إن ظاهرة معقدة وعميقة كاختلاف الأمة وظهور الفرق لا يمكن أن تعود إلى عامل واحد فقط، مهما كانت قيمته وخطورته. وقد رأينا، فيما سبق، الأسباب العلمية والسياسية والاجتماعية والنفسية. وسنطلع الآن على الأسباب الاقتصادية للخلاف السني-الشيعي. يقول شلق: «يختلف الباحثون في تحديد الجذور الاجتماعية لهذا الصراع، ومواقف مختلف الفئات الاجتماعية من أطراف هذا الصراع. فبينما يعتبر بعضهم أن الاتجاه الأوتوقراطي ضم بيروقراطية الدولة وغيرهم من الموظفين والشيعة وكبار التجار وأسياد الأرض، وأن الاتجاه الدستوري ضم سكان المدن العاديين من حرفيين صغار ورجال دين سنيين، يعتبر البعض الآخر أن التجار كانوا في تحالف مع رجال الدين السنيين (رغم أن معظم تجار الكرخ كانوا من الشيعة)، وأن أرستقراطيي الأرض كانوا سنيين. لكن هناك اتفاق عام على أن المنازعات المذهبية بين السنة والشيعة، وبين أهل الجماعة والسنة والدولة المركزية، ذات أساس اقتصادي - اجتماعي، وأن المظالم الاجتماعية كانت تعبر عن نفسها بواسطة تيارات دينية». إن قسما مهما وفعالا من أسباب الخصومات المذهبية في تاريخنا، بما فيها: الخصومة السنية- الشيعية، يعود ببساطة إلى: قضية المال. وأعرف أن بعض القراء الأفاضل قد يستغرب هذا الكلام، بل قد لا يوافق عليه. ذلك أنني أرى، وقد تأملت تاريخنا الإسلامي زمانا، أننا لم نوف هذا الدافع حقه من البحث والدراسة، فنحن نفتش ذات اليمين وذات اليسار عن علل التمزق والاختلاف، ونركز جهدنا خاصة على الوحي ونصوصه: على ثبوت النص وعدمه، والتأويل والمجاز، والتعارض والترجيح.. وننسى طبيعة الإنسان، الإنسان الذي وصفه القرآن الكريم بالهلع إذا احتاج، وبالطمع إذا بلغ، وبالطغيان إذا استغنى.. وبحب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث..أقول بكلمة واحدة: إن أكثر أسباب الخلاف ترجع إلى الدنيا ومتاعها القليل. والدنيا مهما تنوعت شهواتها وكثرت إغراءاتها فإنها ترجع إلى أشياء ثلاثة: السلطة والمال والمرأة. وتلخص كلمة «العطاء» مشكلة الثروة وتوزيعها في تاريخنا الإسلامي، فمن أهم أسباب النقمة على ذي النورين هو أن العطاء الذي كان يأخذه الناس لم يعد كافيا لهم. وأظن -والله أعلم- أن علة إهمال هذا السبب في الفكر الإسلامي المعاصر هي: صراعه مع الفلسفات الماركسية والمادية التي ترد كل شيء إلى ما تسميه بالبنية التحتية، أي الإنتاج ووسائله، فتفسر حركة التاريخ جميعها بالصراع على الأشياء. ولما كانت كل الأشياء تقريبا تُقوّم بالمال، فإنها أرجعت الصراع البشري إلى التنافس على اكتساب المال، وهو ما لا يتم دون السيطرة على وسائل إنتاج الثروة. هذا التطرف الماركسي في التحليل دفع بالفكر الإسلامي إلى التقليل من خطورة مشكلات الثروة ومسائل توزيعها.. إلى حد أنه نسي الموضوع من أصله، فألغى عمليا كل حساب للدوافع المادية، والمالية بالخصوص، في سلوك الأفراد والجماعات والأمم.. ولما كانت نتيجة هذا التنافس الإسلامي-الماركسي قد انتهت بفوز الأولين، فإن الوقت حان لإعادة التفكير في الموضوع برمته، إذ لا حرج في الاعتراف بالحق إذا تبيّن، فلا بد أن نعيد إلى العامل الاقتصادي اعتباره وأثره في تاريخنا، وما ساهم به في الخير والشر. والحقيقة أنني مازلت أعجب من موقف الفكر الإسلامي الحديث الذي يتحاشى كل «تفكير مادي» في تفسير التاريخ.. كيف يفعل ذلك والقرآن والسنة طافحان بالتحذير من الدنيا ومن فتنها المغرية، بل في صحيحي البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر الجهني أنه سمع الرسول (ص) يقول: «إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا فيها وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم». قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت الرسول يقول على المنبر. وأورد هنا بعض ما لخصه الأستاذ شلق من آراء الباحثين في أثر المال على انقسام الأمة.. أوردُه للنظر فيه، ولا أتبنى كلامه حرفيا، بل لنفتح نافذة على هذا الحقل المنسي من دراسات مشكلات الفرق وتاريخها. كتب: «إن انتقال مغانم الفتح، وتركيز ريع الحكم في أيدي فئات معينة لم يتمّ دون مشاكل اجتماعية واقتصادية. فقد تركز العرب الفاتحون في الأمصار (المدن الجديدة)، أو في أحياء جديدة في المدن القديمة، وتركزت في أيديهم كميات هائلة من الأموال، مما أدى إلى تفاقم المشاكل الاجتماعية وارتفاع نفقات المعيشة، وزيادة الهجرة من الريف إلى المدن، وازدياد مشاكل البطالة. وقد كان بالإمكان تخفيف حدة هذه المشاكل ما دامت الفتوحات مستمرة ومغانم الفتح تتدفق. لكن الفتوحات كان لا بد أن تتوقف عندما وصلت حدود الإمبراطورية إلى أبعاد مترامية صار صعبا السيطرة عليها، كما صار صعبا تنظيم الحملات المتتالية لمواصلة الفتوحات وراء هذه الحدود، خاصة أن كثيرين من عرب الأمصار صاروا يمتنعون عن الاشتراك في الحملات. إن الربط المباشر بين المصالح الاقتصادية ومختلف المواقف الإيديولوجية والانقسامات المذهبية أمر يصعب تحديده، لكن ما من شك في أن ازدياد حدة المشاكل الاقتصادية أدى إلى تأجيج الصراعات الاجتماعية والسياسية والانقسامات المذهبية التي تنبثق منها لتسوغها وتعطيها حججا دينية. هذا علما بأن المشاكل الاقتصادية هي حصيلة توزيع وتطور غير متكافئين في إطار ازدهار اقتصادي كانت قاعدته السوق التجارية التي قامت في أرجاء تلك الإمبراطورية الواسعة. إنه لأمر بالغ الأهمية، بالنسبة إلى موضوع هذا البحث، التأكيد على أن المجتمع الإسلامي الأول (حتى أيام الخلفاء الراشدين) لم يكن مجتمع مساواة وسلام اجتماعيين تامين، كما يحب أن يعتقد كثيرون منا. لقد كان مجتمعا متقدما بمقاييس الأزمنة الوسيطة، لكنه كان حافلا بالتجاذبات الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية والسياسية والانقسامات المذهبية الدينية». ثم عدّد المؤلف هذه التناقضات وما نجم عنها من مشكلات في: 1- تفاوت العطاء المدفوع من بيت المال للمقاتلين. 2- مشكلات بين العرب باعتبارهم حاكمين يأخذون الضرائب، وبين سكان الأرياف الذين يدفعونها. 3- التفاوت بين سكان المدن وسكان البوادي، فالأولون كانوا يدفعون ضرائب أقل.. أسباب أخرى وتوجد مجموعة أخرى من التفاسير، في بعضها نظر، كالتفسير الطبقي، وبعضها يمكن قبوله أو الاحتفاظ به. ويذكر بعض المؤرخين ضمن أسباب الانقسام في الأمة: التناقضات داخل المدن والأمصار بين التجار والحرفيين. والتناقضات بين الدولة المركزية والأطراف. وصعوبة تكيف بعض العرب مع حياة المدن. والخلافات بين العرب أنفسهم حول قضايا السلطة، من اختيار الحاكم.. إلى سياسة التوسع والموقف من سكان البلدان المفتوحة. والعلاقات بين المسلمين وأهل الذمة... ومن الأسباب أيضا اختلاف البادية والمدينة: ولا يبعد أن يكون للتنافس بين هذين النظامين العريقين في الاجتماع البشري أثره في الخلاف المذهبي. يكفي أن نستحضر نظرية ابن خلدون في العلاقة بين الحضارة والبداوة، وكيف يفسر بهذه الثنائية كثيرا من حوادث التاريخ الإسلامي. من ذلك حركة الخوارج، إذ توجد نظرية ترجع بها إلى الصراع المديني- البدوي في صدر الإسلام، أو تعتبرها -على الأقل- «صوت» أهل البوادي. وقد لاحظ بعض المسلمين من قديم هذا الأمر، ففي خطبة أبي حمزة الشاري -لما دخل إلى المدينةالمنورة- إشارات إلى هذه المسألة، كقوله: «يا أهل المدينة، بلغني أنكم تنتقصون أصحابي: قلتم شباب أحداث، وأعراب جفاة.. وهم والله مكتهلون في شبابهم، غضة عن الشر أعينهم».. لذلك قال ابن حزم: «أسلاف الخوارج كانوا أعرابا، قرؤوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنة الثابتة عن رسول الله (ص)». ومن العلماء المعاصرين الذين ذكروا هذا أيضا الشيخ أبو زهرة، قال تعليقا على الحركتين المتزامنتين للإمام زيد وأبي حمزة: «حركة الخوارج في هذه المرة كانت حركة البوادي، فإذا كانت حركة زيد دلت على نقمة أهل المدائن، فحركة أبي حمزة الشاري حركة أهل البادية. فالتقى أهل المدن وأهل البادية على ضرورة التغيير، فكان بقيام دولة بني العباس.» وهذا الموضوع متشعب الجوانب جدا، ولا شك أن هذه الأسباب تتكامل في تفسير المشكلة، ولا تتعارض. وأحيل القارئ الفاضل الذي يريد أن يتوسع بعض التوسع في فهم حوادث العصر الأول من منظور تاريخي-اجتماعي-اقتصادي متزن إلى أعمال المؤرخ الكبير عبد العزيز الدوري، خاصة منها كتابه المختصر القيّم: «مقدمة في تاريخ صدر الإسلام». يتبع...