تفيد إحدى «النكات» المنقولة عن مقربين من الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي بأنه كان مرة يصطاد الطيور رفقة الرئيسين الفرنسي والأمريكي، وأن كلا منهما أصاب طريدته بخلاف بن علي الذي أخطأ الهدف، ومن ثم التفت ليرى رد فعل المحيطين به، فإذا بأحد المنافقين يقول: «شكرا سيدي لعفوك عن هذا الطائر المسكين، فقد علمتَ، بقوةِ فراستِك، بأنه أنثى ترعى صغارها، وأبى حِسُّك البيئي الرفيعُ أن تقتلها». وبعيدا عن روح الدعابة، فقد بادر مقربون من قصر قرطاج إلى تأليف كتب عن الرئيس بن علي، ذكروا فيها أوصافه «الأفلاطونية» و«الخلدونية» و«الكانطية»، مما يذكر بالمنهج الستاليني في عبادة الشخصية. بيد أن هذه الأوصاف لم تزد بن علي مناعة في «وقت الحشرة»، بل كانت من بين الأسلحة التي استخدمت لتهشيم صورته. ومع ذلك، لم يكن النظام التونسي معرضا للسقوط أكثر من غيره في العالم العربي، فقد كان مضمونا تماما من الدول الغربية ومحميا من انتقادات وسائل إعلامها «لأنه يشكل جدارا عازلا للأصوليين»، ولأنه حوّل بلاده إلى منتجع جذاب لغربيين يبحثون عن تمضية عطل نهاية الأسبوع، وتمكن من جذب العديد من الشركات العالمية للعمل في بلاده بشروط ميسرة، وأدت سياسته الاقتصادية إلى خلق طبقة وسطى مهمة وإلى انتشار واسع للتعليم وإلى مكاسب مهمة للمرأة، فضلا عن شراكته الواسعة في الحملة الدولية لمكافحة ما يسمى بالإرهاب... إلخ. وتفيد ردود الفعل الإسرائيلية، الممتعضة لسقوط بن علي، بأنه كان من بين أفضل الأنظمة العربية تعاونا مع الصهاينة خلف الستار، وهذا ما تعكسه أيضا الأصوات اليهودية (ذات الخلفية الصهيونية) المحبطة داخل وخارج تونس، ناهيك عن ردود الفعل السلبية غير المسبوقة التي صدرت في فرنسا والتي توحي وكأن سقوط بن علي هوضربة موجهة إلى محافظ «فرنسي» خلف البحار. والراجح أن سياسة الحماية الغربية المطلقة للرئيس التونسي السابق، وبالتالي حجب الانتهاكات التي كانت تحدث في بلاده عن الأضواء، لم تساهم في تدعيم أركان حكمه بل ربما ألحقت ضررا فادحا به لم يتمكن من الوقوف على حجمه إلا بعد فوات الأوان. وهنا نشير إلى واحد من الأمثلة السيئة التي ساهمت، إلى حد كبير، في تعاظم الاحتقان الداخلي في هذا البلد الذي ارتكبت فيه العائلة الحاكمة انتهاكات مروعة من ضمنها قضية ثانوية «باستور» المعروفة باستقبال أبناء البرجوازية التونسية والتي يديرها، منذ أكثر من أربعين عاما، الزوجان بوعبداللي. وتفيد مرويات هذه القضية بأنه في عام 2007، رسبت في امتحان الثانوية ابنة محام، هو وكيل السيدة ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس بن علي، فاستدعي السيد محمد بوعبداللي إلى وزارة التربية وطلب منه تسجيل الفتاة تحت طائلة إغلاق الثانوية، بيد أن الرجل المحترم في تونس بأسرها رفض الرضوخ لهذا الابتزاز، فما كان من زوجة الرئيس إلا أن أقفلت الثانوية وافتتحت هي نفسها ثانوية خاصة باسم ثانوية قرطاج. حاول السيد بوعبداللي الدفاع عن نفسه واتصل بالسفارة الفرنسية، لكن أحدا لم يصغ إليه وأسدل الستار على ثانويته. ما من شك في أن هذا النوع من الاستبداد، الذي يذكر ب«العهد المملوكي» في عصر مختلف وظروف مختلفة وثقافة مختلفة، كان موضع تداول يومي في الشارع التونسي. وبما أنه كان يشمل الطبقة البرجوازية، كما في مثال ثانوية «باستور»، والطبقة الوسطى، في أمثلة أخرى، والفئات الدنيا من المجتمع، كما في حال البوعزيزي، وبما أن النظام قد خلف خلال الأعوام العشرين الماضية كما هائلا من الضحايا المعارضين من كل التيارات السياسية، فقد استطاع هؤلاء مع أوساطهم في الداخل أن يراكموا الاحتقان والتعبئة الصامتة ضد النظام إلى أن طرأت الأزمة الاقتصادية العالمية التي أدت إلى تحطيم الواجهة الاقتصادية التونسية البلورية وكشفت، في زمن قصير، عن حالة الاختناق الاقتصادي التي تعاني منها تونس معطوفة على اختناق في مجال الحريات لشعب يضم من الجامعيين أكثر من المغرب والجزائر وموريتانيا معا، ناهيك عن انخفاض أسعار الفوسفات (تونس هي ثاني أكبر مصدر لهذه المادة)، كل ذلك تم في وقت انعدمت فيه أدوار النظام العربية وطردت منه السيدة سهى ياسر عرفات وانتزعت منها الجنسية التونسية.. في هذا الوقت، حرق البوعزيزي نفسه، فكان بمثابة الصاعق الذي أطاح خلال أسابيع بنظام كان جميع حماته يعتقدون أنه باق إلى أجل غير مسمى. كان الرئيس السابق الحبيب بورقيبة يروج في سيرته الذاتية أساطير تقليدية تقول إحداها بالعامية التونسية: «يخرج من المونستير (مسقط رأسه) دنفير الناس فيه تحير»، وكان الشعب يتفاعل مع هذا النوع من الأقوال المرتبطة بصورة «المجاهد الأكبر» الذي كان يتمتع بشرعية تاريخية ناجمة عن كونه بطل الاستقلال التونسي. وعندما انقلب بن علي على بورقيبة، وعد مواطنيه بما كانوا يفتقرون إليه في العهد السابق، أي الديمقراطية والبحبوحة الاقتصادية، فكان أن أهمل شرعية انقلابه واستمد حمايته من الغرب الذي ما عاد كلي القدرة، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، وما عاد بوسعه أن يرمي طوق النجاة لحاكم يردد شعبه كل صباح: «إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر».