هناك جرائد احترفت، منذ صدورها، تقديم أخبار الأمس البائتة إلى قرائها. هذا شأنها. لكن المشكلة أن هذه الجرائد اكتشفت هواية جديدة هي تكذيب الأخبار الطرية والصحيحة التي تقدمها «المساء» إلى قرائها. وكل مرة نسبق فيها إلى نشر خبر جديد تتبارى هذه الجرائد حول من سيسبق إلى تكذيبه. فيتصلون بالمعنيين بهذه الأخبار ويأخذون منهم تصريحات تكذب ما نشرناه. هذه وظيفة قديمة في المغرب اسمها «كاري حنكو»، ظهرت في مرحلة عرف فيها المغرب فورة في إنتاج فاكهة المشمش. فكان الصناع التقليديون يستعملون عظامه بكثرة، فأصبح عظم المشمش أهم من المشمش نفسه. فصاروا يكترون أناسا لفلق المشمش بأسنانهم واستخراج العظم ورمي الثمرة. ومن هنا جاء اسم وظيفة «كاري حنكو». وطبعا، بعد ظهور الجرائد في المغرب انتقلت مهنة «كاري حنكو» من المشمش إلى الصحافة، ويبدو أنه لا يزال أمامها مستقبل طويل. عندما كنا سباقين إلى نشر خبر المشاجرة التي حدثت بين مواطن وابن وزير الاتصال خالد الناصري أمام البرلمان وتدخل الوزير شخصيا لتخليص ابنه من قبضة الأمن، كنا نعرف أنه سيأتي في الغد من يكذب الخبر. وفعلا، قرأنا في جرائد الغد، وبعد ظهور شريط الحادث في موقع «يوتوب»، خبرا يقول، نقلا عن الناصري، إنه «لم يكن هناك لا مينوط ولا سكين ولا هم يحزنون»، وإن ما كتبناه ليس سوى اختراع لقضايا كاذبة، وإن ما وقع ليس سوى حادث بسيط مثل آلاف الحوادث التي تقع يوميا، وإن تدخله تلك الليلة لم يكن بصفته الوزارية وإنما بصفته أبا، وفوق هذا كله فالسيد الوزير ليس لديه الوقت للحديث حول هذه التفاهات لأن له أشياء أخرى أهم. ببساطة شديدة، فالسيد وزير الاتصال يتهم «المساء» بفبركة أخبار زائفة ونشرها بخصوص حادث شجار بسيط بين ابنه ومواطن وتحويل الحادثة التافهة إلى «حدث القرن» كما قال سعادته. بما أن سعادة وزير الاتصال قرر اتهامنا بالكذب، فالأمر يدعو إلى وقفة تأمل حتى نعرف الكاذب من الصادق. يقول سعادة الناطق الرسمي باسم الحكومة إنه حضر إلى مكان الحادثة في «نصاصات الليل» بوصفه أبا وليس وزيرا في الحكومة. وكل من رأى الشريط في «يوتوب» سيلاحظ أن السيارة التي ركنها خالد الناصري أمام البرلمان هي سيارة خالد الناصري الوزير وليس خالد الناصري الأب. وداخل تلك السيارة الوزارية هرب ابنه من مكان الحادث، بمعنى أنه استعمل سيارة حكومية لمصلحة خاصة. عندما نرى كيف قررت الحكومة البريطانية، هذا الأسبوع، حذف سيارات المصلحة بالنسبة إلى وزرائها من أجل خفض مصاريف الدولة، ثم نرى كيف يستعمل وزير في الحكومة المغربية سيارة المصلحة لقضاء مصلحة عائلية في منتصف الليل، نفهم الفرق بيننا وبين هؤلاء الأوربيين. ولعله من المستغرب أن يشهر خالد الناصري في وجهنا شخصية الأب التي ظهر بها في مكان الحادث، وينسى شخصية المحامي التي تعتبر وظيفته الأصلية. وربما تجنب الوزير إشهار هذه الصفة لأنه يعرف أحسن من غيره أن ما قام به، عندما هرب ولده من مكان الحادث دون المرور مباشرة إلى مخفر الأمن لتسجيل محضر، يسمى، في اللغة القانونية التي يجيدها السيد الناصري، «الهروب من مكان الحادث»، أو ما يسمى بالفرنسية délit de fuite. وهو عندما يقول إن الحادث عادي وتافه مثل آلاف حوادث السير التي تقع يوميا، فإنه يتجنب الحديث عن المساطر التي تتبعها الشرطة في مثل هذه الحوادث العادية والتافهة. ولذلك، فلنا أن نتساءل مع سعادة الوزير: هل من عادة الشرطة إطلاق سراح المعتدين في المغرب بمجرد وصول آبائهم إلى مكان الحادث؟ هل يستطيع أب أن يخلص ابنه من قبضة الأمن إذا ما ضبطوه متلبسا في حادث اعتداء على أحد المواطنين بسلاح أبيض أو «حديدة» أو قنينة غاز مسيل للدموع؟ الجواب هو لا، طبعا. لماذا، إذن، يريد الوزير الناصري إيهام الآباء المغاربة بأنه أصبح بإمكانهم تخليص أبنائهم في حالة اقترافهم لمخالفة وتهريبهم أمام أعين الأمن في سيارات المصلحة؟ أي درس في احترام المؤسسات والمساطر القانونية يعطيه هذا الوزير التقدمي إلى المواطنين، وهو يقفز على أبسط مسطرة مستعملا صفته الحكومية وسيارة الوزارة؟ مشكلة الناصري أنه يعتقد أن الصلح الذي تم التوصل إليه بين ابنه المدلل والطبيب يعفيه من المحاسبة على الأخطاء «الشكلية» التي ارتكبها في تلك الليلة. فحتى لو توصل الطرفان إلى صلح وتنازل الطرف المعتدى عليه للطرف المعتدي، فإن هذا لا يعفي الأب الوزير والمحامي السابق من احترام المساطر المتبعة بهذا الخصوص، والتي تسري على المغاربة يوميا. فصفته الوزارية يجب أن تجعله أحرص الناس على تطبيق المساطر، وليس أول «القافزين» عليها. بمعنى آخر، كان على السيد الناصري، بوصفه محاميا، أن يحضر كأب إلى مكان الحادث، وأن يمتنع عن مرافقة ابنه إلى البيت داخل سيارة الحكومة، وأن يقبل باعتقال ابنه والطبيب الذي تعرض لاعتداء هذا الأخير واقتيادهما داخل سيارة الشرطة نحو مخفر الأمن. وهناك ستنجر الشرطة محضرا بما وقع وتعطي الطرفين حرية التنازل أو متابعة بعضهما البعض أمام القضاء. هذه هي المسطرة القانونية التي خرقها سعادة المحامي ووزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة. وفوق هذا وذاك، يسمي ما وقع تفاهات ليس لديه الوقت للتحدث بشأنها. صحيح أن الحادث تافه، ولكن استعمال وزير لصفته الحكومية وسيارة المصلحة لحل حادث عائلي تافه، يجعله شيئا جديا بل وخطيرا. وإذا لم يكن لسعادة الوزير الوقت للحديث بصدد هذه التفاهات، فنحن لدينا الوقت الكافي لذلك، لأن ما قام به الوزير «التقدمي» مخجل فعلا، ولو حدث في دولة تحترم نفسها لكان مجبرا في الغد على تقديم استقالته من الحكومة. إن أخطاء «شكلية» مثل هذه التي وقع فيها سعادة الوزير تكلف صاحبها، في الدول الديمقراطية، منصبه ومستقبله السياسي. لكن بما أننا في المغرب حيث المستقبل السياسي لا يتأثر بالفضائح والأخطاء، فقد جاء سعادة الوزير صباح اليوم الموالي «ما بيه ما عليه» إلى البرلمان لكي يخطب ويرغي ويزبد بصوته المتوتر ويبعثر ما بين حاجبيه غاضبا مدافعا عن المثل العليا وتخليق الحياة العامة. إن وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة مخطئ جدا عندما يقول إنه لا ينتبه إلى هذه الأمور التافهة وإن لديه قضايا دولة يخصص لها وقته، لأنه لو كان فعلا لا يهتم بهذه الأمور التافهة لما سارع إلى ركوب سيارته الوزارية والنزول إلى شارع محمد الخامس لتخليص ابنه من قبضة الأمن، ولما خاطب الشرطي قائلا: «غادي تطلق الولد ولا غادي ندير شغلي». عن أي شغل كان يتحدث الوزير، «ملي باغي تدير شغلك ديرو بالتلفون من دارك، لاش نازل مبهدل راسك قدام الناس فالشارع». لو كان الوزير غير مهتم فعلا ولديه قضايا دولة يهتم بها لمكث في بيته وترك الأمن يقوم بمهمته، تماما كما يحدث مع كل أبناء الشعب. هكذا كان سعادة الوزير سيعطي مثالا حقيقيا في احترام القانون والخضوع لمساطره، حتى ولو تعلق الأمر بأحد أبنائه. وصدق مولاي إسماعيل العلوي، رفيق الناصري في الديوان السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، عندما اعترف بأن الوضع السياسي المغربي وضع سريالي مليء ب«التخربيق». ويكفي لفهم هذا «التخربيق» السياسي أن ينظر المرء إلى فضائح بعض أعضاء الديوان السياسي للحزب الشيوعي السابق. فبعد إعفاء عضو الديوان نبيل بنعبد الله من سفارة المغرب بالعاصمة الإيطالية روما بسبب تشاجر زوجته مع زوجة وزير الخارجية، ها نحن نرى كيف أن عضوا آخر في الديوان السياسي للتقدم والاشتراكية يستعمل سلطته للوقوف إلى جانب ابنه في حادث شجار في الشارع العام. وفي الأخير، بدأنا نسمع الوزير يبرر خرجته الليلية تلك بالأبوة، فيما أصبحنا نسمع نبيل بنعبد الله يشكو الحاجة في برنامج «سقط القناع» الإذاعي، بسبب «تابيطاليت» التي يعيشها وعدم قدرته على دفع «الطريطات» الشهرية لبيته الذي اشتراه «كريدي». «شي خرجات ليه مراتو على بلاصتو وشي غادي يخرج ليه عليها ولدو». إذا كان هذا هو التقدم وهذه هي الاشتراكية فاللهم نجنا ونج الشعب المغربي منهما، آمين يا رب العالمين.