الكتب قوة لا يقهرها تعاقب الأزمنة ورفض الأنظمة، ولا اختلاف اللغات وتصارع الانتماءات.. هناك كتب كتبها أصحابها كمذكرات وتحولت إلى ملهمة للثورات، وكتب كانت مصدر شقاء أصحابها في حياتهم، لتصبح هي نفسها مصدر مجدهم وخلودهم.. وأخرى نشرت تنفيذا لوصية الوفاة وأضحت بعد نشرها شهادة ميلاد.. ونحن عندما نختار قراءة ثلاثين منها، فليس لأنها «الأفضل» أو لأنها «الأحسن».. بل لأنها الأكثر تأثيرا في تاريخ البشرية، فمن الدين والفقه، مرورا بالسياسة والاستراتيجية..وصولا إلى العلم والاقتصاد...احتفظت هذه الكتب دوما بوقع عظيم ومستمر في الحضارة والإنسان. كتاب «أصل الانواع» خلاصةَ تجربة 20 عاما من الأبحاث، صدر سنة 1859، يتكون من خمسة عشر بابا، أولها سماه داروين «التمايز تحت تأثير التدجين»، والثاني سماه «التمايز تحت تأثير الطبيعة»، والثالث: «النزاع من أجل البقاء»، أما الباب الرابع فسماه «الانتقاء الطبيعي والبقاء للأصلح»، إلى الفصل الخامس عشر.. وكل هذا بأسلوب غاية في البساطة والوضوح.. ونفذت أول طبعة من الكتاب في الحال، وهذا يرجع إلى اختلافها عن باقي النظريات العظيمة التي ظهرت عبر التاريخ، فهي لا تحتاج إلى معادلات رياضية معقَّدة أو إلى فروع من الكيمياء والفيزياء غير مفهومة للعامة ولغير المتخصصين. كانت نظرية داروين، في جوهرها، فرضية بيولوجية أبعد ما تكون عن النظريات الفلسفية. تقوم النظرية على أصلين، كل منهما مستقل عن الآخر: وُجِدت المخلوقات الحية في مراحل تاريخية متدرجة ولم توجد دفعة واحدة، وهذا الأصل من الممكن البرهنة عليه. هذه المخلوقات متسلسلة وراثيا، ينتج بعضها عن بعض، بطريقة التعاقب، خلال عملية التطور البطيئة الطويلة. تفترض النظرية أن كل مرحلة من مراحل التطور أعقبت التي قبلها، بطريقة حتمية، أي أن العوامل الخارجية هي التي تحدد نوعية هذه المرحلة، أما خط سيرها ذاته، بمراحله جميعها، فهو خط مضطرب لا يسعى إلى غاية مرسومة أو هدف بعيد. فى عام 1859م، كان الوسط العلمي في أوربا متشبعا بأفكار التطور وكانت مسألةَ وقت فقط، قبل أن يتوصل أحد علماء البيولوجيا إلى «نظرية التطور»، فقبل داروين، جاء باتيست لامارك، العالم الفرنسى الكبير، في القرن الثامن عشر، ليقول إن الكائنات تتغير باستمرار، بتأثير عوامل الطبيعة والتزاوج واستعمال الأعضاء أو إهمالها. نشأت الكائنات الحية الراقية من كائنات بدائية، خلال فترة زمنية طويلة جدا.. نشأت هذه الكائنات البدائية، بدورها، ذاتيا، من المواد الجامدة في فترة من فترات تطور الأرض. يحدث التطور -كما يرى لامارك- ببطء شديد ويستغرق زمنا طويلا. لم تضمحلَّ الأنواع وتنقرض، بل تغيرت تدريجيا وتطورت، ثم تحولت إلى أنواع جديدة.. كانت هذه الأفكار تلقى معارضة في الأوساط الشعبية، لذلك كان داروين مترددا في نشر كتابه «أصل الأنواع» وكان يعتبر نشرَه نظريتَه بمثابة اعتراف بجريمة قتل. لكنْ في عام 1859م، كان العالم أكثرَ تقبُّلاً لفكرة التطور من ذي قبل. الداروينية.. أتباعها ونقادها «الداروينية» مصطلح يطلق على مجموعة عمليات مستمدة من أفكار تشارلز داروين، أهمها تلك المتعلقة بالتطور والاصطفاء الطبيعي... يقترن مصطلح «الداروينية»، بشكل خاص، بفكرة التطور عن طريق الاصطفاء الطبيعي. فعمليات التطور التي لا تندرج في إطار الاصطفاء الطبيعي، مثل الطفرات الوراثية، لا تصنَّف ضمن «الداروينية». بدأت تأثيرات الكتاب تمتد إلى مجالات الأدب وعلم الاجتماع والديموغرافيا والاقتصاد والسياسة، لكون أهمية الكتاب تنبع من أنه يجب أن يُقرَأ من داخل تاريخ العلم ويجب على القارئ أن ينتج ما يسميه باشلار «القيم الإبستمولوجية للنظرية»، وهي فكرة التطور ذاتها، فداروين -في الباب الأول- نجده يحاجج أرسطو ولامارك، العالم الفرنسي الشهير، وهذا الجدل والمحاججة دليل على أن الكتاب إذا ما تم اجتثاثه عن تاريخ علمَي البيولوجيا والجيولوجيا فإنه يصير غيرَ مفهوم، فإذا كانت نظرية التطور متجاوَزة اليوم، فبفعل العلم الذي يعيش قطائع أصبحت متجاوَزة، منذ ظهور الثورة الجينية. في السوسيولوجيا، لا تفسر نظرية الارتقاء والتطور تطور الأحياء البيولوجي فقط، بل يمكن تطبيقها لفهم تطورات وتغيرات التجمعات الاجتماعية البشرية، فقد ظهر مصطلح «الداروينية الاجتماعية»، لأول مرة، عام 1879، في مقالة لأوسكار شميدث في مجلة «پوپيلار ساينس» (العلوم الشعبية)، ثم بقلم إميل غوتيي. إلا أن المصطلح لم يكن دارجا -في العالم الناطق بالإنجليزية- على الأقل حتى قام المؤرخ الأمريكي ريتشارد هوفستار، بنشر مؤلفه «الداروينية الاجتماعية في الفكر الأمريكي» (1944)، خلال الحرب العالمية الثانية، وتتميز الداروينية الاجتماعية عن نظريات التغييرات الاجتماعية الأخرى بكونها تستمد أفكار داروين من حقل عِلم الأحياء وتطبقها على الدراسات الاجتماعية. عكس هوبس، اعتقد داروين أن الصراع على الموارد الطبيعية جعل بعض الأفراد ذوي خصائص جسدية وعقلية معينة يتكاثرون أكثر من غيرهم، مما أدّى -بمرور الزمن- تحت ظروف محددة، إلى نسل مختلِف إلى درجة أنه يعتبر جنسا آخر... ادعى داروين أن «الغرائز الاجتماعية»، مثل «التعاطف» و«الإحساس الأخلاقي»، تطورت، أيضا، بواسطة «الانتخاب الطبيعي».. يقول داروين: «في مرحلة مستقبلية معينة، ليست ببعيدة، إذا ما قيست بالقرون، سوف تقوم الأعراق البشرية المتحضرة، على الأغلب، بالقضاء على الأعراق الهمجية واستبدالها في شتى أنحاء العالم. إذا كانت تأثيرات الداروينية على مختلف المجالات كبيرة، فإن الانتقادات التي وجهت لها كبيرة، أيضا، وبمختلف الحجج، فالإيمان بالارتقاء يمكن قبوله منطقيا، أي أن الأحياء تتطور. كما يسجل أحد العلماء أنه لا يوجد أدنى دليل على أن الأحياء تقفز من جنس إلى آخر، فزعانف السمكة لا يمكن أن تصبح جناحي طائر ولا ذراعي إنسان.. وكل ما نعرف من علم الوراثة هو أنه لا يمكنك أن تحصل على عين نصف مغلقة، أي أنه ما من تدرج نحو ظهور العين الكاملة... و«الجينوم»، بعد فك رموزه، يقض نظرية الارتقاء. وتدور المعركة حاليا في بريطانيا والولايات المتحدة خاصة، بين دعاة الداروينية ونقادها، خصوصا في مناهج التعليم، بشكل دفع كلا من جورج بوش -الابن، بصفته رئيسا، وسارة بيلين، بصفتها مرشحة للرئاسة، إلى إعلان معارضتهما لتعليم «الداروينية» في المدارس الأمريكية. إلا أنه يبقى موقفا شخصيا، ما دامت أصول المواقف المعارضة للنظرية ترجع إلى الدين، مما يجعل المحاكم الأمريكية غيرَ قادرة على إلغائها، تماشيا مع أحكام الدستور الأمريكي، الذي ينص على مبدأ الفصل بين الدين والدولة. شارلز داروين في سطور ولد تشارلز داروين في الثاني عشر من فبراير عام 1809م في «شرو سبوري» في إنجلترا، لعائلة علمية، والده هو الدكتور روبرت وارنج داروين وكان جده إرازموس داروين عالما ومؤلفا بدوره.. كان داروين، منذ طفولته، منصرفا إلى عالم الطبيعة، متأملا له، جامعا لنماذج الحشرات والنباتات.. وفي سن ال16، انتقل داروين إلى «أدنبرة»، لدراسة الطب، وهي الدراسة التي لم يُحبَّها حينها، ولم يستمرَّ فيها سوى عامين. وعلى الرغم من عدم حبه دراسةَ الطب، فإنه أظهر ندما بعد ذلك على عدم إكماله لها، نظرا إلى ما كانت ستوفره له من معرفة بعلم التشريح. بعد أن ترك داروين دراسة الطب، رأى والده أن يُلحقَه بدراسة اللاهوت فرفض، انتقل داروين إلى «كمبريدج» في أوائل عام 1828م وقضى في هذه المدينة ثلاث سنوات، وعمل على الإطلاع وتثقيف نفسه في العلوم الخاصة بالطبيعة، وتخرج من جامعة «كمبريدج»، حاملا درجته العلمية عام 1831م. عمل داروين على دعم حبه للعلوم الطبيعية، من خلال الإطلاع وخوض تجارب عديدة، فعمد إلى قراءة أخبار همبولت، الفيلسوف والرحالة الذي قام بالعديد من الأبحاث الخاصة بعالم البِحار، بما فيه من نباتات وحيوانات. كما أضاف له الكثير صداقته مع أستاذ متخصص في علم النباتات يدعى هنسلو، إلى جانب انضمامه إلى نادي الذواقين، حيث كان أعضاء هذا النادي يقومون بإجراء التجارب على النباتات والحيوانات من أجل ابتكار وصفات جديدة لطهي الطعام، غير ما هو متعارَف عليه. فى عام 1831م، تلقى شارلز داروين من صديقه هينسلو خطابا يعرض فيه وظيفة باحث وجامع بيانات علمية عن الأحياء، على متن السفينة «بيغل» (beagle)، التابعة للملكية البريطانية... أصيب والد تشارلز داروين بالهلع والخوف على مستقبل ابنه عندما علم بهذا الخطاب، لكنْ بمساعدة أحد الأقارب، تم إقناع الأب فأعطى موافقته على قبول هذه الوظيفة. استطاع داروين التعرف على «الميغاثريوم» (حيوان منقرض) عن طريق سن في المدرع العظمي الذي بدا له للوهلة الأولى وكأنه نسخة عملاقة من المدرع ذي النسخة المحلية. جلب اكتشاف داروين هذا اهتماما كبيرا عندما عادوا إلى بريطانيا.