تعتبر قضية جنوب السودان من أهم المشكلات الإفريقية الموروثة عن الاستعمار الأوربي شأنها شأن أغلب المعضلات الإفريقية، ويتداخل فيها البعد الديني والإثني والسياسي بالنظر إلى الفسيفساء المثيرة لشعب السودان واختلافاته المتعددة وتنوع أعراقه ومعتقدات كل عرق ونظمه القبلية. وحتى يكون تحليلنا أكثر عمقا وذا فائدة، وجبت الإحاطة بكل هذه الأبعاد وامتداداتها وتداعياتها المفعول فيها سياسيا وإيديولوجيا. يضم جنوب السودان، تاريخيا، ثلاث مديريات هي أعالي النيل وعاصمتها ملكال، وبحر الغزال وعاصمتها واو، والمديرية الاستوائية وعاصمتها جوبا. وهو يقع جنوب خط عرض 20، ويمتد حتى الجزء الشمالي من بحيرة ألبرت في أوغندا، وتبلغ مساحته 650 ألف كلم، أي أكثر من ربع المساحة الكلية للسودان. ويبلغ عدد سكان الجنوب، حسب التقديرات الحالية، 9 ملايين نسمة، منها 34 في المائة في بحر الغزال و25 في المائة في الاستوائية و28 في المائة في أعالي النيل. وأغلب سكان بحر الغزال من قبيلة الدينكا. أما قبيلة النوير فهي أكبر قبائل أعالي النيل وشمال ملكال إلى جانب قبيلة الشلك، وتعيش في الاستوائية قبائل إفريقية أخرى، كالأشولي والمورو والمادي واللاتوكا والتابوسا والبويا وغيرها من القبائل الإفريقية التي تدين بالمسيحية الأنجيلية والوثنية. ويوجد في الجنوب السوداني أكثر من 80 لغة ولهجة تنقسم إلى 9 مجموعات رئيسية هي: الدينكا، الزاندي، النوير، اللو، اللانجو، ندجوسيري، المورو، مادي، الباريتاك. ومعظم سكان الجنوب يتفاهمون بعربي جوبا، وهي لغة عربية ركيكة، والمثقفون منهم يستخدمون الإنجليزية والعربية. وعلى المستوى الديني، يقرر الإحصاء الوارد في الكتاب السنوي للتبشير عام 1981، الصادر عن مجلس الكنائس العالمي، أن 65 في المائة من سكان الجنوب يدينون بالوثنية المحلية و18 في المائة مسيحيون و17 في المائة مسلمون، مع ملاحظة أثر الزيادات الحالية في عدد السكان، وظروف الحرب الأهلية قبل توقيع اتفاق السلام في نيفاشا، ودور البعثات التبشيرية للكنائس الغربية المتزايدة في الجنوب وأثر ذلك على هذه الأرقام. وعموما، لا يعرف عن تاريخ جنوب السودان قبل فترة محمد على باشا إلا النزر القليل، وتعرف هذه الفترة بالفترة التركية، وقد أعقبتها الفترة المهدوية. وهاتان الفترتان كان لهما أثر مباشر في نشوء البذور الأولى للقضية، إذ انتشرت خلالهما تجارة الرقيق وغارات جلب العبيد التي أدارتها جهات أجنبية واشتغل فيها العديد من السودانيين الشماليين. ولم يقف أتون هذه التجارة إلا بعد الدخول الإنجليزي إلى جنوب السودان عام 1898. وقد بدأت الإرساليات المسيحية عملها في جنوب السودان منذ عام 1848، أي خلال فترة التبعية لمحمد علي، وازداد نشاطها بعد الغزو الإنجليزي وعملت في الجنوب إرسالية كاثوليكية وأخرى بروتستانتية، ولكل منهما دائرة نفوذها. وكانت هذه الإرساليات تعمل بحرية تامة دون أي رقابة حكومية. وكان التعليم، في معظمه، في أيدي البعثات وعلى نفقتها ثم بدعم حكومي بريطاني بلغ أكثر من 90 في المائة من تكاليف التعليم ولم يخضع عملها لأي مراقبة إلا سنة 1950 لما صدر قانون المدارس غير الحكومية. وعملت تلك المدارس على إثارة النعرة القبلية بين الجنوبيين، وبينهم وبين الشماليين الذين اعتبرتهم تجار رقيق. وفي يناير سنة 1930، أصدر السكرتير الإداري البريطاني في جنوب السودان المستر هارولد ماكمايل منشورا سمي بمنشور سياسة الحكومة في جنوب السودان، استهدف إنشاء سلسلة من الوحدات القبلية أو الجنسية القائمة بذاتها، على أن يكون قوام النظام فيها مركزا على العادات المحلية والتقاليد بقدر ما تسمح به ظروف العدالة والحكم الصالح. وتسببت إجراءات هاته السياسة في الأتي : -1 إمداد الجنوبيين بموظفين لا يتكلمون العربية، من إداريين وفنيين. -2 استعمال اللغة الإنجليزية عندما يكون التفاهم باللهجات المحلية مستحيلا. -3 تشديد الرقابة على التجار الشماليين وعدم الترخيص لهم بالعمل في الجنوب، وتشجيع التجار الإغريق والشوام، وإجلاء جميع الشماليين من الجنوب. -4 إلغاء تدريس اللغة العربية في مدارس الجنوب. -5 محاربة الدعوة إلى الدين الإسلامي والتضييق على المدارس الصوفية في الجنوب. -6 إخلاء الجنوب من المسلمين الأفارقة الآخرين، كالفولان والهوسا. -7 إنشاء منطقة محرمة بين دارفور وبحر الغزال لمنع الاختلاط بين الدرفوريين المسلمين والدينكا المسيحيين والوثنيين. -8 منع الطلاب الجنوبيين من استعمال عربيي جوبا في المدارس. -9 تحريم بيع ولبس الجلابيب والتشجيع على التمسك بالعادات المحلية. وقد استهدفت هذه السياسة إزالة أي تعايش أو تفاعل بين الشمال والجنوب السودانيين، وكرست جل اهتمام الإنجليز في تكريس الفرقة وإهمال التنمية والتعليم، وكانت النتيجة الحتمية هي المزيد من التخلف وزرع بذور الكراهية لما هو قادم. وقد أقر الإنجليز أنفسُهم بعد ذلك بفشل هاته السياسة. وجاء ذلك على لسان أحد رجالاتها في السودان جيمس روبستون، حيث قال سنة 1943 الأتي: «يجب أن نعمل على أساس أن سكان جنوب السودان في الحقيقة أفارقة وزنوج خلص، ولكن العوامل الاقتصادية والجغرافية مجتمعة تجعل صلتهم بالشمال العربي، الذي يتصل بدوره بأقطار الشرق الأوسط بصلات وثيقة، أكثر حضورا. وعليه، يجب تأكيد أنه يمكن، عن طريق التقدم الثقافي والاجتماعي، إعدادهم في المستقبل ليكونوا أندادا متساوين مع الشماليين، اجتماعيا واقتصاديا، في سودان المستقبل». وقد شهدت الفترة اللاحقة لهذا الخطاب تحسنا نسبيا في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والإدارية، وانتظم العمل في مشاريع استغلال الغابات، وتحسنت طرق المواصلات، كما أدخل نظام تعليمي موحد بالمدارس، حيث عممت العربية إلى جانب الإنجليزية، وأصبح الانتقال بين شطري السودان ميسرا وازداد الوعي السياسي بالجنوب. وانعقد مؤتمر جوبا 1948 الذي تقرر فيه إرسال 13 ممثلا إلى الجنوب للاشتراك في الجمعية التشريعية في الشمال التي جرى إنشاؤها للتمهيد للخروج الإنجليزي المرتقب من السودان وإن كان قد تخلل المؤتمر خلاف حول تكوين مجلس استشاري منفصل للجنوب. واستمر الحال على ما هو عليه إلى ديسمبر سنة 1955، حيث ستظهر أولى مشكلات الجنوبيين مع الشمال المستقل عن مصر. فدداي بيبوط - طالب باحث في قسم البحوث والدراسات التاريخية بالقاهرة أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي بوجدور