بعد الجزائر، وتونس، وليبيا، ومصر، تابعت جولتي بالبلاد العربية، سافرت إلى دبي وتعرفت على سمو الشيخ راشد حاكم دبي. أعطيته تفسيرا ملائما للمشروع، الذي أبحث له عن ممول، وأنا لا أدري ما الذي حدا بي إلى الاعتقاد بأنه سيوافق عليه. وصلت إلى أبو ظبي لأتوجه منها إلى دبي إحدى الإمارات، التي تتكون منها دولة الإمارات العربية المتحدة . كانت أبو ظبي في بداية السبعينيات من القرن الماضي، عبارة عن ورش صاخب بالبناء والتشييد. كانت خالية من العمران تقريبا . قابلت الرجل كان يبني في ذلك الوقت صرح دولة عظيمة يتباهى بها شعبه بين الأمم الراقية، قادني إليه مدير التشريفات برئاسة الدولة آنذاك سعيد الدرمكي . الشيخ زايد، الذي عرفته، رجل شهم في أعماقه يملك القدرة على إحداث أفضل الانطباعات في نفوس مخاطبيه ورجاله، الذين يثقون دوما بحسن تصرفاته ومعالجته الصائبة للأمور. استقبلني وعلى وجهه آيات ترحيب صادقة . في ديوان سمو الشيخ، زايد رئيس دولة الإمارات، تعرفت على الدكتور إبراهيم عزالدين مستشاره الخاص. لم نكد نبدأ الحديث حتى أحسست أننا تقابلنا منذ أمد بعيد. فهو الذي عرفني على الزعيم الزنجي المسلم مالكوم إكس قبل اغتياله، وعلى والاس الدين محمد المعروف ب"وارث الدين " ابن إلياجا محمد، زعيم جماعة المسلمين "البلاليين" بأمريكا، نسبة إلى الصحابي الجليل بلال بن رباح، مؤذن الرسول عليه الصلاة والسلام. في أمريكا، كان الداعية الإسلامي المشهور مالكوم إكس أو مالك شباز، الأميركي الأصل والجنسية، الذي صحح مسيرة الحركة الإسلامية، التي انحرفت عن الحق في أميركا، ودعا للعقيدة الصحيحة، وصبر على ذلك حتى استشهد لدعوته ودفاعه عن الحق، يعمل مع إلياجا محمد، قبل أن ينفصل عنه ويؤسس جماعة أخرى. فكرت في ذلك الوقت، في إنتاج وإخراج فيلم عن المسلمين السود في أمريكا، بعنوان "بلال في هارلم"، يشخص أدواره الرئيسية مالكوم إكس، والياجا محمد. كانت محاولة أخرى من محاولاتي للنفاذ إلى السينما الأمريكية، لذلك أطلعت الدكتور إبراهيم عن نيتي إنجاز فيلم بتعاون معهم بعنوان "بلال في هارلم" أصوره في "هارلم" حي الزنوج بأمريكا، تحمس للفكرة وأعطاني توصية إلى "والاس الدين محمد" ليقدم لي جميع المساعدات. في تلك الأيام، وفي أبوظبي، قابلت الصديق محمد بن عيسى وزير الثقافة السابق والسفير السابق أيضا، بالولايات المتحدةالأمريكية. التقينا بمكتب عبد الله النويس وكيل وزارة الإعلام. كان محمد بن عيسى يعمل لحساب منظمة "اليونيسكو"، وكان يريد أن ينجز بحثا له طابعه الإعلامي المتميز، ومن المساهمات الجادة المخلصة لخدمة الإعلام العربي دوليا .وثيقة لها قيمتها، في شكل دراسة علمية من تاريخ الصحافة بدول الخليج العربي . في كل لقاءاتنا مع المسؤولين الإماراتيين كان محمد بن عيسى أقلنا كلاما وأكثرنا استماعا. الفندق الذي نزلت به في أبو ظبي كان غاصا برجال الأعمال، الذين قدموا من كل أنحاء الدنيا، يبحثون عن فرص كسب المال وبكل الطرق، حتى ببعض المشاريع الغريبة والطريفة، رجل أعمال جاء يعرض مشروع أهرامات بأبو ظبي بحجم الأهرامات المصرية، لكن تشيد كلها بدلا من الحجارة ببراميل البترول الفارغة؟ وآخر حمل معه مشروع جبال من الثلوج تنقل من أوروبا بواسطة البواخر؟ إلى الخليج لوضعها فوق قمم المناطق الجافة القاحلة لتذوب بحرارة الشمس وتسقي الأرض العطشانة لتحولها إلى مساحات خضراء وبحيرات جميلة . وأنا ببهو الفندق بأبو ظبي فوجئت برجل قصير القامة في الخمسين من عمره يقترب مني ويسألني هل أنت عبد الله المصباحي؟ إذن لم أكن مخطئا؟ فأجبته بنعم. أفهمني أنه رأى صورتي، وقرأ في حديثي لجريدة "الاتحاد"، هكذا تعرفت على رجل الأعمال، أحمد الشيخ مبارك وهوز، من أبناء إمارة دبي كنت بحاجة إلى صديق مثله يمد لي يد العون، حين أحتاج شيئا ببلاده، كان يحاول أن يساعدني مهما استطاع إلى ذلك سبيلا، فروح المساعدة ميزة طبيعية وعفوية لديه. دعوته لي لزيارة دبي، أتاحت لي الفرصة للتعرف على الشيخ راشد المكتوم حاكم الإمارة، التي لا يتوقف فيها العمل والحركة مطلقا. من قديم الزمن وإمارة دبي، مركز تجاري عالمي مهم يقصده رجال التجارة والمال من كل أنحاء الدنيا. عبر دبي كان يصدر اللؤلؤ والذهب إلى الهند، حيث كان يباع بأسعار خيالية مقارنة مع سعره الحقيقي . حاكم الإمارة الشيخ راشد رجل أعمال نافذ مرموق خبير في التجارة وجسور في اتخاذ القرارات .ليس من الذين يضيعون الوقت في الحيرة والتفكير دون أن ينفذوا شيئا . يحكى عنه أنه ذات مرة كان يتجول بحدود إمارته كأي مواطن عادي ودون حراسة، إذا بمواطن هندي بالناحية الأخرى من الحدود يلجأ إليه، وهو لا يعرف أنه حاكم الإمارة، فيطلب منه أن يساعده على التسلل إلى دبي، دون تأشيرة دخول ودون أن يمر من البوابة الرسمية. فسأله الشيخ راشد ماذا يريد أن يفعل في دبي فأجابه أنه حمل معه رأس مال وينوي أن يشتغل بالتجارة ولا يستطيع الدخول إلى الإمارة إلا بصفة غير قانونية على أن يسوي إقامته قانونيا بعد ذلك .لاحظ الشيخ راشد إصرار التاجر الهندي وصفاء طويته فطلب منه أن يتبعه متخفيا وراء عباءته وساعده على اجتياز الحدود، دون أن يفطن رجال الأمن والجمارك. اقترح الصديق أحمد الشيخ مبارك أن نتناول طعام الغداء بأحد الأندية الإنجليزية "الكانتري كلوب" بدبي .وصلت بنا السيارة إلى النادي، فتسللت إلى سمعي أنغام الموسيقى الغربية تتصاعد من الداخل مختلطة بأصوات وضحكات الموجودين بالمكان. بدا الصديق أحمد الشيخ مبارك معروفا تماما هناك، إذ لاحظت كيف دبت الحياة بين مستخدمي المطعم الفلبينيين لدى دخولنا وكيف أخذوا يركضون إلى خدمته كلما حرك أصبعا. هذه الخدمة الخاصة لم تكن تحظى بها في تلك الساعة إلا ضيفة كبيرة كالممثلة الإيطالية الكبيرة ذات الشهرة العالمية جينا لولو بريجيدا. كانت تجلس إلى مائدة قربنا راحت تحدق في محاولة أن تتذكر. ذهبت لأسلم عليها فكما أشرت إلى ذلك في حلقة سابقة كانت جينا ضيفة مهرجان طنجة السينمائي في أول نسخة له في بداية الستينيات من القرن الماضي، تذكرتني. وأدركت من خلال حديثي القصير معها أن كلانا يشترك في لعبة الانتظار ذاتها، إنما من أجل هدفين مختلفين، فأنا أبحث عن تمويل لمشروعي السينمائي وهي اعتزلت السينما في أوج مجدها لتعمل بالتصوير الفوتوغرافي، الذي كان دائما هوايتها المفضلة . علمت من جينا لولو بريجيدا أن الممثل شين كونري بطل أفلام"جيمس بوند" موجود أيضا، بدولة الإمارات فهو في إجازة كان يقضي منها أياما بالنادي الدولي "ماربيا كلوب" بإمارة الشارقة. وقبله كان بيتر أوتول بطل فيلم "لورانس العرب ب"الكانتري كلوب" بدبي. فهؤلاء النجوم العالميون يعشقون "خورفكان" المدينة الساحلية التابعة لإمارة الشارقة، وهي من أجمل المدن الساحلية في دولة الإمارات، إذ تجمع بين جمال البحر وروعة الجبل وكرم الخضرة، وتمتاز شواطئها بمياهها المتماوجة بين الزرقة والاخضرار•• رمالها ناعمة بيضاء تحيط بها غابات مترامية الأطراف من أشجار "الغاف" شجر الصحراء والسدر والرمث والمرخ، ومزارع البرتقال والمانجو والموز. جينا لولو بريجيدا قدمت من الكويت التي أنجزت بها شريطا وثائقيا عن المرأة الخليجية .. "إزميولدا " بطلة فيلم "أحدب نوترادم" عن رائعة الكاتب فيكتور هيجور، اليوم امرأة خليجة! ذهبت مع الصديق أحمد الشيخ مبارك لزيارة الشيخ محمد ابن الشيخ راشد المكتوم، وكان وزيرا للدفاع آنذاك، دخلنا إلى المكتب الفسيح الفخم الأثاث، الذي يبدو أن صاحبه يريد الرفاهية كاملة حتى وهو يعمل. فوجئت بنمر جالس أمام المكتب، تراجعت إلى الوراء محافظا على مظهري الهادئ . قالوا عنه كتبت مجلة "الأزمنة العربية" بدولة الإمارات العربية : "أما آخر أعمال عبد الله المصباحي الغني عن التعريف فهو فيلمه الجديد "سأكتب اسمك على الرمال"، الذي كتب له السيناريو وأنتجه وأخرجه وعاش أحداثه عندما كان طفلا في فترة الأربعينيات من القرن الماضي، يجسد الفيلم ارتباط الإنسان المغربي بالأرض، في تلك السنوات الصعبة من الأربعينيات، حيث المجاعة والجفاف والحرب، في تلك الفترة تمكن الاستعمار من الإنسان من المغرب وجعله يواجه الشدائد والمحن، استغل ظروفه المقيتة ليسوقه إلى الحرب ليموت دفاعا في سبيل العلم الفرنسي. كما يربط الفيلم في فترة واحدة بين إقليمين مغربيين عاشا ظروفا واحدة وخاضا المعركة ذاتها من أجل تحرير الأرض من الاستعمارين الفرنسي والإسباني، ويشير المصباحي كذلك إلى ما يطرحه الفيلم من قضايا تتعلق بجميع أشكال وأساليب الاستعمار، كما يلقي الضوء على جوانب عديدة قد يجهلها بعض الإخوة في الوطن العربي عن الصحراء المغربية.