- رصد التقرير الأول للمجلس الأعلى للتعليم اختلالات كثيرة، منها ضعف التحكم في الكفايات اللغوية لدى التلميذ المغربي، والأمر ينطبق طبعا على اللغة العربية. ما هي في نظرك العوامل الحقيقية التي أفضت إلى مثل هذا الوضع؟ يلزم التأكيد - في البدء- على أن الوضعية التعليمية في المغرب غير صحية، وأنها تستدعي تدخلا صادقا لا عاجلا، يتجاوز شعارات الاستعجال والجودة ومدارس النجاح (بالإكراه)...وغيرها من المفاهيم التي لا ولن تستمد -أبدا- قوتها من صوت صاحبها، إن غاب صدق معناها وصفاء لفظها، للتعامل مع تلك الوضعية ومع المدرسة كمؤسسة أسرية صغيرة تنهج أسلوب التربية القويم النقي، والنهج السليم الجلي من كل شوائب المخاتلات والمزايدات، لتحقيق ما تغيّاه المجلس الأعلى للتعليم والوزارة الوصية من تنمية بشرية عالية تساير التقدم العلمي والتقني، الذي عرفه عالم اليوم. أما والحديث عن اللغة العربية والعوامل التي أسهمت -وبشكل علني- في بلورة الضعف اللقني والقرائي للتلميذ المغربي فيها، فعديدة جدا، أستطيع أن أُجملها لكم في النقط التالية: أولها: المخطط الاستعجالي، الذي جاءت بنوده لتكرس -في نظري - قيم الارتجال- بالرغم مما ترفعه من شعارات وغايات تصعب على التحديد والضبط عدديا، فما بالك مضمونا- وإلا فما فائدة تعدد عناوين المقررات وطولها، والتلويح بالوحدات ومفاهيمها، غير المتاجرة بجيوب أبنائنا وآبائنا.... في الوقت الذي لازال التاريخ الحديث يشهد بالأثر المعرفي لأطر وكفاءات زمن الحبر والكراس؟؟ ثانيا: انعدام الرؤية الموحدة، إذ أن غياب التوجه والرؤية الواحدة والهدف الواحد يجعل من الفرد دائم التيه والضياع نفسيا ومعرفيا. والحال هذا ينطبق على التلميذ المغربي، الذي بات يقاسي مرارة الأفق المظلم، وغياب التحفيز العلمي والعملي، الذي -من المفروض - أن تنتج عنه مردودية معرفية آنية قبل أن تكون مستقبلية. ثالثا: غياب الرغبة، ففي ظل انعدام رغبة التلميذ في تنمية قدراته المعرفية والقرائية، والابتعاد عن منطق «المقابِل»، لا يمكن أن تُرْبَى ثقافته وتُزكّى مطالعاته، مهما «زوّقها» له أستاذه وقدمها له، فالتلميذ- على هذا الأساس - مطالب قبل أي وقت مضى بعقد مصالحة مع الكتاب العربي، وكسر حاجز الهجران، إذا ما أراد أن يثبت كينونته ووجوده، ويسترجع هيبته وهويته. وهنا تحضرني أبيات من قصيدة لعبد المعطي حجازي: «فالصوت إن لم يلق أذنا، ضاع في صمت الأفق ومشى على آثاره صوت الغراب». رابعا: ضغوطات المقرر، وتقييد الأستاذ بمفاهيمه، يفرضان على الأخير تقزيم أوقات النقاش والمحادثة، أو فتح أبواب التواصل الشفهي بينه وبين المتعلمين من جهة، وبين المتعلمين أنفسهم من جهة ثانية. وهذا مجرد غيض من فيض، لن يسعنا الحيز لوصف كل مجاريه وموارده. - تطرح أيضا مشكلة ازدواجية اللغة التي تحولت بالنسبة للتعليم المغربي إلى عائق، وتفضي إلى نقاشات يطغى عليها الإيديولوجي أكثر من العلمي، مع أنها مطروحة أيضا في دول أخرى كإسبانيا وبلجيكا وكندا، ومع ذلك فمستوى التعليم في هذه الدول حقق طفرات هائلة. كيف السبيل في نظرك لتحويل الازدواجية إلى عنصر إغناء بدل عنصر تفقير للتعليم المغربي؟ في حقيقة الأمر، لا أستطيع القول بإشكال «ازدواجية اللغة» أو «ثنائية اللغة» كما يحب البعض وصفها، إلا من باب طغيان الوارد على الأصل، أو الطارئ على الثابت، أي حينما تصبح اللغات في ذاتها غاية لا وسيلة للوصول إلى الهدف أو الغاية الحقيقية المتمثلة في فهم العلوم واستيعابها تمهيداً لتطبيقها والاستفادة منها. فلو وضعنا كل نظام لغوي في موضعه، واستعملناه بضرورته، لا بضرورة منطق التفتح والتعالي وتجاوز الانغلاق والتشدد، لكنا تغلبنا على المشكل. فبالرغم من اختلاف وتباين الدراسات والآراء إزاء «ثنائية اللغة» من حيث مدى تأثيرها سلبا أو إيجابا على تطور واكتساب اللغة عند التلميذ، تبعا لوجود الاختلاف بين الأنظمة اللغوية المستخدمة في كل لغة مثل مبنى الجملة والقواعد الصوتية وغير ذلك من المظاهر اللغوية، فإنني أرى أن الأمر لا يعدو أن يكون زوبعة فكرية تتوخى التضليل والتشويش على المسار التعليمي-التعلمي للتلميذ، فالله سبحانه وتعالى رزقنا نسقا عقليا مستعدا وقادرا على استيعاب مختلف الأنظمة اللغوية ابتداء من سن بعينها. لذا، كان السبيل الوحيد الذي يستطيع تحويل هذه الازدواجية من عنصر تفقير إلى عنصر إغناء للتعليم المغربي. - هناك على الساحة الثقافية والتربوية المغربية تياران، الأول يعتبر تعزيز حضور اللغة العربية في برامج التعليم هو مفتاح الحفاظ على الهوية، وتيار آخر يعتبرها عائقا للتحديث. والتجاذب بين التيارين أعطانا وضعا تعليميا مزدوجا: تعليم أساسي وثانوي معرب، وتعليم جامعي مفرنس. ألا يفرض هذا الانخراط في عصر تدوين جديد لترجمة العلوم والثقافة الكونية إلى اللغة العربية؟ كما سبق لي أن أشرت في السؤال السابق، هذا بالذات هو عين المشكل، فاللغة العربية هي القدر الديني والقومي والحضاري والثقافي لهذه الأمة المترامية، وهي لغة القرآن الكريم. وهي كذلك لغة التعليم والتعلم في المدارس على امتداد الوطن العربي، وفي مراحل التعليم المختلفة. لذا فإن إتقانها استماعا وتحدثا وقراءة وكتابة ضروري من أجل التعلم وتحقيق التقدم الحضاري والإبداع الفكري الذاتي والتماسك الثقافي والقومي للأمة العربية من المحيط إلى الخليج. والتاريخ لم يسجل قطُّ أن أمة حققت التنمية والتقدم الحضاري الحقيقي بلغة غيرها، لذا فاللغة الوطنية هي أس التنمية ودعامتها، وأنه لا يمكن –كما تؤكد ذلك دروس التاريخ العيني الملموس – توقع أي إنماء أو تحديث تربوي، أو علمي، أو ثقافي، أو اقتصادي، أو اجتماعي شامل، إلا باعتماد هذه اللغة الوطنية أداة رئيسة للتعليم، والتكوين، والبحث العلمي، والتواصل الثقافي، وتدبير شؤون المجتمع.... وهكذا، فقد أصبح جليا أن العالم لن يستمع إلى أمة تتحدث بلسان غيرها، كما قال الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران لشعبه المتعلم في تحذيره له من طغيان اللغة الإنجليزية. والحديث عن ضعف اللغة العربية يأتي في سياق زعزعة الروح العربية وتأكيد حاجاتها وحاجتنا الماسة إلى تمحيص وتشخيص علاقتنا بذواتنا أولا، ثم بثقافتنا وثقافة تكنلوجيا المعلومات ثانيا. أما إشكال التعليم المزدوج، ففعلا تجده يقف حجر عثرة في طريق التقدم المنشود، إذ كيف بطالب نشأ تربويا وتعليميا بلغة، وشبّ جامعيا على لغة أخرى، يستطيع مسايرة هذا التضارب حيث التشتت في المفاهيم والأفكار والمعلومات. فلا هذا التعليم فعال، ولا فرنسته كذلك، وإنما أرى أن الدعوة إلى تعريب العلوم دعوة موضوعية ومنطقية وعلمية فرضت نفسها اللحظة قبل أي وقت. - نلاحظ استفحال أفكار إقصائية في أوساط المتعلمين وبعض المدرسين، تصل حد الاستفزاز والتحرش المجاني، تنظر للغة العربية كلغة مستعمر، والمفارقة هي أن هؤلاء لا يجدون غضاضة في التحدث باللغة الإسبانية في مناطق واللغة الفرنسية في مناطق أخرى. ما هو تعليقك على هذه المفارقة؟ هذا الأمر نابع حقا من منطلقات فكرية إقصائية، ولوبيات عنصرية تسعى في الفرقة، والحوم حول حمى أمن البلد. كما أن هؤلاء دعاة على شفا جُرف هارٍ يتغيّون نشر مضامين إرث الحماية، والضرورة تقتضي التنبيه إلى أن ما يحاك ضد العربية داخل بيتها أقوى بكثير مما يحاك ضدها من خارجه. ثم إنه -في نظري- لا يمكن عقد مقارنة بين العربية والأمازيغية، ذلك أن تفاوت الامتداد التاريخي لكليهما يعطي للعربية حق العمادة. فما يربو عن خمسة عشر قرنا كلغة مكتوبة يكفي العربية كي تراكم رصيدا من أعظم الأرصدة الإنسانية في العلم والفلسفة والشعر. ثم على اعتبار أن اللغة من الدين، والحفاظ على اللغة حفاظ على الدين. وأرجو هنا ألا يفهمني فاهم بأنني معاد للأمازيغية. كلا، ولكنني أتكلم من باب إحقاق الحق. فالحق حق ولو كان مرا. لست ضد الفرنسية أو ضد الإسبانية. لكن بالنسبة لنا، هاتان اللغتان ليستا لغَتَيْ هوية، (وهي حقيقة) ولكنهما لغتا معرفة وتواصل مع الخارج، إذ مهما كانت هذه اللغات الأجنبية، فلا يمكنها أن ترتقي إلى مستوى اللغة الوطنية، لأن الفرنسية لغة هوية بالنسبة للفرنسيين، والإسبانية لغة هوية بالنسبة للإسبان، وكذلك العربية بالنسبة للمغاربة، ولا يصدق العكس طبعا. - أنت أستاذ مبرز في اللغة العربية. فإذا علمنا أن شهادة التبريز في هذا التخصص هو أمر جديد بالقياس مع تخصصات قديمة أخرى، كعلوم المهندس والعلوم الطبيعية والتربية البدنية، فما هي القيمة المضافة التي ينتظر أن يكسبها الأستاذ المبرز لتدريس اللغة العربية تحديدا؟ شهادة التبريز هي كفاءة علمية ومعرفية ينالها المبرز بعدما يكون قد حاز نصيبا من الشروط المهنية والنفسية والمعرفية المؤهلة والمحفزة بشكل مباشر على الانخراط القوي في عملية الإصلاح التي دعا إليها المخطط الاستعجالي. لكن أزمة نظام التبريز بالمغرب تعكس جليا أزمة المنظومة التربوية عموما، وخاصة في مجال الحكامة وترشيد الطاقات وحسن استثمارها.ففي الوقت الذي يتحدث الخطاب الرسمي عن دعم التفوق والتميز، خاصة في أفق تحقيق هدف تكوين عشرة آلاف مهندس سنويا، نجد الإدارة التربوية عندنا تستغني عن خدمات الأستاذ المبرز وتلجأ إلى مدرسي الابتدائي لتسند لهم أقسام الباكلوريا، كما هو الحال في أكاديمية وجدة، حسب بعض الدراسات والإحصاءات المتأخرة. وعليه، يمكن القول إن أهم قيمة يستطيع المبرز إضافتها لسلك التعليم بشعبة اللغة العربية هي قيمة «تحبيب المادة « للمتعلمين أولا، ومن ثَمّ، استثمار كل المؤهلات والتقنيات اللقنية والبيداغوجية المساهمة في إنجاح مشروع العمل بالكفايات ثانيا. وبالنظر إلى الواقع الذي يعيشه المبرز والمنظومة التعليمية بالمغرب بشكل عام، أستطيع الجزم بالقول إن المبرز لن يضيف شيئا مادامت مطالبه عالقة على باب التماطل والتجاهل الذي تمارسه المؤسسات الوصية. الأمر الذي من شأنه خلق التباس قانوني وتشريعي يضر بالوضع الاعتباري للمبرز، ويحرم المنظومة التعليمية الوطنية من الاستفادة بالشكل اللازم من قدراته، كما يحد من طموحه ويمنعه من الاستمرار في الترقي.