المغرب يعاني اليوم من فراغ فظيع في الزعامات الكاريزمية. وباستثناء الجماعات الدينية والصوفية المنغلقة على نفسها أو التي أغلق عليها، فإن أغلب المغاربة لا يدرون ما يفعلون. الأحزاب السياسية تعيش خريف أيامها، وزعماؤها يشبهون جثثا محنطة لفراعنة ماتوا قبل آلاف السنين، ولم تبق سوى ملامحهم الباهتة، إنهم زعماء لا يفعلون أكثر من انتظار الموت لكي يغادروا العالم بصفة زعيم حزبي. والمثقفون تراجع دورهم بشكل مخيف، إلى درجة أن لا أحد أصبح يذكر اسما معينا يمكن أن يكون له تأثير قوي في حياة المغاربة. وثقة الناس في المؤسسات أصبحت تلامس الصفر، إلى درجة أنه لو تم تنظيم انتخابات جديدة من دون ضغوط ومن دون استعمال المال لكانت نسبة التصويت أقل بكثير من نسبة انتخابات 7 سبتمبر. الناس اليوم ينتظرون عودة سيدي عبد الرحمن المجدوب من بطن التاريخ لكي يرسم لهم علامات على الرمل كأنه يقرأ الكف، ويشتم الواقع والناس والنفاق والجبن والجبروت في بضعة أبيات من أشعاره التي تشبه غرز المسامير في الجسد. يتمنون أن يعود إليهم هذا الرجل ويردد على مسامعهم ما قاله قبل مئات السنين وكأن المغرب لم يتغير قيد أنملة. الناس اليوم يحنون إلى تلك الأيام التي كانت أغنية من ناس الغيوان أو جيل جيلالة تبدو وكأنها ستقلب النظام مباشرة بعد نهاية السهرة، أو تلك الأيام الساحرة التي كان بضعة طلبة يجتمعون خلالها في غرفة مغلقة ويتحدثون في السياسة همسا، ويبدو لكل واحد منهم أنه قادر على القيام بانقلاب بمجرد أن يخرج رأسه من النافذة ويصرخ في الناس "أفيقوا من سباتكم". يشتاق الناس إلى كل شيء تقريبا. إلى التلفزيون بالأبيض والأسود، والصور الفوتوغرافية التي يلتقطونها وهم يمسكون زجاجة الكوكاكولا كأنهم يلتقطون صورة إلى جانب صاروخ، والسيارات العتيقة التي كان ركوبها يشبه امتطاء صحن فضائي، وحكمة الشيوخ الذين كان العمر يزيدهم عزا وسؤددا، وليس كما اليوم يصطفون أمام صناديق التقاعد مثل كائنات زائدة. يشتاق الناس إلى السكيتشات التلفزيونية الساذجة التي كانت تقتل الناس ضحكا، لأن الضحك كان يخرج من القلب وليس من التلفزيون، وإلى تلك الأيام البهيجة التي كان فيها أفراد الأسرة يجتمعون حول راديو عتيق يشبه صندوق الساحر وهم ينصتون إلى الأخبار كأنهم ينصتون إلى تراتيل مقدسة، وتنتفض قلوبهم كلما سمعوا اسم أو صوت زعيم في صوته نبرة صدق. في كل بلدان الله، وليس في المغرب فقط، يريد الناس أن ينقادوا وراء رجال أقوياء وحكماء، بل أن ينقادوا وراء أي رجل صلب الشكيمة حتى لو كان نصفه بشرا ونصفه شيطانا. منذ بطن التاريخ بحث الناس عن الكاريزما والشخصيات التاريخية التي ينقادون وراءها ويحاربون من أجلها أو من أجل المبادئ التي تدعو إليها. ومنذ أن انتهى زمن الأنبياء، صنع الناس لأنفسهم أنبياءهم. سار الناس وراء هتلر وموسوليني ونابليون وفرانكو ويوليوس قيصر وجنكيز خان وماو تسي تونغ وستالين ثم شتموهم. وسار آخرون وراء رجال مختلفين مثل صلاح الدين الأيوبي وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي والأمير عبد القادر الجزائري وباتريس لومومبا وتشي غيفارا ونيلسون مانديلا من أجل أن يغيروا العالم قليلا، فازداد العالم سوءا لأن المجانين هم الذين يحكمونه وليس العقلاء. في ظل فراغ الزعامات يمكن أن يظهر أشخاص يجرون خلفهم أفواجا من اليائسين وأصحاب المصالح. يمكن أن يكون فؤاد عالي الهمة زعيما لا يشق له غبار، ويمكن أن يتحول شاب اسمه الماجدي إلى شخصية قوية جدا في البلاد. لم تعد القوة تأتي من الشعب ولا من النضال ولا من التضحيات. القوة والكاريزما صارت تأتي من القرب من مراكز النفوذ. الناس الذين ضحوا بكل شيء من أجل بلدهم ينزوون في صمت أو غادروا الحياة وكأنهم لم يكونوا يوما. الناس الذين حلموا بمغرب أفضل وقدموا دماءهم وأعمارهم قرابين لهذا الحلم، صاروا أحجارا منسية على أطراف الوطن، وعوضهم ظهر أناس سطع نجمهم فجأة كما تظهر النجوم الهاربة في السماء، التي تختفي بمجرد أن تلمع.