يظهر أن بقايا معمار ومباني طنجة القديمة، بأشكالها الرومانية والأندلسية والأوروبية، مازالت خير شاهد على تاريخ الموجات البشرية المتتالية التي مرت بها.جانب من المآثر التاريخية المهددة بالانهيار بالمدينة القديمة فقد سمعت طرقات المدينة وقع حوافر خيول الفينيقيين والقرطاجنيين والرومان والعرب. كلهم جاؤوها وتركوا بصماتهم فيها. ثم كان الفتح الإسلامي، عام 707م، على يد موسى بن نصير الذي ولى عليها القائد طارق بن زياد، فانطلق من طنجة على رأس الجيش الإسلامي، عابرا المضيق الذي أخذ اسمه ليفتح الأندلس عام 711م، ومنذ ذلك اليوم عظم شأن طنجة، وأصبح اسمها يطلق على المغرب الأقصى كله، بعد أن تحولت إلى مركز وجسر تعبر منه قوافل الجيوش، والعلماء والأدباء، وكل من يود التوجه إلى الأندلس، ثم من طرف المرابطين والموحّدين، الذين جعلوا منها معقلاً لتنظيم جيوشهم وحملاتهم). ويقدم أحد الكتاب وصفا لمعمار المدينة القديمة انطلاقا من الأسوار التي تمتد على طول "2200م"، مسيِّجة بذلك الأحياء الخمسة للمدينة العتيقة: القصبة، دار البارود، جنان قبطان، واد أحرضان، وبني إيدر. وبنيت هذه الأسوار على عدة مراحل، التي من المحتمل جداً أنها بنيت فوق أسوار المدينة الرومانية "تينجيس". وتؤرخ الأسوار الحالية للفترة البرتغالية (1471-1661م)، إلا أنها عرفت أشغال ترميم وإعادة بناء وتحصين خلال الفترة الإنكليزية (1661-1684)، ثم فترة السلاطين العلويين، الذين أضافوا تحصينات عديدة في القرن الثامن عشر، حيث دعّموا الأسوار بمجموعة من الأبراج: برج النعام، برج عامر، برج دار الدباغ، وبرج السلام. كما فتحوا فيها 13 باباً، منها: باب القصبة، باب مرشان، باب حاحا، باب البحر، باب العسّة، باب الراحة، وباب المرسى.. ويحتل قصر القصبة أو دار المخزن موقعاً استراتيجياً في الجهة الشرقية من القصبة. ومن المرجح جداً أنه استعمل خلال فترات أخرى من التاريخ القديم. وقد بُني قصر القصبة، أو قصر السلطان مولاي إسماعيل، من طرف الباشا علي أحمد الريفي، على أنقاض "القلعة العليا" الإنكليزية. وهو يحتوي على مجموعة من المرافق الأساسية كالدار الكبيرة، بيت المال، الجامع، المشور، السجون، ودار الماعز، والرياض. وفي سنة 1938م تحوّل القصر إلى متحف إثنوغرافي وأركيولوجي لطنجة ومنطقتها). فحينما نستحضر هذه الشهادات الرائعة عن طنجة في هذا المقام العالي، ونقارنها بما يجري على أرض الواقع، بشكل معاكس للتيار، وفي أقصى درجات الانهيار، نصاب بالإحباط وتتحرك الأشجان، وتتقطع نياط القلب حزنا على ما حل بهذه المدينة المنكوبة. وهذه صور مقارنة تعكس رد فعل الجهات المسؤولة حول ما يجري على أرض الواقع من تدهور وانهيار كامل لهذه المآثر، دون أن تتوفر أدنى خطة لإنقاذها من الضياع، بل إن ما يجري حقيقة هو الهدم وتغيير المعالم، وإنبات الأجسام الغريبة المشوهة التي تشكل نشازا داخل النسيج المعماري التاريخي. وخير مثال، هو صدور الأمر بقرار الهدم الذي طال مبنى مستشفى دار البارود المطل على الميناء، خلال الأسابيع الماضية، تحت ذريعة تداعيه للسقوط ، وارتفاع تكلفة ترميمه، علما أن هذا المبنى الموروث، منذ العهد البرتغالي، قام بأدوار متعددة، إذ استغل في فترات كمدرسة للتكوين المهني تحت إشراف التعاون الوطني، كما أنه ما زال يحتفظ داخل ساحته بمدافع ضخمة منصوبة تجاه البحر، ليكون شاهدا على تاريخ طنجة المقاومة والمتحفزة للدفاع عن النفس كلما داهمها الخطر المحدق بها من البحر . نفس الأمر يتعلق بسور باب البحر المتداعي للسقوط، الذي يشهد كل سنة ميلانا وانزياحا خفيفا، وتشققات تحت تأثير انجراف التربة، وعدم إنجاز المخططات المتعلقة بالترميم والصيانة وكذلك خلق دعائم الإسناد. وما أكثر السيناريوهات المتعلقة بالإنقاذ، التي لوح بها المسؤولون لمدة أزيد من ثلاثة عقود، دون أن تخرج إلى حيز الوجود بسبب تركيز هؤلاء على أولويات أخرى تحظى بالاهتمام "لصالح السكان والمدينة ولله الحمد"، كما أن السياحة التي يراهن عليها المغرب لا حاجة لها في تقديرهم بهذه الأطلال البالية، التي لا يمكن أن تبعث الروح فيها من جديد.