يمضي موسم أصيلة في برنامجه اليومي، بينما يلف الأجانب المدينة طولا وعرضا، حاملين معهم آلات تصويرهم الرقمية، ومنبهرين بالإغراء الذي يمنحه الجير للعين. الجير الأبيض يجرح العين، أو أنه يذكرها بشيء ما، لنقل إنه أخروي أو قريب من هذا المعنى، لذلك يخلق في النفس تلك الرجة العنيفة، التي تشير إلى أن كل شيء مجرد بياض على بياض في النهاية... بياض بكر غير مسطور. المدينة البحرية حين تستعير من البحر لونه الأزرق، وتوشيه ببياض جيرها الداهم، إنما تخلق فيه ذلك الاستفزاز الدائم على القدرة على التحول، والانبعاث، وعلى تحد ما، للأصوات القديمة المنبعثة لقراصنة غرقى في قيعان المياه. أتصور أن المدن البحرية مسورة ليس بالماء فقط بل بالأسرار، لذلك فإنها تهب المعنى أكثر من غيرها، فالمدن ليست مجرد كتل من اسمنت ولا أبوابا ولا ناسا، بل هي أصوات الماضي والحاضر في ممكن الوجود. في حالة أصيلة يبدو الأمر مشابها، تتحول المدينة شيئا فشيئا إلى كائن آخر مختلف. ابن المدينة الأصلي يجرب مدينته وهي آهلة بالبشر، يتحسس جلدها القديم، فيلمس في مسامها تلك الحرارة التي صارت، الشباب الذي أينع فجأة. وهكذا تصبح المدن مثل النساء، يجمللن أكثر، ويحلولين، كلما تم رميهن إلى مصير صاخب أو لصدفة مجهولة أو في غابة من احتمال الخطر. المدن مثل النساء، لا يمكن التكهن بمشاعرهن، وهن يحببن أكثر وبإخلاص، لكنهن ينتقمن بمرارة، لمشاعرهن بمجرد أبسط خيانة. هذه هي المدن، والويل له من غضب المدن، لأنها لا ترحم، وضربتها مثل ضربة قناص متربص. لننظر كيف أسقطت المدن شخصيات، ووجوها، وكيف رمت خارج مداراتها من خانها أو من انتهز ضعفها وقلة حيلة يدها في لحظات الأزمات، وفي الأوقات العصيبة التي تمرض فيها. حين تمرض المدن تكثر الجريمة ويظهر الدجالون في وراء البحر أو من البر العميق، ويكثر لصوص المال، والحربائيون والمدعون، وأما المنتخبون فيزدادون بياضا، وتسمن وجوههم، ويقل الشعر في أعراف رؤوسهم، ويحولون إلى بالونات منفوخة تتكور في كل طريق. وحين يظنون أنها علامة من علامات عافيتهم، تهجم عليهم الأمراض والوساوس، ويجنون أو يرمون في المارستانات إلى آخر أيامهم المخزية. المدن مثل الرجال ومثل النساء تماما، فمن يكذب في الأول يدفع الثمن مضاعفا في «الدورة». في أصيلةالمدينة مفتوحة على البحر، تحلم، تصخب وتنام. المدينة تتآلف مع نفسها، وتحضن وافديها.. هي المغرب خارج لعبة اللاعبين وبهرجة المبهرجين.