كان ليوبولد فايس رجل التساؤل والبحث عن الحقيقة، وكان يشعر بالأسى والدهشة لظاهرة الفجوة الكبيرة بين واقع المسلمين المتخلف وبين حقائق دينهم المشعةوفي يوم راح يحاور بعض المسلمين منافحا عن الإسلام، محملا المسلمين تبعة تخلفهم، لأنهم تخلفوا عن الإسلام ففاجأه أحد المسلمين بهذا التعليق: "فأنت مسلم لكنك لا تدري". فضحك فايس قائلا: "لست مسلما، ولكنني شاهدت في الإسلام من الجمال ما يجعلني أغضب عندما أرى أتباعه يضيعونه". هذه الكلمة هزت أعماقه، ووضعته أمام نفسه، التي يهرب منها، وظلت تلاحقه من بعد حتى أثبت القدر صدق قائلها، حين نطق فايس بالشهادتين، وغير اسمه إلى محمد أسد. جاء إسلام محمد أسد ردا حاسما على اليأس والضياع، وإعلانا مقنعا على قدرة الإسلام على استقطاب الحائرين، الذين يبحثون عن الحقيقة. عن اعتناقه الإسلام يقول محمد أسد "جاءني الإسلام متسللا كالنور إلى قلبي المظلم، ولكن ليبقى فيه إلى الأبد... الذي جذبني إلى الإسلام هو ذلك البناء العظيم المتكامل المتناسق، الذي لا يمكن وصفه ، فالإسلام بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتمّ بعضها بعضا... وما يزال الإسلام رغم جميع العقبات التي خلفها تأخر المسلمين أعظم قوة ناهضة بالهمم عرفها البشر، لذلك تجمعت رغباتي حول مسألة بعثه من جديد". في سنة 1927 بدأ المسلم الجديد محمد أسد، رحلته الثالثة، مرتديا اللباس المشرقي، وبدأ يتكلم العربية عوضا عن الألمانية. وكانت وجهة رحلته الأساسية في هذه المرة مكةالمكرمة، التي فقدَ فيها زوجتَه إثر وفاة مفاجئة عمقت معرفته بالقرآن. كما ساعدته قدراته اللغوية كثيرا على فهم ما يدور من حوله، فقد أتقن العبرية لغة التوراة، والآرامية لغة الكتب السابقة عن الإسلام، والألمانية لغته الأم، والفرنسية التي قرأ بها القرآن الكريم في مرحلته الأولى قبل تعلم العربية، ثم الإنجليزية، والفارسية، والروسية. مكث ليوبولد في الشرق أربع سنوات مراسلاً لكبريات الصحف الغربية ومن خلال عمله كصحافي تعرف إلى الكثيرين من أعلام الشرق آنذاك من السادة العلماء، وكبار السياسيين والمفكرين، كان على رأسهم شيخ الأزهر مصطفى المراغي، وملك الأردن عبدالله الأول وشيخ السنوسية المقيم في المدينةالمنورة بالمملكة العربية السعودية الشيخ محمد السنوسي ولقاءه مع الشيخ المجاهد عمر المختار، وفيلسوف الإسلام محمد إقبال، فعقد معهم صداقات حميمة. شارك محمد أسد في الأحداث الكبرى لتوحيد المملكة العربية السعودية، ووصفها بدقة تامة. وسرعان ما انضم إلى مجلس المستشارين لدى الملك عبدالعزيز بن سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية. وأثناء إقامته في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، تعرف إلى الشيخ محمد إدريس السنوسي الذي كان منفيا بمكة، وكلفه بحمل رسالة إلى شيخ المجاهدين عمر المختار، الذي كان محاصرا في الجبل الأخضر في ليبيا، فقابل المجاهد عمر المختار وصاحبه ورافقه في جهاده ضد الإيطاليين، ولعل محمد أسد هو الصحافي الأوروبي الوحيد، الذي شاهد عمر المختار عن قرب قبل أن يقبض عليه ويعدم عام 1931، وبذلك فقد تفاعل محمد أسد مع كل قضايا الأمة الإسلامية. فكان له شرف الجهاد في تلك الديار. في عام 1932 ترك محمد أسد الجزيرة العربية، وذهب إلى شبه الجزيرة الهندية، حيث أقنعه المفكر محمد إقبال، بإلغاء برنامجه والبقاء بالهند كي يساعده في إذكاء نهضة الإسلام، ووقف نفسه لسنوات عديدة على تحقيق هذا الهدف، وقام بدراسات كثيرة، وكتب مقالات عديدة، وألقى العديد من المحاضرات، وعرف مع الزمن كمترجم للفقه الإسلامي والثقافة الإسلامية. أقام محمد أسد في الهند حتى قيام الحرب العالمية الثانية، وأسس تحرير صحيفة باللغة الأوردية نشر فيها مقالات تعيب السلطة البريطانية، ما أدى إلى اعتقاله لتضيع منه أكثر أجزاء ترجمة صحيح البخاري، الذي أفنى شطرا من عمره وهو عاكف عليها. في نهاية الأربعينيات أصبح أسد شريكا في نضال باكستان من أجل الاستقلال. إذ مثلت باكستان بالنسبة إليه مشروع دولة مثالية بمنأى عن كل أنواع الأفكار القومية، مشروع لا يقوم على قاعدة الانتماء الإثني والعشائري أو على قاعدة حدود ترابية ثابتة، بل على الاختيار الطوعي للمرجعية الإسلامية، ثم طلب منه رئيس حزب العصبة الإسلامية في الهند محمد إقبال، أن يبدأ بكتابة المقدمات المنطقية لقيام الدولة الإسلامية، التي كان محمد أسد من أشد أنصار فكرتها، وبذلك ساهم في كتابة أبواب من الدستور الإسلامي لدولة باكستان، وفي وضع أسس ونظم الدولة الحديثة، من أجل إنعاش بقية من آمال المسلمين المتعثرة، واكتسب جنسية الدولة الجديدة، ومن هنا بدأ تحول كبير في حياة الرجل، بعد تحوله الكبير باعتناقه الإسلام، كان ذلك التحول مع بداية قيام دولة باكستان الإسلامية، التي شغل فيها أسد مناصب عديدة ضمن وزارة الخارجية، فمن مدير دائرة الشرق الأوسط فيها، إلى وزير مفوض لباكستان لدى منظمة الأممالمتحدة، ومنذ سنة 1952 شغل لمدة سنتين سفيرا لباكستان لدى منظمة الأممالمتحدةبنيويورك. لما يمتاز به الرجل من عبقرية فذة بجانب إجادته للغات عديدة مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والعبرية والعربية. وبعد قيام باكستان دعته حكومتها لتنظيم "دائرة إحياء الإسلام" فاشتغل مديرا لدائرة تجديد الإسلام في البنجاب الغربية، فعمل خلال بقائه في باكستان على إنشاء مركز للبحوث والدراسات الإسلامية، وتولى رئاسة معهد الدراسات الإسلامية في لاهور، وأصدر مجلة "عرفات" كما أسس بمساعدة صديقه وليم بكتول، الذي أسلم هو الآخر "مجلة الثقافة الإسلامية" في حيدر آباد، وعاد من نيويورك رئيسا لقسم الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الباكستانية، حتى تقدم باستقالته من منصبه عام 1952، بعدما أعلن أنه اطمأن إلى أن الدولة الجديدة قامت على قدميها. ترك محمد أسد باكستان، وبعد بضع سنوات قضاها في سويسرا، رحل إلى المغرب، حيث أقام في مدينة في طنجة، التي واصل فيها نشاط التأليف والنشر والتعبير عن مواقفه من الأحداث العالمية. ألف العديد من الكتب، التي رفعته إلى مصاف ألمع المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث، ومن أشهرها "الإسلام على مفترق الطرق"، و"الطريق إلى مكة"، كما قام بترجمة معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية، ثم رحل إلى البرتغال وبعدها استقر في إسبانيا، التي توفي بها عام 1992 ليدفن في مقابر المسلمين في مدينة غرناطة.