إذا استثنينا ضغوطات لوبيات اقتصادية وسياسية تعمل من أجل فرض نوع من الوصاية على مسار العلاقات المغربية الفرنسية، فإن واقع الحال يؤكد أن هذه العلاقات تبدو خالية من الحذر، وتتجه أكثر إلى بناء الثقة. وكما أن المغاربة يعتقدون أنه لا يوجد ما يبرر العودة إلى علاقات نصف جيدة ونصف سيئة، طالما أن هذه الأوضاع أصبحت متجاوزة منذ سنوات عدة، فإن الفرنسيين، بدورهم، يلوذون إلى الاحتماء برؤية مستقبلية ستكون وقائعها حاضرة في اللقاء رفيع المستوى، الذي سيجمع مسؤولي البلدين مطلع الشهر القادم في باريس. ثمة قضايا مشتركة ذات أهمية استراتيجية تحتم أن تنحو العلاقات بين فرنسا والمغرب في الاتجاه الطبيعي الذي يفرض المزيد من التعاون والتنسيق والتفاهم، سواء على الصعيد الثنائي في المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية، أو في النطاق الإقليمي، بما يعيد الحيوية إلى منظومة الاتحاد من أجل المتوسط، وكذا المحور المغربي الأوربي، في ضوء إفادة الرباط من «الوضع المتقدم» في علاقاتها والاتحاد الأوربي، تنضاف إلى ذلك الهواجس المشتركة في إيلاء المزيد من الاهتمام بالأوضاع في القارة الإفريقية، وخصوصا مراكز النفوذ التقليدي لفرنسا. ربما أنه لا توجد عاصمة أوربية تعرضت سياستها المتعلقة بتطورات قضية الصحراء، كما حدث لباريس التي كانت ولازالت صريحة في دعمها الموقف المغربي، سيما بعد طرح خطة الحكم الذاتي التي رأت أنها الحل الأنسب لإنهاء التوتر القائم، وبالقدر نفسه، فإنها سعت دائما إلى إقامة نوع من التوازن في علاقاتها مع كل من المغرب والجزائر، كي لا يفهم أن تميز هذه العلاقات مع المغرب سيكون على حساب الجزائر، أو أن رغبتها في تمتين الروابط مع الجزائر سيكون على حساب المغرب. لقد ذهب الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بعيدا في إبراز هذه الثنائية ذات منطلقات مبدئية، وقد وصف الأقاليم الصحراوية بأنها امتداد جنوبي للمغرب، ما حذا إلى تعرضه إلى المزيد من الانتقاد، في فترة كانت تتوق فيها باريس إلى الانفتاح على الجزائر. والحال أنه إذا كانت هناك دولة أكثر إلماما بخلفيات وتطورات ملف الصحراء، فهي فرنسا، المحتل السابق لمنطقة الشمال الإفريقي، وبالقدر نفسه إذا كان هناك من جهة على اطلاع واسع بكل جوانب الأزمات والخلافات المغربية الجزائرية، منذ ما قبل استقلال هذه الأخيرة، فهي الدولة الفرنسية التي رسمت خرائط المنطقة على مقاس طموحاتها غير المشروعة في تلك الفترة. قد يجوز افتراض أن المغرب ظل من بين دول قلائل لا يرغب في أن يجعل من علاقاته مع باريس محط جذب وتجاذب، يقينا منه أن التطلع إلى المستقبل وحده يجنب هذه العلاقات الانحدار نحو المواقف الانفعالية. بيد أنه حين أقر يوما بمنع احتكار معاملاته التجارية مع فرنسا وأبدى انفتاحا أكبر على شركاء أوربيين آخرين، مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وبريطانيا وألمانيا، كان مهتما بأن يجعل من المنافسات على الأسواق قضية محورية، تساعد في توجيه المعاملات نحو المردودية المنتجة. وكما دخلت الاستثمارات الإسبانية والإيطالية وغيرها الأسواق المغربية عبر تنويع الاستثمارات، فإن ذلك لم يكن يهدف إلى التقليل من حظوة وفرص الفرنسيين، ولكنه منطق الشراكة المتكافئة يفرض نفسه على المغاربة والفرنسيين على حد سواء. وتأبى باريس في غضون تطورات متلاحقة إلا أن تنحو في الاتجاه نفسه، حين طرحت مشروعها حول الاتحاد من أجل المتوسط الذي يفسح المجال أمام شركاء أوربيين ومغاربيين للاندماج في المشروع المتوسطي الذي يكفل تحويل الفضاء المتوسطي إلى بحيرة أمن وسلام واستقرار وتعايش، وتحديدا من خلال إقامة المشروعات الاقتصادية الكبرى التي تصمد في وجه الهزات السياسية، مهما كان نوعها. غير أن ذلك يبقى رهن الدفع قدما بالعمل من أجل انتفاء أسباب التوتر. فالاقتصاد يكفل الاستقرار، لكن الاستقرار يحتاج دائما إلى سيادة أجواء الثقة التي تخدشها أحيانا مبادرات فردية أو ضغوط سياسية صغيرة تحاول التنكر لكل ما أنجز. لا يطلب المغرب صك غفران من أحد، خصوصا في رهاناته من أجل تحسين سجله في قضايا احترام حقوق الإنسان. لكنه في الوقت ذاته لا يستسيغ أن تصبح هذه الالتزامات مطية لخنق الأنفاس، كلما اقتربت استحقاقات ومواعيد. وفي تجربتي البلدين في هذا المجال ما يغني عن السؤال، فالمغرب آمن عن طواعية أن مكانه الطبيعي في جغرافية أوربية، لا يكمن فقط في ردم الفجوة بين الشمال والجنوب، وإنما من خلال تبني الدفاع عن قيم كونية أهلته ليصبح شريكا متميزا يحظى بتقدير الاتحاد الأوربي. وهو من خلال دعمه للمنظومة الجديد للاتحاد من أجل المتوسط، لا يلتفت إلى الشمال فقط، وإنما يرهن نظرته أفقيا وجنوبيا، أي من خلال إعادة تفعيل الاتحاد المغاربي وتمكين دول الشمال الإفريقي من الاضطلاع بدور حيوي في هذا المسار، وكذا عدم إغفال رهان المساعدة في التنمية من أجل نقل دول امتداده الجنوبية إفريقيا إلى مصاف تليق بالكرامة ورغد العيش والإنصاف. وبالرغم من أن اللقاء المغربي الفرنسي يكاد ينحصر في دراسة القضايا والملفات الثنائية ذات الحمولة الاقتصادية والتجارية والثقافية، فإن جوانبه الإستراتيجية تكمن في إعادة تغليب حجم التحديات من خلال إقامة تكتل مواز للاتحاد الأوربي في منطقة الشمال الإفريقي، حيث يظل الاتحاد المغاربي ذوالأبعاد الإستراتيجية خيارا لا بديل عنه. ومسؤولية باريس والرباط حيال هذه القضية تظل من النوع الذي لا يقبل التجزئة بين ما هو ثنائي وما هو إقليمي. وإذ يجدد المغرب سياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر، فإنه يفعل ذلك بوازع الضمانات المستقبلية التي تتيح للمنطقة المغاربية برمتها أن تتنفس هواء نقيا في عصر التكتلات. ودور فرنسا، ليس كما يتصوره البعض، مجرد توجه للحفاظ على نوع من التوازنات، فهو يكتسي أهمية من توازن أشمل بين عالمين: المنطقة المغاربية والفضاء الأوربي.