عبد الله العروي يطرح المؤرخ والمفكر المغربي، الدكتور عبد الله العروي، في كتابه القيم « المغرب والحسن الثاني » (1)، عددا من القضايا ذات الحساسية السياسية العالية، لكن برؤية العالم والمفكر الذي لا يجامل الحقيقة التاريخية. وهو كتاب يكتسب قوة راهنية تعنينا جميعا كمغاربة على أكثر من صعيد، لأنه يقدم لنا جميعا رؤية كم المغرب والمغاربة في حاجة إلى ذات العمق المعرفي والعلمي الذي تصدر عنه. ولقد اخترنا هنا مع الأستاذ الصديق سعيد بوخليط، الباحث المراكشي الشاب، أن نطل على بعض الأسئلة المرتبطة باختلاف التحليل التاريخي عن التقويم السياسي، وأن نقارب أحداثا آنية طازجة ببلادنا برؤية علمية، تسعى للتأمل التاريخي، بما يفيد حسن بناء الغد المغربي المشترك.. ٭ الدارالبيضاء، يوليوز 2000 : الأربعاء 19 يوليوز 2000، استضافني برنامج «في الواجهة»، الذي تشرف عليه السيدة مليكة مالك. ثمانية سنوات، قبل ذلك، وبالضبط يوم 4 يونيو 1992، دعتني السيدة فاطمة لوكيلي إلى برنامجها «رجل الساعة». تشتغل الصحافيتان بالقناة المغربية الثانية (2M)، والتي كانت بداية في ملكية القطاع الخاص، لكنها وصلت إلى حافة الإفلاس، ثم تدخلت الدولة لإنقاذها وفق شروط معينة، انتقدتها بشراسة آنذاك قوى المعارضة، التي اعتقدت بأن القناة ستخسر جراء هذا التغيير، وتصبح أقل حرية مع وضعها الجديد شبه العمومي، لكن بالعكس لاحظنا توضيحا للوضعية. حينما تم الاتصال بي سنة 1992، كل واحد في تلك الفترة، كان يتساءل بخصوص إمكانية حدوث اتفاق بين الملك والمعارضة، قصد تشكيل حكومة وحدة وطنية. الأوساط الرسمية، ولاسيما أصدقاء إدريس البصري، توخوا تغييرا جزئيا في الفريق الحكومي، باختيار عناصر شابة، تُنتقى من بين المتعاطفين مع اليسار. أعتقد، في هذا السياق، جاءتني دعوة التلفزة رغبة منهم في معرفة مدى استعدادي، للإدلاء علانية بشهادات مثل: انتقاد تصلب قادة المعارضة وعجزهم عن التطور، الدفاع عن مبدأ الوحدة حول الملكية، ثم امتداح ليونة وبرغماتية السياسة المتبعة حتى ذاك الوقت. اتسم الإعداد للبرنامج التلفزي، بنوع من الفوضى، نظرا بالتأكيد للتعليمات المتناقضة، أدت في الأخير ثمنها ظلما مقدمة البرنامج. أثناء المساومات، تلقيت اتصالا هاتفيا تحذيريا، من طرف رجل اشتُهر بكونه صديقا لرضا كديرة، والذي عبر لي غير ما مرة عن مشاعر المودة. خاطبني قائلا : «انتبه، لا تشارك خاصة في البرنامج التلفزيوني. إنه فخ نُصب لك، لإفقادك حظوتك...، من قبل من ؟ إنهم، اليساريون، بحيث تعتبر فاطمة لوكيلي قريبة جدا منهم». دون رغبة مني في أن أعرف أكثر، أكدت له التزامي بالموعد واستحالة الإخلال به. مع ذلك، كنت مضطرا حقا كي أعاين تأجيل موعد تاريخ تسجيل البرنامج، لمرتين. أيضا، وخلافا للتعهد الذي تلقيته سابقا، فلن تُعرض الحلقة مباشرة، لأسباب تقنية حسب تفسيرهم. قررت الوفاء لما التزمت، به، مع اتخاذي في الآن ذاته لجميع الاحتياطات. وقعت مع المدير التقني وهو فرنسي، إقرار شرف، جاء مضمونه كما يلي : «تلتزم قناة (2M) الدولية بهذا الإقرار، تقديم مضمون البرنامج التلفزيوني، كما هو بالتمام؟، خلال اليوم والساعة المشار إليهما. كل تقصير، بخصوص هذا الالتزام المتفق عليه بحرية، يبطل فورا الاتفاق الحالي». بدت مخاوفي بدون مبرر، لكنها تعكس مناخ الارتياب الذي هيمن على الفترة. قررت مع نفسي، الإجابة بصراحة وتفصيل عن كل سؤال سياسي يُوجه إليّ، لكن في المقابل، دون أن أبادر. فقد اعتبرت ذلك، من شأن الصحافيين الثلاثة الجالسين أمامي، بيد أنه لا واحد منهم سعى إلى تحمل المسؤولية. هكذا، تحول النقاش إلى ما هو ثقافي واتخذ على الفور طابعا نظريا. بواسطة الثقافة، تبنيت في حقيقة الأمر موقفا اتجاه أغلب الإشكالات التي كانت موضع اهتمام، وقطعا في غير الأفق الذي توخاه من كانوا ربما وراء فكرة اختياري. بينما، تحتم على المستمع بذل مجهود لتأويل تصريحاتي، وهو ما قد يشكل مؤاخذة عليّ. أما، الحلقة التلفزية، لشهر يوليوز 2000، فأحاطت بها أجواء مختلفة كليا، عن تلك المهيمنة سنة 1992. تميزت صاحبة البرنامج بكفاءتها، مثل زميلتها السابقة، لكنا خاصة أكثر صراحة، على الأقل في الرضوخ لضغوط مضادة. جرت استعدادات التحضير في ظروف عادية، توزيع الأدوار تقرر بسرعة، والحلقة كانت مباشرة. بالرغم، من قرار آخر لحظة يقضي بتأجيل موعد بثها إلى الأسبوع المقبل، لسبب معين يصعب توقعه (2). سنة 1992، لم يكن لديّ أي استعداد لإرضاء البعض، من خلال توجيه انتقادات لمواقف المعارضة والتي وجدتها صائبة حتى ولو أبديت تحسري نظرا لافتقادها الحزم أو الوضوح. أيضا سنة 2000، افتقدت لنفس الاستعداد كي أصرح، مثلما تمنى ذلك البعض ربما هم أنفسهم دائما بأن تجربة التناوب التي انطلقت سنة 1997، قد انتهت إلى نقطة الفشل. رغم عدم استجابة الحلقة التلفزية لطموحات البعض، فقد خلفت في مجملها انطباعا جيدا سواء لدى الطبقة السياسية بما في ذلك الفريق الحكومي القديم، ثم الجمهور بشكل عام، والذي أعطى الدليل عن اهتمامه بالسياسة وفهمه لها، حيث نوقشت أمامه بوضوح وصراحة مجموعة قضايا تبدو بعيدة عن هواجسه اليومية كالتعديل الدستوري مثلا. لذلك، فصعوبة التواصل مع «القوى الأمية» إذا وُجدت، لا يفسرها مضمون الخطاب السياسي بل اللغة المحلية التي يتعقد المسؤولون بضرورة توظيفها. الحلقتان واللتان كما يبدو، تصدّت إلى موضوعات مختلفة. تلتقيان، في الواقع كثيرا. تقف الثقافة والتي تكلمت عنها بشكل مسهب، مما خلق خيبة أمل كبرى لدى المحاورين، مقابل السياسة، وقد سعوا لاحتجازي داخلها. بهذا التعارض، سعيت إلى التمييز بين المدى البعيد والقصير، الرؤية المستقبلية وإدارة اليومي، ثم هاجس الإصلاح ومراعاة المحافظين. بناء على المدى القصير للسياسة اليومية والمصالح الضيقة، سارع البعض إلى إدانة حكومة وصفوها تعسفيا باليسارية، في حين يشكلها تحالف واسع، مما يرغمها على التوافق بخصوص كل مشروع مرتقب. بالنسبة إليهم، لا يمكن تقييم عمل الحكومة، إلا على هذا المستوى، بما أن الجانب الآخر أي السياسة الكبرى، والتي هي تحديدا بين أيادي أمينة، فإنها محظورة عليهم. تموضعت بالأحرى عكسيا. فمن خلال مستوى المدى القصير، أبرأتُ ذمة الحكومة، لأنه بالنظر إلى الظروف، ظهرت أكثر فعالية مقارنة مع سابقاتها. لكن في اللحظة ذاتها، كنت مقتنعا كذلك بأنه إذا لم تضع أمام أعينها ولو جزئيا مبدأ الأمد البعيد، فلن تكون عند نهاية ولايتها في مستوى ما التزمت به من وعود، بمعنى تهيئ البلد نحو تناوب حقيقي، سيشكل احتمالا سياسيا طبيعيا وتجاوز وضعية كونه قياسا استثنائيا نلتجئ إليه أثناء أزمة حادة. أكدت للمحاورين، بأن المستقبل يهمني أكثر من الماضي. ثم، كررت القول، كيف أن وصول الحكومة الحالية (يقصد العروي حكومة التناوب) إلى السلطة، أقل أهمية مما ستنجزه حتى نهاية صيف 2002. مع ذلك، الحكم على عملها، لا ينبغي تجريده عن ما تم رفضه أو تهميشه منذ 1962. وإلا، فالخطأ يتربص برؤيتنا وتقويمنا. لتوخي الصواب، علينا دائما الاحتفاظ في ذهننا بالفكرتين التاليتين: اختلاف التقويم السياسي عن التحليل التاريخي. الاستقرار، ليس هو السكون. والحالة هذه، تجلى لي بديهيا أن الانتقادات المنصبة على التناوب، لم تضع في حسبانها تلك الحقيقتان، وإلا فحساباتهم خاطئة. في الواقع، لم يعملوا إلا على المغالاة في اختيار موقف، مألوف لدينا، تبناه الوطنيون فترة الحماية، ثم تعضد واكتسى تقريبا بعدا تقديسيا. لقد اعتدنا في حقيقة الأمر، أن نفصل منهجيا الراهن السياسي عن سياقه التاريخي، بالتالي نحكم عليه بالتحول إلى شيء «تافه». من هنا، وكما تكشف عن ذلك صحافتنا يوميا، التعايش بين خطاب ملغز والإشاعة الأكثر حمقا، حيث يظهر بأن الأول يشتغل لإخفاء الثاني وتوطيده ثم مساعدته على الانتشار. إن لغة الخشب اللغة الرسمية ليست ظاهرة لسانية أو نفسية، بل نتاج تريده تربية خاصة تستهدف جعلنا ننفر من السياسة بالمعنى القوي للكلمة، بحيث نتملص منها والارتماء سواء في نزعة اقتصادية أكثر سطحية أو التاريخ الجنيالوجي. رجل السياسة، وبالتحديد الفاعل في الحياة السياسية المغربية، يعتبر نفسه قبل كل شيء مثل منفّذ، دون طموح منه إلى أخذ زمام المبادرة، وضرورة إفصاحه عن الإرادة والخيال. هل من المدهش إذن، تراكم مشاكلنا وتعقدها مع مرور الزمان ؟ لقد تغاضينا عن انفجار النمو السكاني، بينما كان بإمكاننا، منذ 1960، البدء بعملية تحديد الولادات، فالنساء حتى المتواجدات في البوادي أبدين موقفا إيجابيا بهذا الخصوص،3 مثلما أظهرت دراسات سوسيولوجية حادة. لم نقم بذلك، ظنا منا بأن تقليص ثرواتنا منذ البداية سيؤدي باستمرار إلى تخفيضها. هذه الواقعية، تعارضت مع القيم التي توخينا ترسيخها. طبعا، وضعنا لأنفسنا اختيارا، تمثل في إعطاء الأولوية للفلاحة (بناء السدود الكبرى، توسيع قناة الري، سياسة الماء، الزيادة في إنتاج الفوسفاط، مشروع صناعة السكر، إنتاج الزيوت، الإدماج القروي، تنويع ثقافات التصدير...إلخ). كل الخبراء، حينئذ امتدحوا هذا المسار. لذا، عوض انتقاده، ظلما فيما بعد، من الواجب الاعتراف، بأنه جسد الجانب الفعال للسياسة المتبعة طيلة ثلاثين سنة، بغير ذلك، سيعاني المغرب حاليا الجوع والعطش، وهو يفتقد لعائدات بترولية لتمويل وارداته من المواد الغذائية. لكن هذا، لا يجب أن ينسينا بأن هاته السياسة، مثل تلك المتعلقة بالتجهيز عامة والتي هي نجاح أيضا، تعتبر استمرارا توسعيا لسياسة الحماية، حيث بوسعنا التأكيد على حتميتها نظرا لوضعية المغرب الجغرافية، في حين لا يمكننا الإقرار بكونها تنطوي على كثير من الخيال، وخاصة هذا الاحتراس الذي نترقبه من مسؤول سياسي، أثبته في ميادين أخرى، لاسيما الديبلوماسية والتربية. لماذا تنبهنا بصدد وضع دون آخر ؟ فلماذا لا نتصف بالحذر هنا وهناك ؟ ألا نمتثل إذن، لاعتبارات أخرى غير تلك التي ندعيها؟ الآن، وقد تفحصنا كل شيء على الأقل من الوجهة المادية، فلا حكومة بإمكانها قط بلوغ مستوى طموحاتها، ولا الوفاء بكل التزاماتها. لذلك يسهل على خصومها، وحينما يقررون، اتهامها بفشل متوقع، متناسين، بأن الإخفاق يصعب بصراحة فصله عن الاختيار القائم منذ نصف قرن. ولكي لا نصطدم اليوم بوضعية، هذا «العجز البنيوي»ينبغي منذ البداية على الحكومة الاستناد إلى خطة مزدوجة، الفلاحة بالتأكيد، لكنها أيضا مصحوبة بثقافة جديدة. يجب أن تدرك بمختلف الوسائل، وفي كل المناسبات، ثم مع كل الأعمار، بأن الثروة الوحيدة داخل بلد مثل المغرب، تكمن في العمل، والذي من الملزم أن يصير منتجا شيئا فشيئا، بمعنى مؤهلا أكثر فأكثر. كل ثروة أخرى حقيقية مثل الفوسفاط والسياحة أو محتملة كما هو الحال مع الصيد أو البترول، تبقى في أفضل تجلياتها مجالات مساعدة. سيقول البعض : «لقد أصبنا عندما منحنا الأسبقية للبادية. غير أننا، أخطأنا الهدف. كان، من الأجدر منح الاهتمام لما تقاعسنا بشأنه أي ثقافة المعاش، وليست ثقافة الثراء المخصصة للتصدير، حيث بسببها، أثقلنا أنفسنا بديون، تدوم لثلاثة أجيال على الأقل». ربما، لكن ما لا تراه هاته النّقدات، عدم اختيار البادية لذاتها على الأقل، بل لأنها تشخص التقليد. بالتالي، فالبادية التي تعيش في بحبوحة، ستتموقع بشكل جيد لإضعاف شوكة الحداثة. لم، يقف هذا التصور عند حدود الجانب الاقتصادي، لكنه أثر أيضا في المدينة والتي عوض أن تظهر ذاتها كفضاء للتمدن بامتياز، استسلمت لعملية «ترييف» «ruralisation» سريعة على مستوى الأسفل (الهجرة القروية) ومن الأعلى (إعطاء قيمة للفولكلور). مرة أخرى، ليس ما تحقق هو ما يجب انتقاده، لكن ما أُهمل بالأحرى وتنكرنا له، يستحق التذكير به راهنا بلا انقطاع، لأنه فقط عبر ذلك سيتأتى لنا تصور سياسة حقا جديدة. حاليا، ونحن ندرك طبيعة النتائج المتوقعة أم لا، عن الاختيار السائد، ننظر فعلا من الآن فصاعدا إلى أولوية «الثقافي» باعتباره أملنا الوحيد للخلاص. أمام الصعوبات المتفاقمة، يتجه النزوع الطبيعي نحو الاحتماء باللاعقلاني، والاعتقاد بأن التعزيم يبعث الثروات من تلقاء ذاته، في حين يعمل فقط على رهن المستقبل بوسائل عديدة، للتخفيف وقتيا من آلام الحاضر. لا يمكننا، جعل عموم الناس موضوعيين وواقعيين، إلا إذا تبنى الجميع دون تردد الثقافة الحديثة في منطقها الأكثر صلابة، فهي نادرا ما تُكتسب بالثقافة الفردية وحدها نستحضر مثال عدد كبير من الطلبة والعمال المغتربين لكنها تصير حقا فعالة، فقط حينما تنتشر في المجتمع تخترق عمقه، فنحصل بالتالي على حمولة تربوية من نوع مختلف. وإلا، فالاكتشاف الأكثر حداثة، يصلح لتقوية التقليد كما نلاحظ اليوم مع الأنترنيت والهاتف المحمول. لذلك، كي تتجذر هذه الثقافة الجديدة، يتحتم على الدولة أن تتدخل وبقوة، من خلال البدء أولا بعملية تحديث لنفسها aggiornamento، وتعويض المنظور السياسي (الضيق)، برؤية تاريخية (المدى البعيد). لكن، بما أن هذا التصور، يهم البلد فلا يمكنه التبلور في غياب اتفاق أولي. مسألة، تبرر في آخر المطاف التناوب على الطريقة المغربية. يسهل انتقاد الحكومة الحالية (يقصد العروي دائما حكومة التناوب) بناء على نتائجها، وهي التي تشتغل وفق أبعاد اتفاق سابق، انسجاما مع منظور مغاير، لما خُطِّط له هنا، سؤال مزعج، يقفز فورا إلى الذهن: هل بُرمج لفشلها سابقا ؟ هل استهدف الأمر فقط إزالة عقبة، وإبراز أن التناوب «فكرة جيدة» لكنها زائفة، ثم العودة ثانية إلى حكومة لا سياسية، تقنوقراطية، وإدارية وحدها تلائم حقا، حسب رأي البعض، ملكية رئاسية ؟ والحالة هاته، فهذا يعني عدم موت فكر 1960. أحس، بشعور واضح جدا، أنه لولا وفاة الحسن الثاني، لاستمرت تجربة التناوب قائمة. فبعد، مرور سنة من تولية الحكومة، أمكننا التقاط إشارات متعددة لا يحوم الشك حولها : (المقالات الافتتاحية للصحافة الاقتصادية، تصريحات إدريس البصري، تسامح قوات الأمن، التشجيع الضمني لكل معارضة يمينية كانت أم يسارية). لكن، الرحيل المباغت للملك، هو ما أنقذ مؤقتا على الأقل، هذه الحكومة الائتلافية، والتي يجب الجزم مرة ثانية بأنها قامت بكل ما تقدر عليه، في إطار شروط سيئة (جفاف مستمر، تضخم الدرهم، تصاعد المنافسة الآسيوية ، صعوبات مع الاتحاد الأوروبي، ارتفاع ثمن البترول، وكذا مزايدات نقابات الموظفين والعمال). أما، أقصى ما يُفترض أن تواجهه، فيشير إلى ما يلي : قد يتم إعفاؤها وتعويضها بحكومة انتقالية، تتكلف بتنظيم الانتخابات المقبلة، وهو سيناريو مألوف لدينا. من المحتمل أيضا، أن يتخلى عنها أحد الشركاء لدواعي انتهازية انتخابية. أو، البقاء إلى غاية انتهاء ولايتها ثم استهجان عملها بعد ذلك، إلخ. ينبغي فعلا توسيع مجال النقاش وتخيل ما بعد 2002. كان الحسن الثاني رجلا موهوبا ومثيرا، بوسعه من غير شك، النجاح في مهنة أخرى الأعمال، القانون، الطب، إلخ غير المُلك. لقد وجد نفسه يتهيأ للسلطة من قبل أشخاص «محافظين» بالمعنى الأوروبي، ما بعد ثورية المصطلح. لم يكن، ملكيا ساذجا، اتخذ الاستبداد معه في الغالب مظهر اعتقاد. أما، الحديث عن استعادته للمخزن القديم، فليس بالفهم الدقيق لكونه أقام مخزنا من نوع جديد أكثر وعيا بأهدافه وآلياته. لقد كان وفيا للتراث المغربي ثم متمردا عليه في الآن ذاته، مما خول لنا مشاركته نفس الحرية. ازدواجية، تتجاوز البسيكولوجيا، أدت إلى الصعوبات التي عرفها المغرب ولا زال يعيشها. تلك في نظري مجرد ملاحظة يصعب دحضها، وليس تقويما نقديا. لقد بينت بما يكفي في الصفحات السابقة4 عدم سهولة تحديد درجة التلاؤم بين إيديولوجية الحسن الثاني المحافظة والحقيقة المغربية، مع معرفة إلى أي حد تلهم وتؤطر إحداهما الأخرى. لكن، يبقى مع ذلك بالنسبة لحياة وطن، في لحطة ما أو أخرى، الفصل بين ما هو مُؤسِّس ومؤسَّس. وليس صدفة أن كلمة «عاهل» في الفرنسية ثم «سلطان» كما وردت في اللغة العربية لهما معنى ثنائيا، مجردا وحسيا. فالإشكال الذي طُرح عندنا سنتي 1908 و 1960، لم يجد بعد حله. كان لدى الحسن الثاني يقينا راسخا، بضرورة أن تبقى دائما الملكية المغربية مُشيّدة ، وهو ما يشير إليه رفضه «إخضاعها لمعادلة»، كما آمن بلزومية إدراج هذا المبدأ في الدستور دون إدراكه منه، بأنه يضع هذا الأخير أمام تناقض يتعذر إيجاد مخرج له. بإمكاننا طبعا، ونحن نتكلم عن الخصوصية الوطنية، الدفاع عن المظاهر لفترة معينة من الزمان، غير أن الحقيقة تفرض نفسها في النهاية، سواء عبر تطور إيجابي، أو من خلال شلل متفاقم كما هو الشأن بالنسبة لوضعيتنا. وكما كان الموقف، مع علال الفاسي الذي عجز عن إقناعنا بقدرة الشورى الإسلامية على التحول إلى ديمقراطية حقيقية، كذلك لم ينجح الحسن الثاني في أن يفسر لنا كيف، تستطيع ملكية «مؤسِّسة»، بكيفية أبدية، أن تكون منبعا للحرية السياسية بمعناها الكوني فهما وتطبيقا. عرف الحسن الثاني، المنفى حينما عاش لفترة طويلة في إطار حرية خاضعة للمراقبة، تحت نظرات مرتابة لحاكم استعماري، فظ وخشن. بالتالي، قد نفهم، سبب احتفاظه بضغينة كبرى. أن يسامح، بالرغم من كل شيء يعتبر في ذاته دليلا عن الشهامة والذكاء خاصة. أحدث فيما بعد، انطباعا لاسيما لدى الوطنيين، بأنه شاب متسرع يثير الخوف فولد شعورا بالرفض، سيجيب عنه الحسن الثاني بسياسة «كل شيء أو لا شيء». مع ذلك، وبحكم اختبار الوقائع أي ما يوضع مطلقا في الاعتبار، فقد اقترب من الدور التقليدي للسلطان المغربي، لكنه واصل اتخاذ قرارات فجائية، حالت دون رؤيته بأن معارضيه لا يفكرون كذلك، استنادا على منطق «كل شيء أو لا شيء». 1- Abdellah Laroui : le Maroc et Hassan II. Un témoignage, centre culturel arabe, Les presses inter universitaires, 2005, PP : 217-228. 2 تصادف التاريخ المحدد بداية، مع الذكرى الأولى لوفاة الحسن الثاني. تقليديا، ترتبط الطقوس الدينية بمسألة رؤية الهلال وموقف السماء، حيث يستحيل تحديد التوقيت سلفا. 3 دراسة أنجزت سنة 1960 حول إدراك النساء المغربيات لوسائل منع الحمل. 4 يقصد العروي هنا، ما سبق من فصول في كتابه «المغرب والحسن الثاني».