ثلاث وعشرون قصة قصيرة تحمل عنوان (أنفاس مستقطعة) يقدمها القاص عبد الواحد كفيح إلى قرائه في أول تجربة له، صدرت عن وزارة الثقافة ضمن سلسلة الكتاب الأول ب74 صفحة من القطع المتوسط. عبد الواحد كفيح يلتقط اليومي المألوف ويعيد إخراجه بأسلوب مهووس باستغوار البسيط الموغل في العمق، بعيدا عن اللبس الذي أصبح يتسلل إلى أغلبية الكتابات القصصية، كما تسير الأحداث بين يديه بهدوء يشبه خرير ماء النهر على ارض منبسطة دون انحدارات وارتفاعات، يقصها سارد بارع ،تارة مطواع، وتارة حرون، وقدح زناده -كما مصباح علاء الدين- يلمع بالدهشة والغرابة. تحكي قصص المجموعة قضايا الطفولة، تقترب من براءتها وعفويتها، كما في قصة (صراع)، حيث اللعب المعقلن (هز، حط، هز، حط، هز حط) ص 49، ويبلغ الشغب ذروته حين نقرأ في نفس القصة (استجمع العصفور أنفاسه ومن بين أصابع سليمان انفلت ثم طار) تقترب نصوص المدونة من الأمكنة السفلى، ومشاكل كائناتها المهمشة، التي تدفعها الدونية إلى التمرد على واقعها بطرقها الخاصة، وقد يكون هذا التمرد سخرية سوداء، وقد يكون ضحكا كالبكاء، كما في قصة (مسعودة) التي تنرفزها شيطنة الصغار بمن فيهم أحفادها (فكانوا يثيرون أعصابها مرددين النشيد اليومي، مسعودة كالتها الدودة، مسعودة مسعودة) ص 40. في قصة النحل، مثلا، حيث تحول هذه الحشرات النافعة إلى قناع يعبر عن الثورة ضد الاعتداء على الحقوق، وكل محاولة لتخديش الحرمات، ف(بطش) الصلب والخشن مع محيطه والنحل حتى، ريثما ينفجر النحل ضد جبروته ويكون مصيره (أرخبيل من الفيالق شمرت على ساعد الجد، فراحت تغازله بلسعاتها وتمت بالجملة، لكنها تتلذذ في لسعه قبل الموات) ص 9 وتأتي قصة (المقبرة) لتلامس مكانا طالما تم التغاضي عنه في الكتابات القصصية، رغم ما يحبل به من سحر وأسطرة واندهاش رهيب، ربما قد يكون الدافع لدونية المقبرة في الكتابة كونها تذكر بالموت، هذه التيمة التي طالما أرقت الإنسان منذ فجر التاريخ. نقرأ في ص 11(كلما دخلتها إلا وحضرني العالمان المتناقضان: الجنة والنار، فيستولي علي الذعر والخوف الرهيب) في (تابوت طائر) نقرأ في نهاية القصة (وصلت قافلة التوابيت الطائرة، وكان نصيب القرية منها واحد) ص 45، ولاشيء بعد ذلك سوى الموت ينظر في كفنه الأبيض (فبداخل التابوت وجدوا مظروفا وسع رسالة مكتوبة ببياض ناصع البياض) . وباعتبار القص جنسا مفتوحا، وقابلا للزواج الوثني مع بقية الفنون والأجناس، تقترب قصة (خراب حلقة) من مكان شعبي واحتفالي، كان وما يزال فضاء للتمسرح، والاحتفال، إنها مسرح من لا مسرح له، ومنبر من لا منبر له (في ساحة الحلقة، وضع صندوق خشبي كبير). (حالة استنفار) تفضح السلطة، المواطن المتواطئ المدسوس في كل مكان، كما تفضح شيخوختها وتآكل أساليبها، فالوليمة التي اعتقدها السيد القائد اجتماعا لتنظيم سري (وبعد استدعاء كبار رجال الدرب وأعيان المدينة بمن فيهم فقهاء البارحة، تبين أن الاجتماع كان عبارة عن وليمة لأعصاب البطن ليس إلا) ص 21. لم تكتف أنفاس كفيح بمشاكل شخصياتها وقضاياها الساخنة والمستفزة، بل اقتربت من المكان، باعتباره جزءا منها، يعاني منها وتعاني منه. ولأن أنفاس القص من زمن ولى، يشكل حضور الحنين إلى المكان قيمة مضافة في المجموعة، هناك أمكنة بعيدة في تلافيف الذاكرة، حيث يبدو الحنين ومقاومة انمحائها هي التيمة المهيمنة في علاقة القاص بها، وبذلك تعومل معها كفضاءات تحمل دلالات أعمق، وليس كجغرافيا، ومن أنماط الفضاءات التي وظفها القاص: فضاء المدينة، فضاء المقبرة، فضاء الأحياء والدروب، فضاء القرية.