دخلت بلاد فارس -بعد الطور السني من تاريخها- مرحلة جديدة، إذ سقطت الإمارات السنية بها عقب غزو المغول. يقول بروكلمان: «كانت إيران منذ هبت العاصفة المغولية الكاسحة أشبه شيء بالكرة تتنازعها جماعة من أمراء القبائل المتنافسين، يرجع بعضهم إلى أصل تركي، وينتسب بعضهم الآخر إلى المغول..»، حتى نشأت الدولة الصفوية. نشأة الدولة الصفوية (911-1149) كان يعيش بأردبيل، بأذربيجان الشرقية، رجل صوفي اسمه: إسحاق صفي الدين (توفي سنة735)، وهو شيعي وله مريدون، وكان ذا حظوة عند رشيد الدين وزير الإيلخان بفارس. ولما انتصر تيمورلنك -وكان يميل إلى المتصوفة- على السلطان بايزيد.. أقطع خوجا علي، حفيد إسحاق، منطقة أردبيل، فجعلها وقفا عليه وعلى عقبه. هكذا نشأت نواة دولة إيرانية. ثم كان للحفيد الآخر: جنيد، دور في الأحداث، فقد كان جنديا محاربا، وأعلن الجهاد غير ما مرة، ولقي دعما من أوزون حسن -زعيم سنّي لمملكة تركمانية ببلاد فارس وبعض العراق- فنشر جنيد طريقته الصوفية الشيعية دون أي معارضة في بلاد أوزون، وتزوج بنته. ولما مات جنيد ترك طفلا اسمه: حيدر، فنشأ في كنف جده: أوزون الذي زوجه أيضا ابنة له من امرأة أخرى، فأنجبا: إسماعيل، مؤسس السلالة الصفوية. وأعاد حيدر تنظيم طريقته، فاستحدث لها لباسا جديدا للرأس، أحمر اللون ذا اثنتي عشرة ذؤابة، كناية عن الإثني عشر إماما. من هنا سمى العثمانيون الصفويين ب: قِزِل باش، أي الرؤوس الحمراء. وما لبث أبناء أوزون وأبناء حيدر أن دخلوا في سلسلة من الصراعات، استخفى بسببها إسماعيل سنين. ولما خرج، تجمّعت حوله عصبة تكاثرت مع الأيام، فاحتل باكو، ثم هزم زعيم الآق قيونلي، فدخل تبريز، وتُوج ملكا على فارس، ثم شيراز، فأستراباد ويزد، فالجزيرة الفراتية والعراق، وضم إلى سلطانه: النجف وكربلاء، واتخذ لقب: الشاه.. فلما تم لإسماعيل إخضاع بلاد الفرس بهذه السهولة، لم يبق أمامه غير عدوين، هما: العثمانيون بالغرب، والأوزبك بالشرق. وقد تبادل إسماعيل مع الخان محمد شيباني، زعيم الأوزبك، وهم سنة، رسائل في قضايا المذاهب والفرق، ودعا شيباني إسماعيل إلى الرجوع إلى التسنن. لكنهما لم يتفاهما على شيء، فوقعت معركة بينهما أضعفت الأوزبك. وقد خلف طَهْماسب أباه إسماعيل، وطال عهده الذي قضى معظمه في محاربة الأوزبك والعثمانيين. وفي إحداها، قاد سليمان القانوني العثمانيين حتى دخل إلى العاصمة تبريز، واحتلها مؤقتا في عام 940ه، 1533م، واستعاد كامل العراق. وكان طهماسب حريصا على اتباع التعاليم الشيعية، مهما كانت دقيقة، خاصة في مجال الطقوس والمراسيم والشعائر الظاهرية. ثم جاء بعده ابنه: إسماعيل الثاني، وأظهر بغضا علنيا للمذهب الإمامي، فحظر سب الخلفاء الثلاثة على المنابر، وأغفل ذكر شعار القزلباشية على النقود.. لكنه قضى مسموما على الأرجح، إذ كان القتل والكيد المتبادل في الأسرة الصفوية كثيرا جدا. وقد وصلت الدولة ذروة قوتها حين حكم عباس (1588-1629م)، لذلك يلقب ب:عباس الكبير. واستهل حكمه بسعيه إلى عقد صلح مع العثمانيين، بسبب أحوال مملكته البئيسة، وبموجبه تنازل لهم عن آذربيجان والكُرج (أي جورجيا)، وتعهّد بالكف عن سب الصحابة في أراضي مملكته، لكنه نقض كل ذلك بمجرد أن استعادت دولته قوتها. ولما مات عباس خلفته ملوك ضعيفة: سام ميرزا، وعباس الثاني، وسليمان، ثم السلطان حسين المتوفى سنة 1135. وفي سنة 1722، هاجم الأفغان -وهم خصوم دائمون للإيرانيين- بلاد فارس، وخلعوا آخر الصفويين عن عرشه بإصفهان، لتبدأ مرحلة أخرى من تاريخ البلد. الدولة الأفشارية (1149 1163): استطاع نادر قولي -زعيم قبيلة الأفشار الشيعية التركمانية- أن يطرد الأفغان من فارس، وتوّج عباس الصفوي. لكنه عاد فأنهى الحقبة الصفوية، واستبد بأمر الدولة، وعقد صلحا مع العثمانيين، فترك لهم بغداد. ثم توجه إلى الشرق، فزحف إلى دلهي بالهند، وفرض جزية سنوية على حاكمها المغولي، ونجح في إخضاع الأوزبك في بخارى وخوارزم. لكن مملكته تفككت بعد اغتياله. الدولة القاجارية (1163 1344-ه، الموافق 1924): يقول شاكر «بعد مقتل نادر شاه، جاءت فترة من الاضطرابات والفوضى، وتنازع العرش رجال من القبائل المختلفة، ثم استقر الحكم في القبيلة القاجارية التي نقلت العاصمة من إصفهان إلى طهران، وكان أول ملوكها أقا محمد..»، وهذه هي الدولة التي ظلت تحكم إيران إلى أن أسقطها رضا بهلوي في انقلابه على أحمد شاه، آخر ملوك الدولة القاجارية، وتولى العرش بدلا منه. العلاقات الصفوية-الأوربية ورغم أن عباس الكبير هو الذي دشّن سياسة التحالف مع القوى الكبرى، فإن آثار هذه السياسة الخطيرة لم تظهر بجلاء إلا في هذا العهد. يقول حسنين: «كان عباس أقوى شخصية في البيت الصفوي، فلم يظهر في عصره خطر التودد إلى الأوربيين الصليبيين الطامعين في استعمار بلاد المسلمين، ولكن هذا الخطر أخذ في الظهور بعد وفاته، حين ضعفت الدولة الصفوية الشيعية، كما ضعفت الدولة العثمانية السنية». لذلك، فالطابع البارز للدولة في هذه المرحلة هو وقوعها ضحية قوتين كبيرتين: الروس في الشمال، والإنجليز في الشرق والخليج. وظل البلدان يتبادلان النفوذ على إيران، ويقتطعان منها أراضي ويستبدان بامتيازات سياسية وتجارية.. حتى غزاها الحلفاء في سنة 1941. وقد سعى الشاه إسماعيل إلى انتزاع الأناضول من العثمانيين، فضلا عن العراق. وأقام دبلوماسيته على التحالف مع أعداء العثمانيين، كيفما كانوا، فتحالف مع البرتغاليين في الخليج العربي، ونسّق مع المماليك بالشام ومصر، كما بعث وفودا إلى أوربا للتفاوض حول طرق القضاء على بني عثمان، أو الحد من نفوذهم. لذلك لم يستطع العثمانيون مواصلة فتوحاتهم بأوربا، وظهرهم بالأناضول مهدد، فانعطف السلطان سليم الأول إلى فارس، وحدثت موقعة جالديران عام 1514م، من أهم المعارك بين الطرفين، وقد انتهت بهزيمة إسماعيل الكبير، ودخول سليم إلى تبريز. وهذا أيضا هو السبب المباشر لتوجه سليم إلى مصر للقضاء على المماليك الذين تحالفوا مع إسماعيل. ولم تكن هذه السياسة مؤقتة، بل يمكن القول: إنها كانت من ثوابت الدبلوماسية الصفوية. كتب الأستاذ حسنين: «ظلت كفة العثمانيين راجحة طوال القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) إلى أن تولى الشاه عباس الأول الصفوي عرش الصفويين، فانتهج سياسة محالفة الشيطان ضد العثمانيين». ثم ظهر في بلاط عباس الكبير «مغامران» إنجليزيان: السير أنطوني والسير روبرت شيرلي، فمكّناه من تسليح الجيش الفارسي بالمدفعية، وكان ذلك ما ينقص الفرس في حروبهم مع الأتراك. وتحالف عباس مع الدول الأوربية، «ومنح بعضها امتيازات تجارية في منطقة الخليج. وقبل الإنجليز الحصول على امتيازات تجارية في هذه المنطقة في مقابل أن يعقدوا حلفا عسكريا مع عباس الصفوي، يتعهدون فيه بالوقوف إلى جانب الصفويين الشيعة إذا حدث قتال بينهم وبين العثمانيين السنة». وأخبار هذا التحالف كثيرة، يمكن مراجعتها في الكتب التاريخية المختصة. والمقصود أن الشاه عباس استغل انشغال الدولة العثمانية بحرب النمسا، فنقض الصلح المعقود معها، واسترد أذربيجان وشيروان وتبريز وروان.. لذلك ارتبكت الدولة العثمانية كثيرا بين حروبها بأوربا وحروب فارس والثورات الداخلية.. وكانت الحرب مع الإمبراطورية النمساوية بالخصوص دافعا إلى تنازل العثمانيين للصفويين عن كثير من الأراضي التي كانوا قد سيطروا عليها، بما في ذلك بغداد. وهو صلح سنة 1021ه، 1612م. يقول الألماني بروكلمان: «هكذا وجد الباب العالي نفسه مضطرا إلى القتال على جبهتين. والواقع أن حرب الفرس كانت ثقيلة الوطأة على الدولة بسبب من الثورات المتعاقبة التي قام بها زعماء العصابات في آسية الصغرى، وبسبب من تمرد جنبلاط الكردي في سوريا، والأمير الدرزي فخر الدين المعنيّ في لبنان». ولم يمنع ذلك من تجدد الحرب بين الطرفين في عام 1044، بسبب العراق أيضا، حيث استرد مراد الرابع بغداد. لذلك قال بروكلمان: «أتاح انحطاط الدولة الفارسية السياسي (يعني بعد سنوات 1740) عهدا طويلا من السلم للإمبراطورية العثمانية لم يعكر عليها صفوه أحد».. الظروف التاريخية لفتوى الشيخ نوح لعل القارئ الكريم أدرك الآن أن فتوى الشيخ نوح، وأمثالها، والتي عرضتها في مقال سابق وبيّنت خطأها.. جاءت في سياق هذا الصراع العثماني- الصفوي. ويزعم بعض الكتاب الشيعة أنه بسببها قتل عشرات الآلاف من الشيعة في الأناضول وجبل عامل بلبنان وحلب بسوريا، خاصة في عهد السلطان سليم الأول المتوفى سنة 925.. ومن أسباب إحدى هذه المجازر أن سليما الأول لما عاد من حربين كبيرتين مع الصفويين والمماليك، وجد أنه قد قام تمرد شيعي، تزعمه جلال اليوزغادي الذي ادعى المهدوية، وجمع أكثر من عشرين ألف مقاتل، واستقل بمنطقة في الأناضول، وفرض عليها الخراج، وكانت فتنة شديدة بسنة 1519. وقد كثرت الثورات المسلحة للشيعة في هذه الفترة، منها تمرد بابا ذي النون سنة 1526، وقويت حركته حتى إنه استطاع هزيمة بعض القواد العثمانيين. وتزعم قلندر جلبي تمردا شيعيا آخر بمنطقتي قونية ومرعش، فذبح قاطنيهما من أهل السنة.. وذلك في عهد سليمان القانوني.. وقد عانى شيعة حلب من هذا التجاذب الصفوي-العثماني، وكان كثير من أهل المدينة إمامية منذ أيام الحمدانيين، لكن العثمانيين لم يطمئنوا إليهم. ومن اللافت للنظر أن الفتوى التي استند إليها بعض سلاطين العثمانيين وولاتهم لم تصدر عن علماء كبار ومعروفين في العهد العثماني، بل عن عالِم مغمور نسبيا هو الشيخ نوح، فكأن أكثر علماء العصر تورعوا عن الإفتاء بردة الإمامية خاصة، والشيعة عامة.. وكأنهم رأوا أنه يمكن سلوك أساليب أخرى لمواجهة المشكلة الصفوية. يتبع...