اليوم السادس وقفت في شارع وصفي التل،بمحاذاة مطعم السروات الشهير،عند سواق التاكسي، خاصة. رغبتي النزول إلى مكتبة الشروق ب"وسط البلد" للبحث عن كتب أردنية لا توزع. مرَّ التاكسي الأول وهو مكشر، الثاني،يبصق،الثالث توقف فركبت إلى جانبه،ولا أستطيع لا أنا ولا غيري الركوب خلفه مباشرة لأن جنابه يسند مقعده إلى أقصى الخلف كأنه مسترخ في بيته،ولا يفهم مطلقا أنك تستأجر السيارة،أي هي في حكم ملكك. من حسن الحظ أننا في رمضان، وإلا لتضّبب داخل السيارة بدخان السجائر،سينفث الواحدة تلو الأخرى بيد،بالثانية يتكلم في النقال وصوته ينافس أغاني هرج صارخة،أو أدعية صارعة بين التهديد والوعيد، ونحن نهتز علوا ونزولا فوق المطبات، بينما قلبي يرتجف في يدي من السرعة التي يتحلزن بها بين أقرانه لنيل بطولة أفحل سائق في عمان! من غير مقدمات سأل: حضرتك من تونس؟ لم أجب، فاسترسل كأنما يواصل حديثا بدأناه العام الماضي: يا أخي الناس ما عادت تعرف نيل الأجر. نحن في هذا الشهر المبارك،والمفروض أن يعطي الناس كل ما عندهم، انظر إلى شركة السيارات هذه، لو جاءه فقير فلن يتصدق عليه بخمس ليرات، يا أخي هل تعرف فلان أحد أكبر أعيان البلد عندنا والله لن يعطي ليرة، يا أخي هل عندكم هذا في تونس، قلت يا أخي أولا أنا لست من تونس، ثانيا لن أعطي لأحد ما لا يستحق في أي شهر من الشهور، وثالثا ما دخلك أنت في مال الناس وما سيحصدون في اليوم الآخر،أم أن كل سائق تاكسي في البلاد العربية، كما في المغرب وتونس ومصر،أصبح يتولى الوعظ والإرشاد ودور الإفتاء، وعند هذا الحد اهتززنا بقوة فوق مطب عال فنفحته أجره بسرعة وقفزت من السيارة، وقفلت عائدا لم أقض غرضي، في أذنيّ صخب وصفير واصطفاق أبواب وقرع مطارق وموسيقى ضاجة تريد أن تخترق السبع سماوات،، وهذا كله، أفضل من الوصول إلى مطب،،، لا تحمد عقباه! اليوم السابع أخيرا،ها هي ليلة العيد،الأطفال والنساء،والرجال القوامون يجوبون الأسواق ليقضوا للعيون المتطلعة بعض الحاجة، وفي القلب حاجات. حميد سعيد، والصديق هشام عودة،وأنا محمولين فوق كف "وسط البلد" من ناحية يأتينا صوت مذياع يتحسر مغنيه:"لسّه بدري يا شهر الصيام!"ومن الرصيف المقابل ثريات متراقصة،ومباخر تفوح بالعود والمسك والعنبر، أنا بينهما تجذبني السلالم الصاعدة في الأزقة الفرعية المعتمة،هنا حيث تكتنز الأسرار، حسبتني في لشبونة، وسأصعد بعد قليل السلالم نفسها لأشرب كأس بورتو في ضيافة فرناندو بيسوا، وسنهبط مباشرة إلى كهفه السري حيث كتب"اللاطمأنينة" ونستمع إلى إيفورا تمطر من حنجرتها برشلونة ب"ٍsaudad"، ثم نمتطي جناح سحابة تحط بنا على شرفة من شارع رينبو، من هنا سنطل على عمان القديمة وهي تواجهنا في شكل مبان سماوية شبابيكها نجوم متجاورة ومتصاعدة كالطوابق، وفي غرفها الساجية قلوب أحسبها تتضرع بالخفقان،وإذ ذاك مددت يدي التي صارت فلكا وشراعا ومخرت حتى وصلت أكاد أحط فوق صدرها البركان، ولما لم تحرقني حممها طاف ببالي نزار قباني فرحت أدندن:"زيديني عشقا زيديني" فما كان منها إلا أن صهلت كمهرة جامحة:"هل جننت يا مغربي،أوَتريدني أن أنشره "في الميدان"؟! نفخت فيها،بالله عليك قولي لي شَسَوِّي،كلما جئتك أراني أخرج عن طوري،وشوفتك لا تطفئ غلتي ولا التياعي؛شسوّي؟!"وهنا زحف البركان دفعة واحدة،وإذا بي بالغ ذروة جنوني، وعمان صارت لي كلها جنانا ورحنا نتقاطف، آه، كل عام وأنت جنتي... يا عمان.