إن"العدو" كما ذكرنا سالفا، الذي أذن القرآن للمسلمين بمحاربته علانية، وإعلان الحرب عليه هم مشركو مكة، بسبب أنهم أخرجوا المسلمين من ديارهم بعد أن ساموهم سوم العذاب، فالحرب/الجهاد هنا هي حرب الدفاع عن النفس والممتلكات والأبناء. عرَفت هذه الحرب مراحل ثلاث:الأولى مرحلة الغزوات الخاطفة التي استهدفت القوافل التجارية لقريش، (ضرب مصالحها الاقتصادية)، والثانية مرحلة الحرب بين جيش المسلمين وجند قريش وحلفائها من القبائل العربية. والثالثة الحرب مع الإمبراطوريتين البيزنطية والكسروية الفارسية، ذلك أنه على إثر فتح مكة وإسلام أهلها علم الرسول عليه السلام بأن هرقل ملك الإمبراطورية البيزنطية الاستعمارية، التي كانت تحتل شمال غرب الجزيرة العربية كان يخطط للهجوم على مكة واحتلالها، خوفا من أن تقع، بوصفها مركزا تجاريا دوليا، في نفوذ الإمبراطورية الفارسية، العدو التقليدي للإمبراطورية البيزنطية ... أقول عندما علم الرسول بذلك جهز جيشا (غزوة تبوك) لقتال هرقل وإفشال مشروعه الاستعماري الدولي، الشيء الذي اضطر معه هرقل إلى الانسحاب إلى الوراء شمالا بقصد استدراج المسلمين إلى المكان الذي يسهل عليه فيه محاصرتهم والقضاء عليهم. ولما وصل الرسول تبوك وأدرك خطة هرقل اكتفى بالاتصال بالقبائل العربية هناك، ومعظمها كانت تدين بالمسيحية، فربط الصلة مع بعضها وأبرم معاهدات مع بعضها الآخر وعاد إلى المدينة. كان رد فعل هرقل التحرك بين بعض تلك القبائل يحرضها ويقيم تحالفات بينها لمهاجمة المسلمين، الشيء الذي جعل الرسول عليه السلام يقرر تجهيز جيش لمواجهة هذه المحاولة وأسند قيادته للشاب أسامة بن زيد. لم يبدأ جيش أسامة في التحرك نحو أداء المهمة حتى أعلن عن التحاق الرسول بالرفيق الأعلى. وكان أول ما قام به أبو بكر بعد بيعته خليفة هو إنفاذ هذا الجيش. ليواجه بعد ذلك ما يعرف ب"حروب الردة"، ردة معظم القبائل العربية وامتناع بعضها عن دفع الزكاة بدعوى أنها كانت واجبة عليهم إزاء الرسول وحده، بينما أخذت قبائل أخرى تعقد تحالفات للهجوم على المدينة والقضاء على دولة الإسلام الوليدة. خاض أبو بكر "حروب الردة"، إذن، في إطار الدفاع عن النفس، الذي اكتسى هنا معنى الدفاع عن الدولة والوطن، وجعل حدا لفوضى الأعراب وأطماع "المتنبئين" وغيرهم ممن كانت تحركهم الإمبراطورية البيزنطية، التي كانت تحتل شمال غرب الجزيرة العربية، أو الإمبراطورية الفارسية المتهاوية، التي كانت تمارس نفوذا قويا في الشمال الشرقي، العراق وما حوله. وهكذا دخلت دولة الإسلام في سلسلة حروب (فتوحات) مع الإمبراطوريتين حتى انتصرت عليهما وحررت شعوب المنطقة من نفوذهما الإمبراطوري الظالم. وهكذا يتبين أن "حروب النبي" مع مشركي مكة، و"حروب الردة" زمن أبي بكر و"حروب الفتوحات" زمن عمر بن الخطاب وما تلاها، كانت في واقع الأمر عبارة عن مسلسل تاريخي يجد انطلاقته في نزول آية الإذن بالقتال: دفاعا عن النفس ضد الذين ظلموا لينتهي إلى مقاومة نفوذ الاحتلال الأجنبي، نفوذ الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية. يقول تعالى "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ" (الحج 39-40). وبالتالي فلم تكن هذه الحروب تهدف، بالقصد الأول، إلى نشر الدعوة المحمدية، بل جاء انتشار الإسلام معها وبعدها بالقصد الثاني. بيان ذلك أن هذه الدعوة كانت منذ المبدأ في مكة دعوة سلمية، "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" (الحجر 125-128)، وبقيت هذه الدعوة سلمية في المدينة، عمادها قوله تعالى "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة 256-257). أما ما ورد في القرآن من آيات أخرى في شؤون الحرب والقتال فهي ليست في الدعوة إلى الجهاد/الحرب بل هي في تنظيم شؤون القتال عند قيام الحرب على الأسس التي ذكرنا: موضوعها وهدفها تشجيع المقاتلين وحضهم على العمل لكسب النصر... ثم إقرار نظام لتوزيع الغنائم ومعاملة الأسرى... أما نشر الإسلام في المناطق التي حقق فيها المسلمون النصر العسكري ثم السياسي، فجاء على القصد الثاني، مع الالتزام بمضامين القصد الأول، التي بينتها الآيات المذكورة، بإرسال دعاة إلى المناطق، التي تحقق فيها النصر لجند دولة الإسلام، "يعلمون الناس دينهم"، أي دين الدولة الجديدة، التي حلت محل القديمة وأصبح مواطنوها سياسيا لكن دون إجبارهم على ترك دينهم، وإنما تؤخذ منهم "الجزية" وهي أشبه ب"ضريبة المواطنة" وأقرب إلى أن تكون في مقابل "الزكاة" التي قاتل عليها أبو بكر المرتدين الذين رفضوا دفعها. هذا اختلف الفقهاء فيمن تؤخذ منهم الجزية: فالشافعي ارتأى ألا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصّةً، عرباً كانوا أو عجماً. كما تؤخذ من المجوس اعتمادا على حديث في الموضوع. هذا بينما ارتأى مالك أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربياً أو عجمياً، تَغْلَبيّاً أو قرشياً، كائناً من كان. ومعنى هذا أن الشعوب التي فتح المسلمون أراضيها وأطاحوا بدولها لا يقتلون، بل يعتبرون مواطنين في دولة الإسلام ويخيرون بين البقاء على دينهم ودفع الجزية، أو الدخول في الإسلام ودفع الزكاة والقيام بغيرها من أركان الإسلام. ذلك في ما يخص مسألة الجزية. أما حكم الجهاد/القتال (هل هو واجب أو غير واجب) فجمهور الفقهاء أقروا على أن الجهاد فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقي. وفي الحديث عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال"من آمَنَ باللهِ وبرسولِه وأقامَ الصلاةَ وصامَ رمضانَ كان حَقّاً على الله أن يُدْخلَهُ الجنَّة، جاهدَ في سبيلِ اللهِ أو جلَسَ في أرضهِ التي وُلِدَ فيها"، وفي جميع الأحوال لا يجب الجهاد إلا في حالة الدفاع عن النفس، ولذلك قالوا : "إذا حميت الأطراف وسدت الثغور سقط فرض الجهاد، ولا يتعين وجوبه إلا لثلاثة أسباب: 1) أن يفاجئ العدو بعض بلاد المسلمين فيتعين عليهم دفعه، 2) استنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الكفار، 3) أمر الأمام، فمن عينه الإمام وجب عليه الخروج. ولا يجب الجهاد على الذي عليه دين حل أجله. كما لابد فيه من إذن الأبوين...