21 ماي 1984 عزيزي عبد الكبير، إن رسائلك جاءت تفصل بين حلقات هذا الزمن الذي تتدافع فيه الأحداث. وأعتقد أن لك، أنت أيضاً، نصيباً في هذه التدافع، حسب ما تفيد الصحافة الفرنسية. وأما من جانبي، فإنني مشغول بظهور «الباتيو رقم 2»، الذي بدأ يهتدي إلى أسلوبه. فهل يجده؟ حقاً لا... لكن ربما أفلح في التعرف عليه، والتعريف به أيضاً. وأنا مأخوذ، كذلك، بذلك التشويق المتعلق ب «الإسكندريات». لست أدري أين ومتى ستصدر. إن الأمر يبدو في صورة تهيج صغير. إن «الإسكندريات» تبتعد... ولربما تكون انتقلت إلى الطور المخفف، طور النسيان، وامحاء الأثر. وهي بتحولها إلى اسم علم، تفقد، بتوالي السنين، خصائصها الإسمية، الأليفة. أنتظر رسالتك لكي أدفع ببيادقي عن يهود-عرب/ كتابة-لقاء. وفي انتظار ذلك، أبعث إليك بهذه الأسطر القليلة، عربون صداقة. ودمت بخير جاك حسون الهرهورة، 27 يونيو 1984 عزيزي جاك، هذه ليست، بالتأكيد، آخر رسالة لي. إن هذا التراسل لعبة رسائل؛ حيث يضع كل واحد بيادقه، حسب تعبيرك. تراك تتذكر اتفاقنا الأصلي؟ إنني أعود للاستشهاد من رسالتي ليوم 6 شتنبر 1980؛ التي جاء فيها : «... تراسل لا حقيقي، ولا زائف، بل يتجاوز هذا التعارض، تراسل بغاية خطية وقابلة للطبع». منطلقها، بطبيعة الحال، الصراع العربي-اليهودي. فليكن. إنني أواصل الاشتغال على هذا اللغز (الذي ينبغي أن يخضع للتحليل) في الانتقاء، وبالتالي إقصاء اليهودي، باعتباره، بطبيعة الحال، كائناً مختاراً من لدن إلهه، ما يقضي عليه، على الفور، بالإقصاء من بقية العالم. وإن هي إلا أسطورة، بطبيعة الحال، لكنها أسطورة تجسدت في جسد اليهودي، كوهم يتغذى تاريخياً من هذه الوضعية، ومن تلك العلاقة؛ علاقة انتقاء/إقصاء. إن هذا التشبث بالأسلاف هو الذي يديم الإيمان بالوحدانية اليهودية، لا العكس، حسب ما يبدو لي. فأنا، على سبيل التمثيل، أقرأ لدى هذا الشاعر المجيد، بول سيلان، هذا العبارة استقاها من مارينا تسفيتايفا، وهي عبارة تبدو لامعقولة، وإلا فغير قابلة للفهم : «كل الشعراء يهود». فبمعنى سام، يمكننا أن نزعم أن ما يحدد اليهودي، أليس كذلك، إنما هو نوع من العلاقة بالكتاب، بالنص المقدس. فكون المرء يهودياً يدخله في علاقة بكل مقدس : فلا يعود في الأمر من خصوصية، ولا من فرادة لشعب محدد، بل هي علاقة أساسية بالوجود : نحن يهود باعتبارنا أصبحنا قراء لكتاب، وقراء لكتاب بال عتيق. عندما قال الله لمحمد : «اقرأ»، كان بهذا القرار يذكر بالأمر إلى القراءة الذي أعطي إلينا. وبهذا المعنى، تأتي، كذلك، ازدواجيتي اللغوية بين الله والرسالة، أو بالأحرى الرسالة التي يرسلها الرسول إلى نفسه، بين الأمر باقرأ في لغة والكتابة بأخرى. وبهذا المعنى، يكون الشتات اليهودي يعيش في هذا الأمر المزدوج المتناقض. وانظر كيف يستعمل سيلان العبرية، تلك اللغة الميتة في برج بابل الصغير لهذا الشاعر المجيد. لكن الجملة التي وردت عند تسفيتايفا يمكن توصَم بالشناعة، باعتبارها تمضي بالشعر إلى أن تجعله امتيازاً يُخص به اليهود بما عانوا من هذا الامتياز وما تحملوا فيه. إن هذه الجملة تعود لتعزيز حكم مسبق قبَلي. لكن التباس هذه العبارة، بأي معنى أخذناها، تظل، على كل حال، شديدة الجراءة، دائماً، حاملة لحرب توقيعات. وما قولنا في الصدمة التي تقوم بين الصوت والمكتوب في العبارة اليهودية؟ وما في وهم الانتقاء من قدرية لاسبيل إلى التغيير منها؟ إنني أعيدك إلى هذه السبيل، وإن تكن تحدثت عن هذا الأمر في رسائلك [السابقة]. خلال الشهر الماضي، شهد المغرب حدثين «سياسيين» : مؤتمر اليهود من أصول مغربية، ثم أعقب المؤتمر يوم خصص للقدس، وكأنما أريدَ بربطهما على هذه الصورة، وجعل الواحد منهما يلغي الثاني، اعتراف : لا بدولة إسرائيل، بل بالسيفاراد، وبالتالي، كذلك، بشعب إسرائيل. ولا أحسبها إلا خداعاً، دون شك. فقد دعا الجانب الرسمي المغربي إلى التضامن الإبراهيمي. وأما الرأي العام فقد تحكم فيه التساؤل : ما معنى هذا الحضور في المغرب لهؤلاء الأعضاء في مجلس النواب الإسرائيلي، والذين يقيمون، حقاً، في إسرائيل؟ وأما الذمامة الرسمية فتقول إن المغربي، يهودياً، أو غير يهودي، لا يفقد جنسيته أبداً، ولو أسقطها عنه أو أبدلها جنسية أخرى. (المغربي يولد مغربياً، ويموت وهو مغربي). لذلك كانت تلك الملحة التي تروج منذ زمن طويل عن اليهود المغاربة : إنهم يأخذون معهم مفاتيح بيوتهم عند رحيلهم عن المغرب. فالبيت، الذي يمكن نزع ملكيته، يبقى مقدساً على طريقته. وبدل المفاتيح، يوجد دائماً، في ما يبدو، حارس يلبث مقيماً بعد رحيل الجماعة اليهودية. إنه شاهد، كثيراً ما يكون قديماً، بالياً، ومهجواً، أو يكون مجرد رفات تستمر حية في تلك الأسطورة. لكن مأساة هؤلاء الشهود فظيعة، إنها تمثل تحللاً، أكثر مما تمثل شهادة، وحارساً على الموت، أكثر مما هو حارس على بقيا تُترجى لها حياة. لقد رأيت الشاهد في الجديدة، مسقط رأسي، فرثيت لحاله. وأجاد المالح الحديث عنه في روايته : «المجرى الثابت». فالرواية تبتدئ بتصوير شاهدة على قبر آخر يهودي توفي في مدينة أصيلة، في شمال المغرب. وكما قلت لك، فقد شاركت ندوة مصغرة بين كتاب عرب وإسبان، في روندة، تلك المدينة الطائرة، المشرفة على أودية خلابة، وقد كانت من أواخر المدن التي استعادها الملوك الكاثوليك من أيدي العرب. وهي المدينة التي اختارها الشاعر ريلكة لتكون له مستقراً ومقاماً. الآن، تظهر في إسبانيا «عودة المطرود»، وإن في صورة هامشية. وقد جاء الروائي غويتيصولو بمفهوم «الموديخار»، لتسمية هذا الاختلاط الثقافي الراهن بين الإسبونة والعروبة. وهو يريد أن يصير هذا الاختلاط إلى شكل للكتابة تميزه هذه الهوية الجمعية، وبهذه الحساسية التي تكونت على امتداد تاريخ طويل من الاقتتال. وقد سعى في كتبه إلى توظيف هذا الشكل، بمنأى عن كل منزع فولكلوري. بأن يدخل الآخر في كتابته بما هو عنصر يداخل جسده. وههنا، يبدو لي إن هذه التجربة يمكنها أن تمضي إلى أبعد من أي غرائبية في الأدب الفرنسي، الذي يبقى منغرساً في خرافية للحلم والتسلية غير المسؤولة. وهي في أحسن الأحوال، تدخل في حنين من النوع «الرومنسي»، على طريقة شاطوبريان. وإن سيغالين هو من مهد السبيل إلى جمالية للأجنبي، تحترمه في اختلافه غير القابل للاختزال. إن إسبانيا تتحرك، وتتقدم إلى الأمام. وهو تقدم يبتعث، في الوقت نفسه، قوةَ الذاكرة. وإنه لشعور غريب بالعودة إلى إسبانيا. وأنا، باعتباري مغربياً، أعود إليها في التقاء تقاطعين صادمين. أحدهما، يتمثل في الهزيمة العربية هناك، والأسى الذي يبعثه الحديث عنها، وصوغها في قصائد. والآخر، الاستعماري، الذي لا يزال يفعل فينا فعله إلى اليوم. كما هي، على سبيل التمثيل، لغتي الفرنسية ? التي فرضت عليَّ في البداية ? فهي لغة لا يمكن لي الفكاك منها. لقد كانت حدثاً صادماً، وقالباً للجذور. ويوم فهمت أنه يحسن بي أن أحول غير القابل للتحويل، صار «أسلوب»ي قاطعاً، من جملة ينبغي لها أن تستقبل تفكك الاحتقار لكي تشهد في ما يتجاوز الصدمة. إننا لا نكتب إلا بما يتعذر علينا الخلاص منه، لكننا نموت من عدم قدرتنا على رده إلى الآلام التي يصدر عنها. كذا أكتب، في ما أعتقد. وتقبل عبارات صداقتي. وتحياتي. ع. الخطيبي ع. الكبير الخطيبي وجاك حسون الكتاب الواحد ترجمة : عبد الرحيم حزل (16) هذا الكتاب لقاءٌ، أو بالأحرى ثمرة لقاء. فأما أحدنا، فمولود في الإسكندرية، ويعيش في باريس، وأما الآخر، فمولود في الجديدة، على الساحل الأطلسي، ويعيش في المغرب. كان التقاؤنا من حول كتبنا ومن حول كتاباتنا. ثم لم نسلم من إغراء مواصلة هذه الاندفاعة [نحو بعضنا البعض]. لكننا حرصنا، على امتداد هذه السنوات الأربع، ألا نفرط في شيء من جوهر أدبيات الالتقاء. لقد كانت أحداث من قبيل ندوة الرباط عن الازدواجية اللغوية، أو أحداث أخرى، على صعيد آخر مختلف، من قبيل حرب لبنان، هي التي يفترض أنها تمنح هذه الرسائل قوتَها القاطعة. وعليه، فقد لزمنا، كما لو من غير إدراك منا، أن نعتصم بما بدا لنا شيئاً أساسياً؛ ألا وهي اللغة، والتاريخ، والعلاقات الملتبسة القائمة بين ما هو أغلبي وما هو أقلي، وبين ما هو أهلي وما يسمى دخيلاً، وفي الأخير عودة الديني والأصولي، اللذين صار يتعين على اليهود والمسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط أن يواجهوهما في الوقت الراهن، كلاً على طريقته. لقد كنا مشغوليْن بقضية لا نرانا وفَّيناها حق قدرها، ما جعلنا نطرق هذه المشكلات في عجالة، وفي تصميم على أن نقول، في زمن تعمدنا تحديده [وعدم الخروج عنه]، ما كان يهمنا [دون سواه]. وكانت النتيجة : كتاباً مشتركاً يؤكد اختلافاتنا والتقاءاتنا من حول تاريخ قديم، ضارب في القدم. ترانا وفينا بهذا الوعد؟ إن حكمه يعود إلى القارئ، ويقع عليه، كذلك، أن يدفع بالنقاش من حيث يرى، بدوره، أنه ينخرط في هذا الضرب من التراسل. ولنكرر القول إنه تراسل كان قد انطبع بمشروع محتمل للنشر، وبسر بيِّن مكشوف. 2 يوليوز 1984 عزيزي عبد الكبير، لست أدري هل في هذه الساعة من النهار ? السادسة صباحاً ? من هذا الشهر يوليوز، من هذه السنة، هل بمقدوري أن أكتب أي شيء يكون ذا معنى، عن هذه العلامة الطباعية المسماة «علامة الوصل»، التي من من شأنها أن تصل بين اللفظتين «يهودي» و»عربي». وقد كان يجدر بي، من الناحية النحوية، أن أقتصر على كتابة «اللفظتين»... لكن خانتني كتابتي؛ فكأن كل واحدة من هاتين اللفظتين محدودة بلفظة ثالثة، تختفي وراء ستار أتصوره ملوناً بكل الألوان في الطيف، قديم قدم المعطف الذي كان يغطي ذلك السكير العجوز، نوحاً، الذي اضطرب لعريه أحد أبنيه على الأقل : سام، سلفنا المشترك، الذي تسمينا باسمه. إن هذه اللفظة الثالثة هي، في ما يبدو لي، التي تحدد مجالاً : لقد اندهشت كثيراً أن أرى اليهود، خلال حرب لبنان، يجرؤون أن القول ? من بين ما جاءوا به من التبريرات والتسويغات ? إنهم كانوا يتدخلون لحماية الجماعات المسيحية الفقيرة المضطهدة. واندهشت أن أقرأ لأحد الدعاة المؤرخين الإسرائيليين أن «العرب كانوا على الدوام يصدون اليهود عن مدينة القدس»... والحال أن العرب هم الذين أذنوا لهم بالإقامة فيها منذ أن كان استيلاؤهم على هذه المدينة، وأن البيزنطيين من طردوهم منها، والصليبيين من نزلوا فيهم تقتيلاً وتذبيحاً. لكن ماذا بعدُ... إننا صرنا، منذ بعض الوقت، نقرأ لبعض المجادلين العرب (وأفكر خاصة في ذلك الكدْس من المغالطات والهذيان التي يحفل بها كتاب إبراهيم أمين غالي عن «مصر واليهود ما قبل التاريخ»)، أن «معذبي المسيح» - اليهود بطبيعة الحال ? «هم اليوم، مثلما كانوا، وسيظلون إلى الأبد... خونة، ينبغي طردهم». فيكون قد حان الزمن الذي يتقابل فيه اليهود والعرب، ويقوموا بهجمة على مسيحيين متخيلين كانوا في الغرب، وهذا أمر لا ينبغي أن يغيب عن بالنا، مضطهِدين لأجمل الأجناس (جنس الضواري). وها هو اليهودي والعربي يشيران بالأصبع إلى بعضهما، وهما ينشدان ... : «ها هو الشرير!! ها هو الشرير!!!». إنها مفارقة غريبة. إنه انقلاب في التاريخ، واندحار لممثليه، المتعبين، وإن لم ينهكوا بعدُ، في الموضع من قاعة العرض التي تتسلى بجنون بتلك الالتواءات والتشنجات الزائغة المنحرفة، وذلك التقريظ للنزعة المسرحية المريبة. ولك أن تتصور إسحق وإسماعيل يغنيان بصوتين متخالفين ناشزين : «أنقذوا! أنقذوا! أورشليم/القدس باسم القلب المقدس!». سيكون مشهداً في غاية الهزل. وستكون السخرية هي الغالبة. وهب التي تسود. فهل ستدوم لوقت طويل؟ أم ستختفي تحت صياح المتفرجين الذين يقال لهم «صاحون وأهالي»؟ كالكهنة المربوطين. لست أدري هل وجد صوتي من يسمعه في هذا الصباح. لكني أجد شعوراً غريباً أن اللفظة التي تتسلل إلى هذه المواجهة التي عمرت خمسة عشر قرناً، هي اللفظة التي كانت صديقة لي تسميها «البهلواني». وعلى هذا الكلام البذيء، أنهي هذه الأسطر التي انبثقت لتقوم مقام الرسالة العالمة والرسمية التي كان في نيتي أن أكتبها. ودمت بخير جاك حسون ?? ?? ?? ?? 1