باسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. إخواني أخواتي، لقد دأبنا كل ما تعلق الأمر بقرار تاريخي أو موقف على درجة كبيرة من الدقة، أن نعود إلى مؤسسات حزبنا، وبالضبط إلى مؤسسة المجلس الوطني، هذه المؤسسة التي بوأتها قوانيننا الداخلية مرتبة الصدارة بعد المؤتمر الوطني، فهي المؤسسة التي تحمي امتدادنا الجهوي، وتعبر عن عمق تنظيمنا، وتشكل برلمانا لحزبنا، وفيها يلتقي المناضل مع البرلماني ورئيس الجماعة وعضو المكتب الوطني على قدم المساواة لكي يشكلوا في المحصلة صوت المجلس الوطني المطالب اليوم كما الأمس في البت في قرار ستمتد تداعياته لكي تشمل الوطن كله بمؤسساته الدستورية، وقواعد لعب فرقائه، إن المطالبة بالدمقرطة والتحديث لا تستقيم إلا بوجود ديمقراطيين يؤمنون حقيقة بالديمقراطية جوهرا ومساطير، ويعملون على تنزلها واحترام مقتضياتها، ويحتكمون إلى ممارستها في لحظات الوفاق كما الأزمة، إن الديمقراطية ليست خطابا للاستهلاك أو حقلا للمزايدة، أو مطلبا يوظف فقط في مواجهة الدولة وأجهزتها، لذلك، آلينا على أنفسنا داخل حزب الأصالة والمعاصرة أن نقطع مع ثقافة الكواليس ونمط المذكرات التي تحتكر القيادة تحديد مضمونها ومآلها وزمن المرافعة عنها، لقد تشاركنا جميعا في السنة الماضية في وضع تصور الحزب بخصوص موضوع الجهوية الموسعة، تلك المقترحات الجريئة التي انبثقت من بنات أفكاركم وقوتكم الاقتراحية وتقديركم السياسي، وهو العمل الذي نال حظوة إعلامية هامة، وإصغاءا عميقا من قبل اللجنة الاستشارية للجهوية، ويكفينا فخرا أن العديد من المضامين الواردة في تقريرها النهائي المرفوع إلى جلالة الملك قد عكس جزءا كبيرا من تصورنا السياسي والتنظمي لجهوية مغرب الغد، إخواني أخواتي، في آخر لقاء بكم، السيدات والسادة أعضاء المجلس الوطني، قررنا جميعا الإبقاء على دورة مجلسنا مفتوحة لكي نتداول في جلستها الثانية أو ما سمته رئاسة المجلس في شوطها الثاني، في موضوع لا أحد ينكر أهميته، إنه موضوع الإصلاح والتعديل والمراجعة الدستورية، فوضع الدستور كما مراجعته ليس بالحدث العادي في حياة الشعوب، إنه يحيل على زمن استثنائي يعاد فيه تقويم الخلل المؤسساتي وإدماج تغييرات جديدة وإحداث مؤسسات أو إلغاء أخرى، يطرح النقاش حول التعديل الدستوري في مغرب اليوم في سياق مخالف قياسا بالماضي، فالمراجعة الدستورية تطرح وإجماع غير مسبوق يتم حول المؤسسة الملكية والنموذج المجتمعي الذي ترعاه، وفي فضاء سياسي يشهد انتظامية ودورية الانتخابات وتطبيعا في أداء مؤسساته، وتوافقا حول أمننا الروحي ، وتأكيدا مستمرا على اختياراتنا الديمقراطية، فالمراجعة الدستورية لا تطرح اليوم كمدخل للإصلاح أو التغيير أو لإدماج نخبة على هامش الفعل السياسي الرسمي...إنها على العكس، تأتي لكي تتوج وتدعم مسارا إصلاحيا عميق وإراديا وواعيا، همت حلقاته كل المجالات والقضايا، لذلك، أتى الخطاب الملكي ل 09 مارس الجاري، لكي يعكس كل ما تقدم و يرفع بصفة غير مسبوقة سقف الإصلاحات، فلأول مرة نعرف الجهة التي ستضع مسودة دستورنا المراجع، ومن خلالها تم تكليف شخصيات وطنية في إشارة رمزية دالة على رد الاعتبار للكفاءات الجامعية والحقوقية المغربية، وبمضمون واضح للتكليف، وتدقيق زمني لأجندة انتدابها، وتحديدا لقواعد اشتغالها، أما مضمون المراجعة، فكما عبر عن ذلك جلالة الملك نصره الله، فهو يتم في إطار احترام ثوابت الأمة المشكلة من الدين الإسلامي، وإمارة المؤمنين، والنظام الملكي، والوحدة الوطنية والترابية، والخيار الديمقراطي، وما عدى ذلك فهو مؤطر بالمحددات السبع التي تشمل كل الهندسة الدستورية من قائمة الحقوق والحريات، وبنية الدولة الترابية، والمضمون الدستوري لفصل السلط وتوازنها، ومكانة القضاء...وهي مجالات مفتوحة على روح الاجتهاد والإبتكار خصوصا أمام قضايا لا نجد لها نظيرا في الدساتير المقارنة، أو تركتها الدساتير المكتوبة لكي تحسم فيها الأعراف والممارسات الناشئة أثناء تطبيق نص الوثيقة الدستورية، أو روعيت فيها خصوصيات كل دولة على حدة ويغيب بصددها ما يسميه رجال القانون ب "النموذج المثال"، وعليه، فإننا في حزب الأصالة والمعاصرة، المؤمنين بخيار "النموذج المغربي"، نعتبر بأن دروس الحياة السياسية والدستورية المغربية بما تحفل به من إيجابيات وأعطاب، وأرضية توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، والتقييم الموضوعي للسياسات العمومية الدستورية الأصلية أو التعديلية كما قاربها تقرير الخمسينية، وخلاصات أدبياتنا في الموضوع، لقادرة كإطار مرجعي أن تقدم لنا الأجوبة السياسية والتقنية لسؤال التعديل والإصلاح الدستوري، هذا السؤال الذي لم يغب قط عن تفكيرنا ومناقشاتنا، تشهد بذلك أدبياتنا التي طالبت ومنذ سنتين بإقرار جيل جديد من الإصلاحات المؤسساتية، تقديرا منا بأن مسارات التحول والانتقال في حاجة دائمة إلى دعامات وبنيات استقبالية متجددة تؤمن المرور إلى المأمول وتجنب في المقابل أدواء الانتكاسة وخيبات الأمل، نقول هذا، للتاريخ، ليس تفاخرا، ولا احتكارا للمطلب، ولا وصاية عليه... إخواني أخواتي، وإذا كنا قد امتلكنا شجاعة التصريح بمشروعية مطالب الشباب، وإن أبدينا في ذات الآن تخوفاتنا من سرقة أحلامهم من قبل قوى معادية غير مؤمنة بالديمقراطية، ومسكونة بأضغاث الأحلام والرؤيا، فإننا نصرح ومن منطلق مسؤولياتنا، أن قطار الإصلاح قد انطلق، ولا يجوز أن يحاكم بالنوايا أو بهواجس المؤامرات، ولا أن توضع أمامه العراقيل المجانية والمتاريس غير الأخلاقية. إخواني أخواتي، إن هذه المرحلة بما تتسم به من دقة وراهنية، تتطلب من الفاعلين نضجا كبيرا، وتصريفا عقلانيا لخطابها السياسي، واحتكاما منتظما لصوت العقل والحكمة، هذا هو منهجنا، ونحن مستعدون لدفع ضريبة اختياره، ولأننا نؤمن بمضمونه، فنحن نتحمل حملات إعلامية ممنهجة عدائية، ودعوات للاستئصال، وتحميلا للمسؤولية بسبب أو بدونه، ونفخا في حراكنا الداخلي، واستهدافا لتجربتنا في التدبير الجماعي...وكلها أفعال لم تمس ولم تثبط عزيمتنا ولم تؤثر على برنامج عملنا، إخواني أخواتي، وكما لا يخفى على علمكم، فقد شكل المكتب الوطني لجنة للإشراف على صياغة تصور الحزب بخصوص موضوع الإصلاحات الدستورية وعهد برئاستها إلى السيد لحبيب بلكوش، هذه اللجنة التي ستنصت إلى تصوراتكم بخصوص هذا الموضوع قصد صياغة وثيقة الحزب بشكل نهائي، بحكم أننا مطوقون بأجندة رسمية دقيقة تفرض علينا إيداع مذكرتنا في آجال معلومة، ومساهمة من الأمانة العامة في النقاش أود أن أطرح أسئلة في كلمتي هذه، لعلها تشكل ذلك التقديم المستفز لأية مناقشة مثمرة، ومنها ما يلي: . إلى جانب مرجعية الخطاب الملكي، ما هي المحددات التي ستؤطر تصورنا لموضوع الإصلاح الدستوري، هل هي مرجعياتنا الكبرى؟، أم تقييمنا للبناء الدستوري كما هو قائم اليوم؟، أم موقعنا في المعارضة السياسية؟، أم النفس الإصلاحي والتعديلي الطارئ على دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية والذي شكل تاريخيا المنهل المرجعي لثقافتنا الدستورية؟، أم الانفتاح على آفاق دستورية جديدة أطرت لحظات الانتقال الديمقراطي في جنوب أوربا و في ردهات لجنة البندقية وربيع الشعوب الأفريقية؟؟؟. . وهل رد الاعتبار للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، فهل لا يقتضي ذلك ضمن إجراءات أخرى دسترة اللغة الأمازيغية وتوفير الحماية القانونية لها؟، وإذا كان الجواب بالإيجاب، بأي مستوى هل كلغة وطنية أم رسمية؟؟، . وما هي السيناريوهات المرتبطة بالتقنين الدستوري لمجلس الحكومة وتعيين مؤسسة الوزير الأول أو رئيس الوزراء وفق المنهجية الديمقراطية؟، في حين أن دساتير أنظمة برلمانية وشبه رئاسية لا تنص على مقتضيات من ذات القبيل؟؟، . وكيف يمكن رد الاعتبار لمؤسسة مجلس النواب؟، هل بتوسيع صلاحياته في التشريع وإضافة مواد جديدة إلى مجال القانون؟، أم بتوسيع اختصاصاته الرقابية، بأغلبيات مرنة قابلة للتشكيل؟، أم بتمييزه بشكل كبير عن مجلس المستشارين، بتبني نظام المجلسين غير متكافئ والذي يقصر منح شهادة الولادة كما الإقالة وفق ملتمس الرقابة للمؤسسة ذات الشرعية الانتخابية المباشرة؟، . وإذا كانت وظيفة التمثيل الترابي قد أوكلت لمجلس المستشارين، فإن السؤال يطرح حول الهيئات التي سيمثلها، هل هي فقط المجالس الجهوية، أم ستنضاف إليها الجماعات حضرية وقروية، أم سنزيد على تمثيل الجماعات الترابية، مكونات جاليتنا بالخارج؟، وإذا تجاوزنا فضاء التمثيل، فإن الإشكال يطرح أيضا بصدد مدة انتدابه هل ستكون مطابقة لتلك المخولة لمجلس النواب، أم تكون ملائمة للانتداب الجهوي، أم تزيد عنه؟، وما مآل مساطر ملتمس الرقابة وتوجيه التنبيه الموكولة إليه بنص دستور 1996؟، . ومن موقعنا في المعارضة، وبالنظر لإيماننا بكون المعارضة تشكل جزءا من الحياة البرلمانية، فكيف يمكن العمل على تقوية مكانتها، هل بمنحها مثلا الإشراف على لجنة دائمة هامة من قبيل لجنة المالية؟، أم بتوفير تمويل عمومي خاص بها؟، أم تخويلها تفضيلا مؤسساتيا أثناء مناقشة القوانين قياسا بالأغلبية؟، أم منح زعاماتها مكانا اعتباريا يليق بقيادتها لحكومة الظل كما هو جار به العمل في النظام البرلماني البريطاني؟، وبالنظر لكون إحدى مرجعياتنا الكبرى هي توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة بما أكدت عليه من دعوة صريحة إلى تضمين الدستور لعدد من الضمانات الخاصة بالحقوق و الحريات الأساسية، فكيف يمكن تحويل مضامينها إلى مواد دستورية ، خاصة ما يتعلق منها بحفظ الذاكرة، وكتابة التاريخ، وضمانات عدم تكرار ما حدث، والحكامة الأمنية؟، . وماهي الصيغ الدستورية الممكنة لترقية القضاء من مستوى الجهاز إلى السلطة؟، هل بتحجيم صلاحيات الوزارة المشرفة على مرفق العدالة؟، أم بتوسيع صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء؟، وإعادة النظر في تركيبته المختزلة في جسم القضاة؟، إخواني أخواتي، هذه فقط بعض الأسئلة التي يثيرها موضوع الإصلاح الدستوري، والتي أتمنى أن تشكل مقدمة لأشغال دورة مجلسكم هذه، التي ستتداول فضلا عن موضوع الإصلاح الدستوري، في وثيقتي الحزب بخصوص قانون الأحزاب السياسية ومدونة الانتخابات، أتمنى لأشغال دورة مجلسكنا الوطني، كامل التوفيق والنجاح، "وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب"، صدق الله العظيم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،