تحتمل، وعندما تبلغ الأسعار درجتها القصوى، فإن ذلك يدفع إلى تبني لغة الاحتجاجات السلمية (الوقفات الاحتجاجية التي قامت بها هيأت المجتمع المدني جراء ارتفاع الأسعار)، والتي قد تأخذ وجهة أخرى أحداث صفرو الأخيرة نموذجا . كل هذه الأشكال والأنماط، والتي يشكل فيها تبادل الثروات والمعارف المجردة والمادية، وحيث يكون الثراء الفكري القائم على الحوار والتفاوض، حاسما في إثراء العديد من القضايا، تجعل الوعي ينفتح على أنماط ثقافية يشكل التثاقف أهم نماذجها، مما يمكن الأفراد والجماعات من معانقة الصناعات الثقافية لمختلف دول المعمور. ومقارنة مع العديد من الدول المتقدمة، يلاحظ أن الفضاء العمومي المغربي مازال يعيش طور الانتقال الديمقراطي، إذ تخضع فيه البنيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية...لتحولات تتفاوت درجة عمقها مما يجعل المجال مفتوحا للعديد من الأسئلة الإشكالية، التي تحتاج إلى قراءة الذات الفاعلة، قراءة متأنية ومتبصرة ومتفطنة لعواقب أي تحول يغلب فيه منطق السرعة والارتجالية. وخصوصا عندما يتم تقديم إجابات انتهت مدة صلاحيتها، إجابات تنظر إلى المتغير نظرة تقليدية وسكونية. وهنا تطرح ضرورة قراءة الذات، واستبصار مدى قدرتها على مواكبة التحولات العميقة للمجتمع المغربي وفق استراتيجيات محددة يغلب عليها الطابع العقلاني، والمنفتح على آليات التجديد، وتكون فيها الغلبة للتنظيم والحكامة الفاعلة. وعلى هذا الأساس،فإن أية مقاربة تُغيب المعطيات السوسيوثقافية، ستبقى سجينة النظرة التقشفية، التي تنظر إلى الأمور نظرة أحادية، دون النظر إلى الإشكاليات المطروحة بعين ناقدة. وهنا ينبغي إبعاد كل أنانية في التفكير لأنها تعيق تمثل وإدراك العديد من الأسئلة المطروحة في إطار موضوعي شمولي. فهل الفضاء العمومي المغربي، يسمح بتعددية الآراء، واختلافها حتى لو كانت ضدنا. وهل هذا الفضاء يسعى نحو إلغاء كل أشكال «الاستعباد الاقتصادي» الذي يحتم على العديد من الأشخاص العيش خارج التغطية الضرورية لخدمات هذا الفضاء خصوصا إذا علمنا أن نسبة الفقر والتهميش ارتفعت، وبالتالي اتسعت رقعة المظاهر التي أصبحت تغزو العديد من أحياء مدننا. زد على ذلك أن دائرة الإقصاء تشمل حتى الفئة التي بلغت مراحل متقدمة في التحصيل العلمي، وأخص بالذكر الأطر العليا المعطلة، وهذا ما يجعل الدولة تخسر فئة فيها من الحيوية والكفاءة والإرادة ما يكفي للإسهام في التنمية الوطنية، والمساهمة في صنع القرار. وعوضا عن ذلك تتركها للضياع والضرب والمعاناة والتشرد. كما أن بعض ما يَسم هذا الفضاء هو العجز الحاصل في تبني سياسة التنظيم والمنهجية الديمقراطية خصوصا في القوانين المنظمة للأقطاب السياسية، إذ تفتقر إلى آليات إجرائية تجعل الحزب إطارا مساهما في الخلق والإبداع، بدلا من ممارسة سياسة الإقصاء والمؤامرة مما يجعل هذه الأحزاب عرضة للتشتت والانسحابات، وبالتالي تعجز عن خلق نخب جديدة وأطر قادرة على حمل المشعل، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. مظهر آخر يؤثث هذا الفضاء، ذلك المتعلق بإلقاء المسؤوليات في كل ما حصل ويحصل من مشاكل على الآخرين، والتهرب من تحمل المسؤولية، فإلقاء اللوم على من سبقنا يعني عمليا تهربنا من تحمل المسؤولية والتبعات والنتائج وهذا ما يكرس ثقافة التملص. من خلال ما تقدم نخلص إلى أن الفضاء العمومي المغربي يحفل بالعديد من المظاهر والأشكال المتعددة التي فيها من التناقض ما يكفي، كما أنها تعج بالمتشابهات والمختلفات، لكن هذا لا يمنع من أننا بدأنا ندخل مرحلة جديدة سمتها النضج في طرح الإشكاليات . لكن السؤال الذي يبقى عالقا لحد الآن هو هل بإمكاننا أن ندخل سكة الديمقراطية التداولية، حيث قراءة الذات وما يحيط بها ضرورة ملحة، لكي نتجاوز معضلة الذاتوية في مقاربتنا؟ وذلك فاتحة لقراءة جديدة.