لا زالت باريس تعيش طقسا مشمسا و معتدلا يغري بارتياد الحدائق، المنتجعات والساحات العمومية. ولا يتردد عشاق الدراجات الهوائية، وخاصة دراجات velib، التي تمثل وسيلة نقل إيكولوجية ضمن مشهد باريس، من عبور أحياء المدينة بطلاقة بمنأى عن الزحمة التي تتسبب فيها السيارات والباصات. ويحلو لعشاق الليل النزول إلى حافتي نهر السين، يمينا أو شمالا، لدفع أقدامهم في اتجاه برج إيفل أو في اتجاه الخزانة الكبرى لفرانسوا ميتران. وفي المشوار ترافقك الأنوار الناضحة للقوارب السياحية التي تقوم برحلات مكوكية. قد يفضي بك الخطو إلى مكان يتجمع فيه عشاق رقص التانغو وهم يؤدون في الهواء الطلق رقصات باهرة، كما قد تستمتع بنغمات قيتارة اختلى عازفها في أحد الأركان على كرسي من الإسمنت. وإن كنت من عشاق آيس كريم بيرتيون الشهير، فعليك أن تتحلى بالصبر وتنتظر دورك في طابور يمتد على طول 500 م! ويمكنك أن تأخذ بعضا من الراحة للتفرج على سيولة الشارع في أحد المقاهي التي صنعت شهرة المدينة وإشعاعها الثقافي، مثل مقهى لوفلور، لي دو ماغو، لاغار الخ... وكما أشار رولان بارث في كتابه «إمبراطورية العلامات»، إن كانت الأبناك هي مكان لحقيقة المال، فإن المقاهي هي المكان المفضل لحقيقة الخطاب والقول، بصفته سجالا وإشاعة. هذه الأيام يدور الحديث في المقاهي عن الكواليس التي تطبخ فيها الجوائز الأدبية، وخاصة جائزة الغونكور. والسؤال الذي يستأثر بالحديث هو: «هل ستكون الجائزة هذا العام من نصيب الروائي ميشال ويلبيك، الذي أجمع النقاد على جودة روايته الجديدة «الخريطة والأرض»، الصادرة عن منشورات فلاماريون؟ هذه المرة، لم تصدر عن الكاتب «خرجات» استفزازية معادية للإسلام، بل خلد إلى الصمت حتى لا يفوت فرصة الحصول على الجائزة، حتى وإن أعرب الطاهر بن جلون، عضو الأكاديمية، عن استيائه من الرواية. عورات السيدة الأولى كما غدت حديث المقاهي والصالونات الباريسية السيرتان اللتان خصصتا لعقيلة الرئيس ساركوزي، كارلا بروني. الأولى «كارلا والطامعون» من توقيع مايكل دارمون (يعمل صحافيا بالقناة الثانية)، وإيف دوراي، وهو ناشر. والثانية بعنوان «كارلا، حياة سرية»، من تأليف بسمة لاهوري، التي عملت صحافية بأسبوعية «ليكسبريس». ما جاء في السيرتين لن يخدم بالكاد شعبية الرئيس الذي يوجد في ظرفية سياسية صعبة. أولى الحقائق التي كشفت عنها السيرة الأولى هو ما سمي ب«الإشاعة» لما راج خبر «خيانة» كارلا للرئيس. وقد أكد الكاتبان الخبر الذي حمل رشيدة داتي مسؤولية ترويج الإشاعة، بهدف مصالحة ساركوزي مع زوجته السابقة سيسيليا. «بعودة سيسيليا قد تسترجع رشيدة موقعها المفقود في الإليزيه»، يشير الكاتبان. حاكت رشيدة داتي هذا المخطط مع سوفي دوزال، الزوجة السابقة لفرانسوا ساركوزي، أخ الرئيس. وللتأكد من تصرفات السيدتين، استطاعت كارلا بروني أن تطلع على تقارير الشرطة في الموضوع. أما كتاب بسمة لاهوري فجاء بلا مواربة نقدا لاذعا للسيدة الأولى. إذ تحدثت عن امرأة مزيفة أجرت عملية تجميل على وجهها لما كانت مراهقة، وأعربت عن ميولات يسارية للتقرب من كبار الفنانين. أما صداقتها مع ميشال أوباما فليست بصادقة، وقد تحلت دائما بحس الانتقاء لعشاقها وأصدقائها مبغاة للشهرة والنفوذ. فوق العدالة لا زالت فضيحة إيريك فورث، وزير الشغل، وليليان بيتانكور، وريثة مستحضرات لوريال للتجميل، التي تحولت إلى دالاس على الطريقة الفرنسية، بدسائسها، ومفاجآتها، تستأثر برأي الشارع الفرنسي. في التاكسي، في الباص أو في المقاهي، يتساءل الفرنسيون عن إفلات وزير الشغل من عقاب العدالة. السؤال الذي تكرره الألسن: لماذا لا يقدم استقالته ويترك العدالة تقول كلمتها؟. فضيحة أخرى تورط فيها جان ليك دولاري، المنشط لبرنامج «ça se discute « الذي سرحته قناة «فرانس2» على خلفية استهلاكه الكوكايين. الرصيف ملكية الشعب باريس مدينة المظاهرات بامتياز. ولتقليد التظاهر تاريخ عريق، يتحول بموجبه الرصيف إلى ملكية للشعب. على طريقة «ما تقيش بلادي»، نظمت جمعية «SOS Racisme» بشراكة مع جريدة «ليبيراسيون» يوم الأحد بمسرح الشاتليه تظاهرة رافقها حفل موسيقي لمناهضة الميز ضد الأجانب، من طرد الغجر إلى التهديد بنزع الجنسية عن الفرنسيين من أصول أجنبية. وقد ندد المشاركون بهذه التصرفات الرجعية التي تمس بمبادئ الجمهورية. وتمهيدا لهذه التظاهرة وقع 40000 من المثقفين، الأدباء والفنانين، عريضة تندد بهذه الإجراءات. أما قاعة بيرسي للحفلات الموسيقية فشهدت تظاهرة موسيقية لفائدة المهاجرين السريين، شارك فيها الفنانون جاك هيجلان، عبد المالك، تيت ريد، جان شيرهال، وخصص ريعها لفائدة هؤلاء المهاجرين. ولا زالت مظاهرات وطنية أخرى قيد الإعداد. يشعر الفرنسيون اليوم بأن سمعة بلدهم تلقت في الخارج وفي الداخل ضربة موجعة نتيجة السياسة الاستئصالية لرئيسها. أيام التراث والذاكرة الانتقائية يوم 18 و19 سبتمبر كان موعد باريس مع الدورة 27 ل«الأيام الأوروبية للتراث»، التي عرضت على الزوار مجانا 1800 موقع أثري، شمل المتاحف، الجامعات، المراكز الثقافية الكبرى، وفتح بعضها للزوار لأول مرة. غير أن الأمكنة ذات الجاذبية القصوى تبقى البيوت التي عاش بها الكتاب والشعراء والفنانون الذين بصموا بنتاجهم تاريخ الثقافة الفرنسية. وهكذا يستقبلك بيت فيكتور هيغو الواقع بساحة ليفوج. كما يمكنك زيارة فندق لوزون الذي ألف به شارل بودلير أشعاره الهلوسية، والذي كان يستقبل فيه تيوفيل غوتييه، جيرار دو نيرفال وبالزاك، أو زيارة بيت مالارمي. ومن دون جدوى تبحث عن اعتراف بالأمكنة التي عاش فيها بعض الكتاب العرب أو أدرجتها الدولة أو وزارة الثقافة كجزء من التراث الإنساني كما هو الشأن بالنسبة لبيوت ومقابر بعض الكتاب والفنانين الأوروبيين أمثال شوبان. يبقى العزاء الوحيد هو اللوحة التذكارية التي علقت أمام العمارة التي عاش بها جبران خليل جبران بشارع لومين بالمقاطعة الرابعة عشرة ! ونتمنى أن لا تنسى باريس ذكرى الفقيد محمد أركون لتضع على الأقل لوحة تذكارية على بيته بشارع ماجينتا، كما هو الشأن بالنسبة لبيوت ومقابر بعض الكتاب والفنانين الأوروبيين أمثال شوبان، هينريك هاين، تريستان تزارا، صامويل بيكيت، أوجين يونيسكو، وإيميل سيوران...