يثير «حياتي لها ثمن..» أمة بفرنسا في القرن الواحد والعشرين» لتينا أوكبارا ضجة كبيرة في فرنسا منذ صدوره في تاسع شتنبر الجاري. وتحكي تينا في هذا الكتاب تفاصيل أربع سنوات من التعذيب والاغتصاب بمنزل أسرتها بالتبني بأحد أرقى أحياء العاصمة الفرنسية باريس. كانت البداية في سنة 2001 من مدينة لاغوس النيجيرية حين تبنى أو اشترى لاعب فريق باريس سان جيرمان لكرة القدم، غودوين أوكبارا، تينا مقابل 375 أورو، واعدا أباها الفقير برعايتها وتسجيلها في المدرسة. لكن السيدة أوكبارا ستعامل تينا وكأنها خادمة، قبل أن تنزل بها أشد العذاب بعد ضبطها زوجها غودوين متلبسا باغتصابها، واستمر الأمر على هذا النحو على مدى أربع سنوات إلى أن تمكنت تينا من الهرب في منتصف شهر غشت من 2005. تكاد تينا أوكبارا لا تصدق أنها لا تزال على قيد الحياة، بعد قضائها أربع سنوات في جحيم التعذيب من المرأة التي يفترض أنها أمها بالتبني بالموازاة مع اغتصابها ممن تشير الوثائق الرسمية إلى أنه أبوها الذي منحها اسم عائلته «أوكبارا». كثيرون لم يكونوا ليتخيلوا، قبل تفجر هذه القضية في سنة 2005، أن عهد الرق والعبودية لم يول بعد في فرنسا، ومن عاصمتها باريس، في القرن الواحد والعشرين. ولكن تينا أوكبارا، التي لا تخفي خجلها من اسمها العائلي، وثقت ذلك في كتاب «حياتي، لها ثمن. أَمَة بفرنسا في القرن الواحد والعشرين»، الذي صدر في شهر شتنبر الجاري عن دار النشر ميشال لافون، ويثير في الوقت الراهن ضجة كبيرة في فرنسا، حيث تحكي فيه، بتعاون مع الصحافية، سيريل غيني، عن التعذيب الذي تعرضت له في منزل لاعب كرة القدم النيجيري، غودوين أكبارا، بباريس، الذي كان نجم دفاع فريق باريس سان جيرمان الفرنسي بين سنتي 1999 و2001 قبل أن ينتقل إلى ستوندار دو لييج البلجيكي. طفلة مقابل 375 أورو في «حياتي لها ثمن» تعود تينا أوكبارا بقرائها، بأسلوب أدبي شيق ومعجم مليء بالمعاناة، إلى تفاصيل أربع سنوات قضتها تحت التعذيب بمنزل لاعب دولي لكرة القدم لعب مع منتخب بلاده المباراة النهائية لكأس إفريقيا للأمم في سنة 2000 وخسرها أمام الكاميرون. رحلة معاناة تينا ابتدأت في سنة 2001، بعدما توفيت أمها وتركتها يتيمة في سنتها الثانية عشرة. كانت تتمنى أن تلج إلى المدرسة، كما يفعل باقي الأطفال المُجايِلين لها، إلا أن أباها كان له رأي مخالف. فقد كان يطمح إلى أن يمنحها مستقبلا زاهرا بإرسالها إلى فرنسا، حتى وإن تطلب ذلك منحها لأسرة أخرى على سبيل التبني مقابل مبلغ زهيد. وبما أن والد تينا، كان يعلم أن عائلة أوكبارا غنية وتقطن بالديار الفرنسية ولها ما يكفي من الإمكانيات لتربية تينا، لم يتردد في منحها لها على سبيل التبني مقابل 375 أورو لا أقل ولا أكثر، مقابل الاعتناء بها وتوفير كل حاجياتها كطفلة مع تسجيلها في المدرسة. كان هذا ظاهر الاتفاق، أما الحقيقة فهي أن تينا اشتريت بذلك المبلغ الزهيد لتكون أمة وخادمة في بيت أوكبارا. كانت الطفلة تينا التي باتت تحمل الاسم العائلي لأحد أشهر المدافعين النيجيريين، غودوين أوكبارا، بصفتها ابنته بالتبني، تنسج في خيالها معالم حياتها الجديدة في كنف أسرة غنية بباريس بعيدا عن حيها الفقير الكائن بضواحي العاصمة النيجيرية لاغوس، كانت تحلم بأن تستيقظ كل صباح لتذهب مع أبناء غودوين الأربعة، الذين صاروا إخوتها، إلى المدرسة وأن تحصل على لعب مثلهم وتشاركهم ألعابهم الطفولية التي يتباهون بها على أطفال حيها الفقير حينما يقدمون إليه لقضاء عطلتهم الصيفية. مرت أيام انتظار السفر إلى باريس ببطء شديد، قبل أن يأتي يوم 11 فبراير 2001، الذي حلقت فيه طائرة من لاغوس إلى باريس وعلى متنها تينا، كانت متشوقة لبدء حياتها الجديدة، دون أن تخطر ببالها شدة المعاناة التي تنتظرها في منزل أسرتها الجديدة. سارت الأمور عكس ما نسجه خيال الطفلة تينا، فلم تدخل إلى المدرسة، ولم تُشتر لها ألعاب، ولم تعامل مثل أبناء أوكبارا. وعوض أن تلعب معهم، كما كانت تحلم، باتت مجبرة على الاعتناء بهم على مدار الساعة من اللحظة التي يستيقظون فيها إلى الساعة التي يأوون فيها إلى فراش النوم، وبدل أن تذهب إلى المدرسة مثلهم أجبرتها، ليندا أوكبار، أمها بالتبني حسب الوثائق الإدارية، على إعداد الوجبات وتنظيف أرجاء البيت وغسل الملابس، والويل لها إن فكرت في أخذ قسط من الراحة قبل أن ينام جميع أفراد البيت. ورغم ذلك، ظلت تينا متمسكة ببصيص أمل في أن يأتي اليوم الذي تلج فيه إلى المدرسة، بدل أن تكتفي بمرافقة «إخوتها» إلى باب المدرسة، وتعود هي أدراجها لإنجاز كافة الأشغال المنزلية قبل أن تثير غضب «أمها»، خصوصا بعد أن وعدتها هذه الأخيرة بتسجيلها في المدرسة في اليوم الدراسي الموالي، وأوضحت لها أنها قدمت إلى فرنسا في منتصف السنة وأن عليها انتظار حلول شهر شتنبر لتلتحق بالفصول الدراسية، إسوة ب«إخوتها» الأربعة. اعتقدت تينا بعد هذه الوعود أن المدرسة ستضع حدا لمعاناتها، لذلك لم تبد أي اعتراض على أن تستمر في خدمة آل أوكبارا، وكأنها ليست ابنتهم بالتبني. غير أن الأسرة ستنتقل للعيش في منزل جديد، لا مكان فيه لتينا: لا غرفة نوم ولا محفظة ولا أدوات مدرسية، فبات لزاما عليها أن تقضي ساعات نومها، على قلتها، في قبو البيت الجديد تفترش سريرا باليا. اغتصاب بعد سنتين من وصولها إلى باريس، ستتخذ حياة تينا منحى جديدا بعد إقدام «أبيها»، الذي كانت تثق فيه أكثر من «أمها»، وكان يبدو أنه يعطف عليها أكثر من زوجته، على مباغتتها ليلا فوق سريرها البالي، واغتصابها. وظل يغتصب براءة طفولتها يوميا، وأحيانا يقوم بذلك مرات عديدة في اليوم. ومرة فاجأته تينا بهذا السؤال: «ثمة فتيات كثيرات، لماذا أنا؟»، فأجابها بأنها الوحيدة التي توجد داخل المنزل، وأن المغامرات في الخارج محفوفة بالمخاطر، سبب الأمراض الجنسية التي باتت منتشرة على نطاق واسع. وماذا عساها تفهم تينا الطفلة من هذا الجواب؟. وحينما باغتت ليندا زوجها غودوين في حالة تلبس وهو يغتصب ابنتهما بالتبني، استشاطت غضبا من الطفلة وأنزلت بها أشد أنواع العذاب قساوة انتقاما منها. ولم تكتف بالضرب المبرح فقط، بل عمدت إلى تشويه مهبلها بواسطة شفرة حلاقة، ثم سكبت عليها مسحوق الفلفل السوداني، وهي تردد بأعلى صوتها بأنها ستخلف فيها ندوبا لتتذكرها إلى الأبد. ويبدو أن السيدة أوكبارا كانت محقة بعد نجاح تينا في إصدار كتاب «حياتي لها ثمن». وبعد شهور من التعذيب المتواصل تمكنت تينا، في سنة 2004، من الفرار من بيت آل أوكبارا في غفلة من أعين ليندا، غير أن رجال الشرطة لم يصدقوا ما قالته لهم الطفلة الصغيرة، خصوصا وأنهم كانوا معجبين بالمدافع النيجيري ولم يكونوا يتخيلون أن يكون قادرا على ارتكاب جريمة بشعة من هذا الحجم في حق ابنته، فقاموا بالاتصال بآل أوكبارا الذين أتوا إلى المفوضية لتسلم ابنتهم بالتبني، لينطلق مسلسل جديد من المعاناة. ولسوء حظ تينا أن الرقم الذي اتصلت به مباشرة بعد فرارها من منزل أوكبارا ، لم يكن حضانة للأطفال، بل مأوى للمسنين، ولذلك لم تتردد المسؤولة التربوية في هذا المأوى في التخلص منها بإحالتها على الشرطة. وتستحضر تينا ما وقع في مفوضية الشرطة قائلة: «ما قيمة كلمة طفلة قاصر حليقة الرأس (حلقت ليندا شعر رأسها) تلبس ثيابا رثة ولا تتوقف عن البكاء أمام كلمة نجم كرة قدم؟ لا شيء. لم يصدق رجال الشرطة ما قلت لهم، فعهدوا بي إلى ليندا وغودوين اللذين أعادوني إلى منزلهما، ولم تنته معاناتي إلا في غشت 2005». شقة وأسرة واسم عائلي حقيقي تمكنت تينا في 13 غشت 2005 من الفرار للمرة الثانية من قبضة أبويها بالتبني، فقدم لها الجيران يد المساعدة ورافقها بعضهم إلى مفوضية الشرطة. صدقها رجال الشرطة هذه المرة، ورافقوها على الفور إلى منزل آل أوكبارا لتستعيد جواز سفرها، وألقوا القبض على غودوين وزوجته، وآن لتينا أن تتنفس الصعداء. وفي مارس الموالي، توفي أبوها البيولوجي تحت تأثير الضغط الكبير الذي مارسته عليه أسرة أوكبارا النافذة لتحويل مجرى محاكمة ابنها وزوجته. واستمر هذا الضغط على جميع أقرباء تينا القاطنين بنيجيريا إلى أن أصدرت محكمة الاستئناف بفيرساي، في فاتح يونيو 2007، حكما يدين غودوين وزوجته، على التوالي، ب13 سنة و15 سنة سجنا نافذا، غير أن عقوبة غودوين ستقلص في فبراير 2008 إلى 10 سنوات. وقد انتظرت تينا أربع سنوات لتصدر هذا الكتاب الذي تخلد فيه معاناتها، وتقول عن هذا التأخير: «اقترح علي في سنة 2007 أن أصدر كتابا عن المحنة التي مررت بها طيلة أربع سنوات بمنزل لاعب كرة القدم النيجيري غودوين أوكبارا، لكن الوقت كان حينئذ مبكرا على إنجاز عمل من هذا القبيل، لأني كنت أريد أن أنسى ما حدث وأن أعيش حياة طبيعية، خالية من الآلام والمعاناة، مثل جميع الفتيات، مثل جميع مجايلاتي من الفتيات. أما اليوم، فأنا بحاجة إلى الكلام عما تعرضت له والبوح بالآلام التي تسببت لي فيها أسرتي بالتبني. أنا متأكدة كذلك من أن هذا الكتاب سيمنح الشجاعة لكل الذين يمرون بمحن مماثلة لينتفضوا ضد مستعبديهم الذين يعذبونهم ويستغلونهم أبشع استغلال، أريد أن أبين لهم ضرورة المقاومة والإيمان بالمستقبل». وتعيش تينا اليوم في مأوى للعمال الشباب، وتعمل، بعد حصولها على دبلوم في الرعاية الاجتماعية، في دار للعجزة، وتضع نصب أعينها الحصول على شقة خاصة بها وتكوين أسرة متماسكة. تتمنى أيضا أن تحصل ذات يوم على الجنسية الفرنسية، حتى تتمكن من حمل اسمها العائلي الحقيقي «أوماكو». حياة تينا أوكبارا بعد أربع سنوات من العبودية في باريس بدأت تينا تتجاوز ما خلفته المحنة التي مرت منها من آثار سلبية بشكل تدريجي، وصارت، شيئا فشيئا، تتجاوز خوفها من الناس وتميل نحو الاختلاط بهم، وذلك بعد أن جمعتها أقدارها هذه المرة بأناس، لا تربطهم بها أي قرابة، جسدوا لها معاني الإنسانية النبيلة والصداقة الحقة. غير أن كل الخصال الحسنة التي يتمتع بها كثير ممن عاشت معهم بعد سنوات المحنة، لم تستطع أن تمحو ماضي المعاناة الذي بدا لها للحظة أنه وشم لا يمحى، وتساءلت في كتابها عن هذا الأمر قائلة: «أيمكن أن أنسى ما عشته في الماضي؟». كانت تحسب أن هذا السؤال سيكون أولى خطواتها نحو القطع مع الماضي بشكل نهائي، لكن كوابيس التعذيب تصر على أن تنغص عليها نومها، حتى بعد مضي شهور على اعتقال المتسببين في عذابها. غير أن تينا لم تستسلم لهذه الكوابيس ولم تقبلها وكأنها قدر محتوم، بل ظلت تقاوم إلا أن وجدت وصفة بدأت تظهر علامات على نجاعتها. وهكذا، فكلما داهمتها كوابيس التعذيب، تستنجد باتصال هاتفي مع صديقتيها الحميمتين، نيفرتيتي والسيدة كالو، اللتين تكونان دائما على استعداد تام لسماع نجوى تينا التي تقول: «اتصالي بهما يعيد إلي الإحساس بالأمان والطمأنينة، تقولان لي إن ماضي المعاناة ولى، وتحثاني، بأسلوب لا تقاومه كوابيس الماضي، على التفكير في المستقبل، ولا شيء غير ذلك». وقد تأكد أن مجهودات كل من نيفرتيتي والسيدة كالو لم تذهب أدراج الرياح، لأن تينا استطاعت أن تنتفض على الكوابيس، إذ لم تكتف بمحو أميتها فقط، بل بذلت جهدا كبيرا، أدهش كل المقربين منها، بمن فيهم صديقتاها، لتحصل على دبلوم في الرعاية الاجتماعية، وهي الآن إطار في دار للمتقاعدين: «لم أعرف، على مدى سنوات عديدة، غير الإهانات وشتى أشكال التعذيب، ولذلك، فأن تقول لي سيدة مسنة «شكرا» أو أن أحظى بابتسامة من عجوز أجمل مكافأة في حياتي». وبخصوص حياتها الشخصية، فإن تينا لا تطمح سوى إلى أن تكون فتاة طبيعية وعادية لا تختلف عن باقي الفتيات. تكثر من التردد على صالونات التجميل مع صديقاتها وتعشق آخر صيحات الموضة ولا تفوت أي فرصة للرقص، إلى جانب المطالعة، خصوصا الكتب وبعض المجلات النسائية: «لا أريد أن أظل مدى الحياة ضحية لحادث مأساوي». وعن طموحاتها الأسرية، تؤكد تينا أنها تفكر جديا في الزواج وتقول إنها «تريد أن تنجب من شريكها في الحياة أربعة أطفال، بنتين وولدين. ولكن لا أدري ما عساي أقول لهم إذا سألوني عن طفولتي وصباي». أمامها جواب يبدو وجيها ويتمثل في أن تهدي لكل واحد منهم الكتاب الذي ألفته عن طفولتها التي انتهكت براءتها في أحد أرقى أحياء باريس. كانت الكتابة، بالنسبة إلى تينا، ذات 22 سنة، في حد ذاتها علاجا. فالبوح بالمعاناة أولى الخطوات نحو العلاج والتئام الجروح التي تسبب فيها التعذيب. فالآلام النفسية لا تجدي معها الأدوية، وإنما تضمد وتعالج بالإنصات وتلمس الاهتمام، ومن ثمة الإحساس بالأمن والطمأنينة. «كنت أريد أن أطرد ما في داخلي من معاناة، لعلي أمحو ما قاسيته وعانيته وتعرضت له من تعذيب وإذلال وحرمان». أتكون تينا كتبت قصة طفولتها التي انتزعت منها قسرا بمداد من دموع؟ لا ريب في ذلك. لا تتمنى تينا اليوم إلا أن تحس بأنها تقدم خدمات تفيد المجتمع وتبعد أطفالا آخرين عما حدث لها في الماضي، فالقارة السمراء التي تنحدر منها لا تزال تحوي «رجالا نافذين يشترون من الأسر الفقيرة فلذات أكبادها بمبالغ زهيدة ليستعبدوهم. سأكون في قمة السعادة إذا أسهم كتابي هذا في تنوير الرأي العام بفداحة هذا الأمر».