هناك مفارقة غريبة لا أجد لها تفسيرا، وهي كيف أن بعض مدراء وسائل الإعلام في فرنسا يعانون من مشاكل مادية كبيرة، لكنهم بمجرد ما يأتون إلى المغرب يحققون أرباحا خيالية. وعندما يشعرون بأن أرباحهم التي يحققونها في المغرب مهددة بالتراجع يجندون بعض المنابر الإعلامية الفرنسية، التي لديهم فيها معارف، لكي تهبّ لنجدة مشاريعهم الإعلامية في المغرب بمقالات تقدمهم كآخر معاقل حرية التعبير في هذا البلد. من هذا المنطلق، يمكن أن نقرأ الهجوم الأخير الذي شنته جريدة «لوموند» الفرنسية ضد الصحافة المغربية التي ليست مستقلة في رأيها، بل الحصن الأخير المستقل في المغرب هو مجلة «تيل كيل» و«نيشان». ولكي نفهم هذا الإقصاء المتعمد لكل الجرائد والمجلات المغربية الأخرى التي ليست مستقلة حسب «لوموند»، وإعطاءها الأصل التجاري للاستقلالية لمقاولة إعلامية واحدة، يجب أن نبحث عن العقل المدبر الذي يحرك الخط التحريري لهاتين المطبوعتين ويتحكم في مصيرهما المالي. دعونا نوضح بالأرقام والأسماء كيف أن اللعبة كلها ليست سوى لعبة تجارية تقدر أرقامها بالملايير، ولا علاقة لها بحرية التعبير أو الاستقلالية أو غيرها من الشعارات البراقة التي ترفعها «لوموند» في الوقت الذي يرى فيه العالم بأسره كيف أن هذه الجريدة نفسها عاجزة عن الدفاع عن استقلاليتها وخطها التحريري، بعد وضعها في المزاد العلني ودخول ساركوزي وقصر الإليزيه على خط المفاوضات حول شرائها. حكاية «جون لوي سيرفان شرايبر»، مالك أغلبية أسهم مجموعة «تيل كيل» عبر زوجته اليهودية المغربية «بيرلا شرايبر»، مع المغرب عجيبة وغريبة. ففي الوقت الذي فشلت فيه مشاريعه الإعلامية مع تجربة «ليكسبانسيون» في أوربا الشرقية، وتكبد خسارة مالية مهمة، جاء إلى المغرب واشترى أسبوعية «لافي إيكونوميك» من مالكها الأصلي اليهودي «إيرزوك»، وحولها إلى أسبوعية اقتصادية تطمح إلى التأثير في صناع القرار المغربي. وفي خضم بحثه عن خط تحريري مزعج لنظام الحكم على عهد الحسن الثاني، كان «شرايبر» يفكر في خلق طاقم صحافي على المقاس أو، كما كان يسميه في جلساته الخاصة، «عجينة قابلة للتشكيل». ولذلك جمع حوله طاقما صحافيا جاءت أغلب أسمائه من قطاع البنوك، فأحاط نفسه بعلي عمار وأبو بكر الجامعي وجمال براوي. وكانت لهؤلاء الصحافيين حظوة خاصة عند «شرايبر»، بحيث كانوا لا يتحرجون من الدخول عليه في مكتبه حتى عندما يكون الضوء الأحمر مشتعلا فوق باب المكتب. كانت فلسفة «شرايبر» هي صناعة صحافيين تابعين له مائة في المائة، وكانت لديه طريقة جهنمية في إقناع من يشتغلون إلى جانبه بأنهم الأفضل بين كل الآخرين، وأن الجريدة التي يصنعونها هي الأجود بين كل الجرائد المغربية. وهذا بالضبط ما تريد «لوموند» اليوم أن تقنع به قراءها الذين لا يعرفون شيئا حول المغرب وصحافته، بخصوص مجموعة «تيل كيل». وستعرفون فيما بعد سبب هذا الإشهار الفرنسي لهذه المجموعة المغربية الفرنسية في هذه الظروف بالضبط. والواقع أن «شرايبر» استطاع أن يصنع من «لافي إيكو» أسبوعية اقتصادية ذات حضور وازن، مستفيدا من الدعم السخي الذي منحه إياه صديقه القديم «أندريه أزولاي» الذي تعرف عليه منذ كان أزولاي مجرد موظف صغير في بنك «باري با» قبل أن يتم طرده، والذي أقنع رجال أعمال مغاربة كثيرين بدعم أسبوعية «شرايبر» بالإشهار. بدأت أسبوعية «شرايبر» تزعج الحسن الثاني فعلا، خصوصا وأن موقفها في قضية الصحراء لم يكن واضحا، فضلا عن حديثها المتواصل عن التطرف الإسلامي في المغرب ومعاداة السامية. وكان البصري يتساءل في صالونات الرباط عن سبب حديث «شرايبر» عن التطرف الإسلامي في الوقت الذي كان فيه الجميع يعرف أن الإسلاميين يوجدون داخل «المرميطة» كما كان يقول، أي أن النظام كان بصدد هضمهم وإعدادهم للدخول في الحياة السياسية والنيابية، وهو ما حصل فعلا مع العدالة والتنمية. وفي كل مرة، كان البصري، الذي كان يجمع بين الداخلية والإعلام، يطلب من «أزولاي» أن يتحدث مع صديقه لكي يلين مواقفه تجاه المغرب ونظامه، وكان هذا الأخير يعده بإيصال الرسالة. لكن الأمر ظل على ما هو عليه. «شرايبر» كان، في نظر النظام، يأكل الغلة ويسب الملة، فقد كان يحقق عائدات خيالية بفضل الإشهار الذي يجنيه من الشركات والمؤسسات العمومية، وفي مقابل ذلك كان يهاجم النظام ومؤسساته كل أسبوع. إلى اليوم الذي قرر فيه البصري أن يعتمد على نفسه وعلى أجهزته لكي يتخلص من مسمار حجا الفرنسي الذي أصبح يؤلم قدم النظام، خصوصا وأن هذا المسمار كانت له امتداداته داخل مصادر القرار الفرنسي بباريس، وتحول مع الوقت إلى سيف مسلط على رقبة المغرب. خروج «شرايبر» من مملكة الإعلام المغربي المؤثر جاءت على يد موظفة بسيطة في قسم الأرشيف، استطاع البصري أن يخترقها عبر أحد رجاله. والضربة القاضية كانت هي صدور أحد أعداد «لافي إيكو» بخارطة للمغرب بدون صحرائه. أول المتصلين بشرايبر كان هو «أزولاي»، مستشار الحسن الثاني، الذي كان يوشك أن يخرج لشرايبر من سماعة الهاتف. فقد طلب منه البصري أن يتصل بصديقه لكي يبلغه غضب السلطات العليا في البلد إثر هذا الموقف العدائي لجريدته ضد وحدة المغرب. فطلب «شرايبر» مقابلة البصري لكي يشرح له ما وقع، فرفض البصري الأمر وطلب من أزولاي أن يبلغ صديقه بأن أمامه خمسة عشر يوما لكي يبحث عن «الشاري». وإذا عجز عن إيجاد مشترٍ، فإن البصري سيتكفل بالبحث عنه. لم يكن أمام «شرايبر» من حل آخر سوى الرضوخ لرغبة البصري، فباع الأسبوعية إلى ثلاثة شبان مغاربة أسسوا شركة تكفلت بشراء المطبوعة بمبلغ 17 مليار سنتيم، مع الاحتفاظ لسيرفان شرايبر براتب شهري قدره سبعة ملايين سنتيم طيلة ثلاث سنوات ودفع كراء الفيلا التي ظل يقيم بها طيلة هذه المدة. عندما انتهت الثلاث سنوات، جمع «شرايبر» الملايير التي ربحها من وراء صفقة «لافي إيكو» في حقائبه وغادر المغرب شبه مطرود من الباب. لكنه ظل يحمل في قلبه آثار «الشمتة»، فقرر أن يعود إلى المغرب من النافذة لكي ينتقم من النظام السياسي الذي انتزع منه سوطا إعلاميا خطط لاستعماله لتغيير المعطيات السياسية في البلد والتأثير على الرقعة الاقتصادية لصالح «لوبي» صديقه أزولاي الذي كان يستحيل أن يضع مستثمرٌ أجنبي رجليه في المغرب دون مباركته. وربما لهذا السبب ستفهمون لماذا لم تجرؤ مجموعة «تيل كيل» منذ صدورها وإلى اليوم على انتقاد مستشار الملك أزولاي ولو بنصف كلمة، مع أنها لا تفوت فرصة لانتقاد الملك وجميع رجاله. وفعلا، نجح «شرايبر» في العودة إلى المغرب عبر نافذة «مجموعة تيل كيل»، ووجد في تلميذه السابق، بنشمسي، الرجل المناسب ليكون سوطه الذي يجلد به النظام السياسي أسبوعيا في أكثر مناطقه إيلاما. ورغم أن هذه المجموعة الإعلامية ظلت تقتات من يد الشركات العمومية ومؤسسات الدولة وبنوكها، فإن ذلك لم يمنعها من أكل الغلة وسب الملة، تماما كما كانت تصنع «لافي إيكو» على عهد «شرايبر». فكان طبيعيا أن تقرر المؤسسات الحكومية والعمومية أن تغلق صنبور الإشهار، خصوصا عندما فهم الجميع أن «شرايبر» يلعب معهم لعبته القديمة بالأساليب نفسها، لكن بعناوين مغايرة. عندما فهم «شرايبر» أن مشروعه في المغرب أصبح مهددا بالإفلاس، بدأ يبحث عن جهة تشتري منه. لكن الرجل فتح بطنه على مصراعيها، معتقدا أن مجموعته تخيف جهات كثيرة في الدولة إلى درجة أنه اعتقد أن بإمكانه الحصول على أي سعر يطلبه، فسوطه الإعلامي لا يقدر بثمن. وكم كانت صدمة الرجل كبيرة عندما اكتشف أن عرضه لا يغري أحدا، خصوصا وأن المشاكل المادية التي بدأت تعاني منها المجموعة كفيلة بتهديد مصيرها بدون حاجة إلى اللجوء إلى شرائها. ومن هنا جاء مقال «لوموند» الذي يلمع غلاف مجلتي «مجموعة تيل كيل»، أي أنه يلمع، في الواقع، مجلتي «شرايبر» الذي لديه صداقة قديمة مع مدير «لوموند». إن كل هذه الحرب الفرنسية المفتوحة ضد المغرب وصحافته الوطنية باسم الاستقلالية والدفاع عن حرية التعبير، والتي يقودها «شرايبر» داخل المجلات والجرائد الباريسية، ويعرف كواليسها جيدا صديقه «أندريه أزولاي»، ليست في حقيقة الأمر سوى مزايدة على النظام ومؤسساته من أجل فرض صفقة مالية مربحة لمجموعة «شرايبر». وإذا كان قد أجبر قبل عشرين سنة على بيع أسبوعية بمبلغ 17 مليار سنتيم، فلكم أن تتخيلوا المبلغ الذي سيطالب به عن طواعية لكي يبيع مجموعة اليوم. عندما نتحدث عن الاستعمار الاقتصادي الفرنسي للمغرب، فإننا غالبا ما ننسى أن هذا الاستعمار لم يكن لينجح لولا وجود استعمار إعلامي فرنسي للمغرب. وهذا الاستعمار، الذي لديه امتدادات داخل رؤوس أموال بعض المؤسسات الإعلامية الفرنكوفونية المغربية، لديه طابور خامس يحمي مصالحه داخل بعض مصادر صناعة القرار الاقتصادي. تلاميذ «سيرفان شرايبر»، الذين عجنهم منذ البدء وشكلهم على يديه، استطاعوا أن يجدوا لهم موطئ قدم داخل وسائل إعلامية مغربية مختلفة. وهؤلاء لا يترددون في إخراج أنيابهم لإخافة كل من يحاول اختراق طابورهم وتفكيك خطابهم وفضح عمالتهم للأجنبي على حساب مصالح الوطن. لحسن الحظ أن هذا السرطان لازال في مراحله الأولى، بحيث يمكن اقتلاعه بجلسات علاج بالشيميوتيرابي قبل فوات الأوان.